قطارة الامام علي (عليه السلام) في كربلاء

بين صخور كبيرة، كأنها سلسلة جبلية وعند إلتقاء طريق تلين أو صخرتين ثم قبة خضراء تعلو بناء مربع الشكل هو مكان (قطارة) الإمام علي (عليه السلام)، الذي أصبح مزاراً لكل من يريد أن يزور المنطقة.

المكان عبارة عن حفرة صغيرة، لا تزيد مساحتها عن متر مربع ويقطر الماء من هذه الصخرة والغريب أنه لا توجد في هذه المنطقة الصحراوية سوى هذه السنون الصخرية. ان هذه القطارة يقصدها الزائرون للتبرك بها، ويقع في وسط الصحراء غرب كربلاء بالقرب من بحيرة الرزازة، في شق صخري عميق ينزل إليه بأكثر من سبعين درجة، ولا يزال الماء يتدفق داخل وحول القطارة، ويشرب منه الزائرون ويتبرك به الناس، وهو ماء عذب رغم أن مستوى ماء القطارة أوطأ من مستوى بحيرة الرزازة المعروفة بملوحتها.

 

أصل خبر هذا الأثر

يذكر ابن شهرآشوب: عن أهل السير، عن حبيب بن الجهم وابي سعيد التميمي (وابي سعيد عقيصا) والنطنزي في الخصائص، والأعثم في الفتوح والطبري في كتاب الولاية بإسناد له عن محمد بن القاسم الهمداني، وابو عبد الله البرقي، عن شيوخه، عن جماعة من أصحاب علي (عليه السلام) أنه نزل أمير المؤمنين (عليه السلام) بالعسكر عند وقعة صفين (في أرض بلقع) عند قرية صندوداء. فقال مالك الأشتر: تنزل الناس على غير ماء؟! فقال: يا مالك إن الله سيسقينا في هذا المكان، احتفر أنت وأصحابك، فاحتفروا فإذا هم بصخرة سوداء عظيمة فيها حلقة لجين، فعجزوا عن قلعها وهم مائة رجل، فرفع أمير المؤمنين (عليه السلام) يده إلى السماء وهو يقول: طاب طاب يا عالم يا طيبو ثابوثة شميا كويا جانوثا توديثا برجوثا آمين آمين رب العالمين رب موسى وهارون، ثم اجتذبها فرماها عن العين أربعين ذراعاً، فظهر ماء أعذب من الشهد، وأبرد من الثلج، وأصفى من الياقوت، فشربنا وسقينا (دوابنا)، ثم رد الصخرة وأمرنا أن حثوا عليها التراب. فلما سرنا غير بعيد قال: من منكم يعرف موضع العين؟ قلنا: كلنا. فرجعنا مكانها فخفي علينا، وإذا راهب مستقبل من صومعته، فلما بصر به أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أنت) شمعون؟ قال: نعم، هذا اسم سمتني به أمي، ما اطلع عليه (أحد) إلا الله ثم أنت . قال: وما تشاء يا شمعون؟ قال: هذه العين وإسمه قال: هذا عين زاحوما وهو من الجنة، شرب منها ثلاثمائة وثلاثة عشر وصياً، وأنا آخر الوصيين شربت منه. قال: هكذا وجدت في جميع كتب الإنجيل، وهذا الدير بني على (طلب) قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها، ولم يدركه علم قبلي غيري وقد رزقنيه الله، وأسلم. وفي رواية أنه جب شعيب: ثم رحل أمير المؤمنين (عليه السلام) والراهب يقدمه حتّى نزل صفين، فلما التقى الجمعان كان أول من أصاب الشهادة، فنزل أمير المؤمنين (عليه السلام) وعيناه تهملان وهو يقول: المرء مع من أحب، الراهب معنا يوم القيامة.

وروى هذا الحديث ابن بابويه في أماليه: قال: حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رحمه الله قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، قال: حدثني أبو الصلت عبد السلام بن صالح، قال: حدثني محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن حبيب ابن الجهم. ورواه أيضاً صاحب ثاقب المناقب: عن سفيان الثوري، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن حبيب بن الجهم إلا أن في روايتهما زيادة على الأولى وبعض الاختلاف والمحصل حاصل في الروايات.

أما السيد الرضي في الخصائص فقد قال: روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أقبل من صفين مرّ في زهاء سبعين رجلاً بأرض ليس فيها ماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين ليس هاهنا ماء ونحن نخاف العطش. قالوا: فمررنا براهب في ذلك الموضع فسألناه: هل بقربك ماء؟ فقال: ما من ماء دون الفرات. فقلنا: يا أمير المؤمنين العطش وليس قربنا ماء. فقال: إن الله سيسقيكم فقام يمشي حتّى وقف في مكان (ضحضاح) ودعا بمساح، وأمر بذلك المكان فكنس، فأجلى عن صخرة، فلما انجلى عنها قال: إقلبوها، فرمناها بكل مرام فلم تستطعها، فلما أعيتنا، دنا منها، فأخذ بجانبها فدحا بها فكأنها كرة، فرمى بها فانجلت عن ماء لم ير أشد بياضاً، ولا أصفى، ولا أعذب منه، فتنادى الناس الماء، فاغترفوا وسقوا وشربوا وحملوا. ثم أخذ (عليه السلام) الصخرة فردها مكانها، ثم تحمل الناس فسار غير بعيد، فقال: أيكم يعرف مكان هذه العين؟ فقالوا: كلنا نعرف مكانها. قال: فانطلقوا حتّى تنظروا، فانطلق من شاء الله منا فدرنا حتّى أعيينا فلم نقدر على شيء، فأتينا الراهب فقلنا له: ويحك ألست زعمت أنه ليس قبلك ماء، ولقد استثرنا ها هنا ماء فشربنا واحتملنا. قال: فوالله ما ستثارها إلا نبي أو وصي نبي، قلنا: فإن فينا وصي نبينا (عليه السلام) ، قال: فانطلقوا إليه فقولوا له: ماذا قال له النبي حين حضره الموت. قالوا: فأتيناه، فقلنا له: إن هذا الراهب قال: كذا وكذا. قال: فقولوا له: إن خبرناك لتنزلن ولتسلمن. فقلنا له. فقال: نعم. فأتينا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلنا: قد حلف ليسلمن. قال: فانطلقوا فاخبروه أن آخر ما قال النبي الصلاة الصلاة، إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  كان واضعاً رأسه في حجري فلم يزل يقول: الصلاة الصلاة، حتّى قُبِض. قال: قلنا له ذلك، فأسلم(1).

وأورد هذه الكرامة البرسي قال: ان أمير المؤمنين (عليه السلام) لما سار إلى صفين أعوز أصحابه الماء فشكوا إليه الماء. فقال سيروا في هذه البرية واطلبوا الماء فساروا يميناً وشمالاً وطولاً وعرضاً فلم يجدوا ماء، ووجدوا صومعة وبها راهب، فنادوه وسألوه عن الماء، فذكر أنه يجلب إليه في كل اسبوع مرة واحدة، فرجعوا إلى أمير المؤمنين وأخبروه بما قال الراهب. فقال (عليه السلام): الحقوني، ثم سار غير بعيد، فقال: احفروا ها هنا، فحفروا فوجدوا صخرة عظيمة، فقال: اقلبوها تجدوا تحتها الماء، فتقدم إليها أربعون رجلاً فلم يحركوها، فقال (عليه السلام): إليكم عنها، فتقدم وحرك شفتيه بكلام لم يعلم ما هو، ثم دحاها بالهواء ككرة في الميدان. فقال الراهب – وهو ينظر إليه وقد أشرف عليه -: من أين انت يافتى فنحن أُنزل في كتابنا إن هذا الدير بني على البئر والعين وإنها لا يظهرها إلا نبي أو وصي نبي فأيهما أنت؟ فقال: أنا وصي خير الأنبياء، وأنا وصي سيد الأنبياء، وأنا وصي خاتم النبيين، (أنا) ابن عم قائد الغر المحجلين، أنا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. قال: فلما سمع الراهب نزل من الصومعة، وخرج ومشى وهو يقول: مد يدك فأنا أشد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأن علي بن أبي طالب وصيه وخليفته من بعده، قال: ثم شرب المسلمون من العين وماؤها أبيض من الثلج، وأحلى من العسل، فرووا منه، وسقوا خيولهم، وملؤا رواياهم إلى ديارهم(2).

هذه الروايات نستظهر مها ثلاث حقائق:

أولها: قدرة الإمام علي (عليه السلام) العلمية على معرفة الأشياء واستخدامه لمنطق الأرض وجيولوجيتها، بحيث عرف ان تحت هذه الصخرة ماء. وهذا يعني أن العلم مفتاح الحلول.

 

والأمر الثاني: أن الأرض كربلاء مرّ بها التأريخ بجميع حقبه وأن فيها مسيحيين ولهم فيها دير وهذا ما يؤكد وجود أقدم كنيسة في الشرق الأوسط هناك.

وثالثهما: أن العراق كان ممراً للعالم أجمع وأرض كربلاء أحد هذه الممرات إلى الشرق والغرب وأن الحياة كانت عظيمة وكبيرة.

وقد ذكر معجزة هذه العين الشاعر الكبير السيد الحميري (ت 173 هـ) في قصيدته البائية الذهبة المعروفة يقول:

ولقد سرى فيما يسير بليلة         بعد العشاء بكربلا في موكب

حتّى أتى متبتلاً في قائم         القى قواعده بقاع مجدب

    تأتيه ليس بحيث تلقى عامراً          غير الوحش وغير أصلع أشيب

     في مدمج زلق أشم كأنه              حلقوم أبيض ضيق مستصعب

فدنا فصاح به فاشرف ماثلاً           كالنسر فوق شظيه من مرقب

  هل قرب قائمك الذي بوئته         ماء يصاب فقال ما من مشرب

ألا بغاية فرسخين ومن لنا         بالماء بين نقا وقي سبب      

فثنى الأعنة نحو وعث فاجتلى        ملساء تبرق كاللجين المذهب   

قال اقلبوها انكم ان تقلبوا        ترووا ولا ترون ان لم تقلب

فاعصوصبوا في قلعها فتمنعت        منهم تمنع صعبة لم تركب         

حتّى إذا أعيتهم أهوى لها       كفا متى ترد المغالب تغلب

           فكأنها كرة بكف حزور      عبل الذراعين رحابها في ملعب

فسقاهم من تحتها متسلسلاً        عذاباً يزيد على الالذ الاعذب

  حتّى إذا شربوا جميعاً ردها         ومضى فخلت مكانها لم يقرب(3)


اكتشاف الأثر

في ستينيات القرن الماضي عرفت منطقة عين التمر، بعد العثور على قبر (أحمد بن هاشم) الذي يعود بنسبه إلى الإمام علي وتم أيضاً التأكيد بأن القطارة هي أحد كرامات الإمام علي وأطلق عليه: قطارة علي.

بعض المتمردين قاموا في سنة 2006 بتهديم هذا المشهد وطمره بالصخور وكذلك اقتلاع النخلة الملاصقة للقطارة والتي تعود هي الأخرى لمئات السنين.

رغم عدم إدراجها مزاراً يمكن أن يحظى برعاية الوقف الشيعي، حظيت قطّارة الإمام علي (عليه السلام) أو (القطّارة) كما يسميها أهالي كربلاء المقدسة – ببركات أمير المؤمنين كونها تمثل معجزة من المعاجز التي تحققت على يديه الكريمتين.

تقع القطّارة على بعد (15 كم) تقريباً إلى الغرب من مركز مدينة كربلاء، يوصلك اليها طريق معبّد بمسافة 3 كيلو متر تقريباً، يقع إلى يمين الشارع المؤدي لقضاء عين التمر، وما أن تدخل بذلك الطريق حتّى يفاجئك منحدر صخري هائل يتوسطه شق عميق، وفي أسفل النهاية الحرجة لهذا الشق تقع القبّة الصغيرة التي أنشأها على حفرة صغيرة، تعلوها صخرة يقطر منها الماء.

وتشير عدة وثائق تاريخية إلى هذا الأثر منها ما ذكره الشيخ المفيد رحمه الله في كتابه (الإرشاد)، وكذلك ما ذكره الشاعر (الحميري) الذي سكن هذه المنطقة في القرن الثالث الهجري بإحدى قصائده عن (قطارة علي) واعتبارها كرامة من كراماته (عليه السلام).

لكن هذا الموقع الذي يعد أثرياً وتراثياً يبدو عليه الحاجة الملحة للإعمار والبناء وتوفير أماكن راحة للزائرين حيث تتصف المنطقة عموماً بقساوة طبيعتها الصحراوية.

وعن تاريخ إعمار القطارة وبناء القبة الموجودة حالياً عليها، يقول الحاج محسن هاشم نايف، خادم القطارة: بدأنا العمل برعاية هذا المزار في عام 1996 حيث شيّدنا غرفة تحيط بالقطارة وسلّماً ينزل اليها من الأعلى كونها تقع في أرضية وادي ضيق وعميق، لكن مع حلول عام 2004 أقدمت عناصر إرهابية على هدم المكان.

 

استراحة القوافل

ان هذه العين تروي كل من يقطع الصحراء، وربما لم يكن أحد يعرف أنها (قطّارة) الإمام علي (عليه السلام) إلا في سبعينات القرن الماضي، وكان الرعاة يمرون بقربها لأنهم يدركون ان هناك ماء في المنطقة وهذه (القطّارة) تقطّر الماء من تحت الصخرة وتعيده إلى حوض تحتها، ولا أحد يعرف من أين أتي الماء لأنه لا ينقطع، وتشير الدلائل إلى أن المكان كان موحشاً وبالقرب من الصخرة كانت هناك نخلة وهي دليل الرعاة والمارين من القوافل والمسافرين وعابري السبيل.

وبعد مرور سنوات قليلة على سقوط النظام تم إكساء الطريق المؤدي إلى (قطّارة) الإمام (عليه السلام) وتم تشيد قبة إسلامية جميلة على المشهد فضلاً عن الخدمات الصحية والماء وغيرها من الخدمات مثل إنشاء حديقة تمت زراعتها بأصناف كثيرة من الأشجار، فضلاً عن أشجار النخيل، أما ماء السقي الذي يسقي المزروعات فقد تم حفر بئر ارتوازية لسقايتها.

دواء وشفاء وتبرك

في داخل عين الماء نصبت مقطورة كهربائية تسحب الماء إلى حوض خارجي يجمع فيه الماء، ويأخذ الزوار ما يريدون مجاناً للشفاء والتبرك، حيث حدث السيد خادم (القطّارة) فقال: ان الزوار تأتي لمقام و(قطارة) الإمام علي (عليه السلام) من كل مدن العراق للزيارة والتبرك، ومشاهدة هذه المعجزة الإلهية على يد الإمام علي (عليه السلام) وتأخذ ماءً كثيراً للشفاء من الأمراض وطلب الرزق والإنجاب، وقد استجاب الله (تعالى) ببركة الإمام علي (عليه السلام) للعديد من الزوار بهذا المكان المبارك. 


(1) خصائص أمير المؤمنين : ص36.

(2) الفضائل لشاذان: 104.

(3) ديوان السيد الحميري، ص 91، تحقيق: شاكر هادي شاكر، المطبعة الحيدرية، ط 1432هـ.