مقام الامام علي (عليه السلام) في ذي قار

أول مقام وأثر حط فيه الإمام علي (عليه السلام) رحله في العراق هو في ذي قار بعد أن توقف لإلتحاق جيش الكوفة به لبعدها ذهب إلى البصرة لمحاربة الناكثين أصحاب الجمل .

عن عمرو بن شمر، قال: سمعت جابر بن يزيد الجعفي يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) يقول: حدثني أبي، عن جدي (عليهما السلام) قال: لما توجه أمير المؤمنين (عليه السلام) من المدينة إلى الناكثين بالبصرة نزل بالربذة، فلما ارتحل منها لقيه عبد الله بن خليفة الطائي، وقد نزل بمنزل يقال له فائد فقربه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له عبد الله: الحمد لله الذي رد الحق إلى أهله، ووضعه في موضعه، كره ذلك قوم أو استبشروا به، فقد والله كرهوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ونابذوه وقاتلوه فرد الله كيدهم في نحورهم، وجعل دائرة السوء عليهم، والله لنجاهدن معك في كل موطن حفظاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

فرحب به أمير المؤمنين (عليه السلام) وأجلسه إلى جنبه، وكان له حبيباً وولياً، يسائله عن الناس، إلى أن سأله عن أبي موسى الأشعري، فقال: والله ما أنا واثق به، وما آمن عليك خلافه إن وجد مساعداً على ذلك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما كان عندي مؤتمناً ولا ناصحاً، ولقد كان الذين تقدموني استولوا على مودته وولوه وسلطوه بالأمر على الناس، ولقد أردت عزله، فسألني الأشتر فيه أن أقره فأقررته على كره مني له، وعملت على صرفه من بعد. قال: فهو مع عبد الله في هذا ونحوه إذ أقبل سواد كثير من قبل جبال طيئ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): انظروا ما هذا؟ وذهبت الخيل تركض، فلم تلبث أن رجعت فقيل له: هذه طيئ قد جاءتك تسوق الغنم والإبل والخيل، فمنهم من جاءك بهداياه وكرامته، ومنهم من يريد النفور معك إلى عدوك. فقال أمير المؤمنين: جزى الله طياً خيراً (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً).

فلما انتهوا إليه سلموا عليه، قال عبد الله بن خليفة: فسرني والله ما رأيت من جماعتهم وحسن هيئتهم، وتكلموا فأقروا والله عيني، ما رأيت خطيباً أبلغ من خطيبهم، وقام عدي بن حاتم الطائي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأديت الزكاة على عهده، وقاتلت أهل الردة من بعده، أردت بذلك ما عند الله، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى، وقد بلغنا أن رجالاً من أهل مكة نكثوا بيعتك، وخالفوا عليك ظالمين، فأتينا لنصرك بالحق، فنحن بين يديك، فمرنا بما أحببت ثم أنشأ يقول: بحق نصرنا الله من قبل ذاكم وأنت بحق جئتنا فستنصر سنكفيك دون الناس طراً بنصرنا وأنت به من سائر الناس أجدر .

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): جزاكم الله من حي عن الإسلام وعن أهله خيراَ، فقد اسلمتم طائعين، وقتلتم المرتدين، ونويتم نصر المسلمين.

وقام سعيد بن عبيد البحتري من بني بحتر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن من الناس من يقدر أن يبين بلسانه عما في قلبه، ومنهم من لا يقدر أن يبين ما يجد في نفسه بلسانه، فان تكلف ذلك شق عليه، وإن سكت عما في قلبه برح به الهم والبرم، وإني والله ما كل ما في نفسي أقدر أن أؤديه إليك بلساني، ولكن والله لاجهدن على أن أبين لك، والله ولي التوفيق. أما أنا، فإني ناصح لك في السر والعلانية، ومقاتل معك الأعداء في كل موطن، وأرى لك من الحق ما لم أكن أراه لمن كان قبلك، ولا لأحد اليوم من أهل زمانك، لفضيلتك في الإسلام، وقرابتك من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولن أفارقك أبداً حتّى تظفر أو أموت بين يديك.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): يرحمك الله، فقد أدى لسانك ما يكن ضميرك لنا، ونسأل الله أن يرزقك العافية ويثيبك الجنة.

وتلكم نفر منهم، فما حفظت غير كلام هذين الرجلين، ثم ارتحل أمير المؤمنين (عليه السلام) واتبعه منهم ستمائة رجل حتّى نزل ذي قار، فنزلها ألف وثلاثمائة رجل (1).

ومن كلامه في وجوب اتّباع الحق عند قيام الحجّة كلّم به بعض العرب، وقد ارسله قوم من أهل البصرة لمّا قرب منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فبيّن له من أمره معهم ما علم به أنّه علي الحقّ، ثم قال له: بايع.

فقال: إنّى رسول قوم، ولا أُحدث حدثاً حتّى أرجع إليهم.

فقال: أ رأيت لو أنّ الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط الغيث، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلي المعاطش والمجادب، ما كنتَ صانعاً؟

قال: كنت تاركهم ومخالفهم إليّ الكلأ والماء.

فقال: فامدد إذاً يدك.

فقال الرجل: فوَالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجّة عليَّ، فبايعته.

والرجل يُعرف بكُليب الجرمي.

عن كليب: لمّا قتل عثمان ما لبثنا إلّا قليلاً حتّى قدم طلحة والزبير البصرة، ثم ما لبثنا بعد ذلك إلّا يسيراً حتّى أقبل علي بن أبي طالب (ع) فنزل بذي قارن فقال شيخان من الحي: إذهب بنا إلى هذا الرجل فننظر ما يدعو إليه، فلمّا أتينا ذي قار قدمنا على أذكى العرب، فوَالله لدخل علي نسب قومي، فجعلت أقول: هو أعلم به منّي وأطوع فيهم.

فقال: من سيّد بني راسب؟

فقلت: فلان.

قال: فمن سيّد بني قدامة؟

قلتك فلان، لرجل آخر.

فقال: أنت مبلغهما كتابين منّي؟

قلت: نعم.

قال: أفلا تبايعوني؟

فبايعه الشيخان اللذان كانا معي وتوقّفت عن بيعته، فجعل رجال عنده قد أكل السجود وجوههم يقولون: بايع بايع.

فقال: دعوا الرجل.

فقلت: إنّما بعثني قومي رائداً وسأُنهي إليهم ما رأيتُ، فإن بايعوا بايعت، وإن اعتزلوا اعتزلت.

فقال لي: أرأيت لو أن قومك بعثوك رائداً فرأيت روضةً وغديراً، فقلتَ: يا قومي النجعة النجعة! فأبوا، ما كنت بمُستنج بنفسك؟

فأخذت بإصبع من أصبابعه وقلت: أُبايعك على أن أُطيعك ما أطعت الله، فإذا عصيتَه فلا طاعة لك عليَّ.

فقال: نعم. وطوّل بها صوته، فضربت على يده.

ثمّ التفتَ إلي محمد بن حاطب، وكان في ناحية القوم، فقال: إذا انطلقت إلى قومك فأبلغهم كتبي وقولي.

فتحوّل إليه محمد حتّى جلس بين يديه وقال: إنّ قومي إذا أتيتهم يقولون: ما يقول صاحبك في عثمان؟ فسبّ عثمان الذين حوله، فرأيت عليّاً قد كره ذلك حتّى رشح جبينه وقال:

أيّها القوم! كفّوا ما إيّاكم يَسأل.

قال: فلم أبرح عن العسكر حتّى قدم علي على أهل الكوفة فجعلوا يقولون: نرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا، وجعلوا يضحكون ويعجبون ويقولون: والله لو التقينا لتعاطينا الحق، كأنّهم يرون أنّهم لا يقتتلون. وخرجت بكتابّي علي فأتيت أحد الرجلين فقبّل الكتاب وأجابه، ودُللت على الآخر، وكان متوارياً، فلو أنّهم قالوا له: كليبن ما أذن لي، فدخلت عليه ودفعت الكتاب إليه وقلت: هذا كتاب عليٌّ وأخبرته الخبر وقلت: إنّي أخبرت عليّاً أنّك سيّد قومك، فأبى أن يقبّل الكتاب، ولم يجبه إلى ما سأله وقال: لا حاجة لي اليوم في السؤدد، فوَالله، إنّي لبالبصرة ما رجعت إلى عليّ حتّى نزل العسكر، ورأيت القوم الذين مع عليّ فطلع القوم(2).

وتخليداً لهذا المكان الذي تشرف بلثم أقدام أمير المؤمنين (عليه السلام) شيد مقاماً كبيراً يؤمّه مئات الزوار كل يوم وآلافاً في المناسبات يستذكرون فيه السيرة الكريمة العطرة لأمير المؤمنين (عليه السلام).

ويعتبر مقام الإمام علي (ع) في الناصرية من المواقع الدينية المقدّسة والأثرية والسياحية المهمة في المحافظة، شيد هذا المقام بعد مرور الإمام (عليه السلام) بهذا المكان أثناء توجهه إلى البصرة بعد قدومه من المدينة ماراً بالحجاز ثم الإقامة في ذي قار لإطفاء الفتنة في حرب الجمل حيث أقام في هذا المكان مدة ثلاثة أشهر كان فيها الكثير من الخطب ومن الحكم وكثير من الإصلاحات في المجتمع ومن هنا أتت أهمية هذا المكان.

أن تطوير المقام واتساعه بحلته الجديدة كانت بجهود فردية من قبل القائمين عليه والدعم المتواصل من قبل أحد المؤمنين وهو الحاج غانم جبار الزبيدي وفقه الله والذي كان له المشاركة الكبرى في إعادة بناء هذا الصرح المقدس حيث تبرع بأكثر من مليار دينار منذ عام 2003 ولحد اليوم.

يمثل هذا المقام في وقتنا الحاضر مدرسة يقدم من خلالها الدروس الدينية الاجتماعية والتربوية ويحتوي المقام على مصلين مصلى للنساء وآخر للرجال.

وقد صدر للباحث الإسلامي صباح محسن كاظم كتاب عنه بعنوان مقام الإمام علي عليه السلام في الناصرية. يتناول مسيرة الإمام إلى البصرة ونزوله في ذي قار.


(1) الطوسي، الأمالي، ص 71.

(2) ظ : تاريخ الطبري: 4/ 500، الكامل في التاريخ: 2/ 329، شرح نهج البلاغة: 14/ 21.