الفصل الثالث

العقيــدة

 

مفتتح الفصل

شعر العقيدة

 

اضطربت معالم الحياة الدينية قبيل ظهور الإسلام في بلاد العرب فتصدعت القيم الانسانية والعقائدية(1)، وكان بزوغ فجر الإسلام حدثا تاريخيا مهما في الجزيرة العربية، اخذ فعله في نفوس الناس ـ ولا سيما الشعراء ـ فعمل على تنقية عقيدة العرب في التوحيد من الشرك الذي شابها من قبل، ويعد زيد بن عمرو بن نُفيل(2)، وورقة بن نوفل(3) وغيرهما ممن مثلوا تلك العقيدة في اشعارهم بيد أنَّ فكرة التوحيد في زمن البعثة اصبحت فكرة ثابتة وواضحة في دين جديد قائم بذاته، ونبي مرسل يدعو الناس إلى هذا الدين، وصار لهذه المعاني حضور واسع في شعر من اسلم من الشعراء وفي مقدمتهم أبو طالب.

إنَّ مجيء الإسلام بمباديء جديدة خلق في نفوس الشعراء شعرا تلوح فيه تلك المباديء؛ لأنَّ الإسلام حفز الشعراء الذين استبشرت نفوسهم العبادة الحقة ودواعي النزعة الروحية الجديدة إلى التعبير عن ايمانهم بما يملكون من وسائل، وكان الشعر وسيلة هذا التعبير(4)، وكان أبو طالب السابق قبل غيره من الشعراء في هذا الباب، فقد انيط بشعره الملتزم الاسهام في موقف النصرة والمحاماة لصاحب الرسالة في خطاب تبليغي موجه إلى أبنائه وأخوته وعشيرته يحثهم على الذود عن الرسالة وصاحبها ومساندته ومؤازرته والدفاع عنه بمايستطيعون.

وفي شعر العقيدة لأبي طالب نصيب وافر منه، لأنه ألصق الفنون الشعرية بحياته وفي هذا النمط من شعره عبر عن المعاني الإسلامية الجديدة المتعلقة بالايمان بالله وحده وبرسله، والكتب المنزلة على رسله، ويوم البعث، والدعوة الى الوحيد، وتصديق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وببعثته الشريفة، وبما جاء به من تعاليم سماوية ارتسمت في شخصيته، والزام طاعته،واتباعه، وحمايته، ومناصرته، وبذل النصيحة في السير على هديه، والدعوة الى الصبر، وجهاد اعدائه، والوصية بنصرته إلى آخره.

 

التوحيد :

إنَّ مما يدين به المرء لوجود خالقه ووحدانيته أنه لا مثيل له،وليس له شريك في الملك، ومتفرد بصفات الكمال كلها، والايمان برسله، والكتب المنزلة عليهم، وهذه من المعاني التي تجسد عقيدة التوحيد، فالتوحيد الركن الأول للإسلام.

فعندما شرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بتبليغ دعوته لجميع الناس على مباديء الإسلام(5)، دعا عمه اباطالب، فكان الناصح في دعوته، والصادق في حديثه،والأمين في تبليغ رسالة السماء، فقال أبو طالب:

{من الكامل}

فلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ قبلُ أَمينا

مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دينا

لَوَجَدتَني سَمحاً بِذاكَ مُبينا(6)

 

وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِحٌ

وَعَرَضتَ ديناً قَد عَلِمتُ بأَنَّهُ

لَولا المَلامَةُ أَو أُحاذرُ سُبَّةً

كان أبو طالب على يقين من صدق الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة وبعدها، ومعرفته بأفضلية الدين الإسلامي على غيره من الأديان؛ لأنه يتوافق مع ملة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) التي عليها أبو طالب وأهله، ومما لاشك فيه أن أبا طالب اطلع على عقائد النصارى واليهود في رحلاته الى الشام واختلاطه باهلها، وبأهل خيبر وتيماء من اليهود، بمعنى ان معرفته لافضلية الإسلام نابعة من معرفة صادقة، بيد أن خشية أبي طالب ملامة قريش جعلته يكتم إسلامه ولا يظهره، وكأنه قطع الطريق على من يلومه، وإلا فإنه كان مفصحا عما اعتنق من الدين الجديد، وله علم ودراية بتعاليمه ومبادئه، ولذلك فضل الدين الإسلامي على غيره من الأديان، فافصح بعقيدته الصادقة عنه، والتصديق بصاحب الدعوة، وهما حقيقتان من حقائق الايمان.

وأمسى أبو طالب معلناً توحيده بالله وحده لا شريك له، وهو يهتف:

{من الوافر}

هُوَ الوَهّابُ وَالمُبدي المُعِيدُ

وَمِن تحتَ السَماءِ لَهُ عَبيدُ(7)

 

مَليكُ الناسِ لَيسَ لَهُ شَريكٌ

وَمَن فوقَ السَماءِ لَهُ لَحَقٌّ

جمع أبو طالب السماوات والارض بتوحيدها لله، والاعتراف بربوبيته، فعبودية الجميع تجسد التوحيد بمعانيه كلها.

وفي النص أكثر من شاهد على توحيد أبي طالب ففي قوله : «مليك الناس ليس له شريك»، فهو يخلع انداد الجاهلية من دون الله جميعها، والله متفرد في الملك ومتفرد بكمال صفاته «المليك، والوهاب، والمبدي، والمعيد» فعظم الشاعر اسماء الله بذكر صفاته، فهو المليك الغني عن العباد وعن جميع المخلوقات، وهو الوهاب الوافر العطاء، والمبديء الخلق ابتداءً والمعيد المنشيء خلقه نشأة أخرى بعد الموت، وفي ذكر الصفتين المبديء والمعيد ايماءتان الى حقيقة الايمان بالبعث بعد الموت، وثمة شيء اخر أفصح عن ايمان أبي طالب يوثقه شعره، وهوحقيقة العبودية لله وحده فكل ما في السماوات ، وما في الارض خاضع ذليل منقاد لصاحب الملك، وهذه من المعاني الجديدة التي لم تكن معهودة قبل الإسلام.

ويؤكد أبو طالب توحيده لله تعالى عندما مضى إلى امره خلاف قريش فيما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) واجتماع قومه على عداوته وخلافه(8) بعد أن شاع الاسلام، فقال:

{من الطويل}

فو اللهِ لولا اللهُ لاشيءَ غيرُهُ

 

لأصبحتُمُ لا تملكون لنا سربا(9)

أخذ ابوطالب على نفسه رفع شعار التوحيد في مخاطبة قريش فقال: «فوالله لولا الله لا شيء غيره» كلمة قالها بوجه مشركي قريش ليحثهم عليها، وللاقرار بها، وهي تومىء الى عقيدة التوحيد إيماءً صريحاً واضحاً.

ولأبي طالب أثر فعال في حركة الدعوة الإسلامية للخروج بها من مكة إلى الحبشة ويظهر بصورة جلية في الأبيات التي بعثها إلى ملك الحبشة يحضه فيها على حسن جوار المهاجرين المسلمين من مكة إليه(10)، ويدعوه إلى اعتناق الدين الإسلامي الجديد لتوحيد الله، وتصديق نبيه، وما نزل عليه من كتاب الله الذي يضارع ما أنزل على النبيين: موسى وعيسى عليهما السلام وما نزل على النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يقرأه اليهود في توراتهم والنصارى في انجيلهم، فهو دين الهدى الناطق بالصدق لا ريب فيه، فقال:

{من الطويل}

أَتَعلم مَليكَ الحُبـشِ  أَنَّ مُحَمَّـداً
أَتى بِهُدىً مِثلَ الَّذي أَتَيا بِه
وَإِنَّكُمُ تَتلونَهُ في كِتابِكُم 

فَلا تَجعَلوا للهِ نِدّاً وَأَسلِموا

 

وزيرٌ لِمـوسى وَالمَسيحِ بنِ مَــريمِ؟

فكُلٌّ بِأَمرِ الله يَهدي وَيعْصِمُ
ِبصِدقِ حَديثٍ لا حديثِ التَّرَجُّمِ
فإِنَّ طَريقَ الحَقِّ لَيسَ بِمُظلِمِ(11)

 

بيَّن أبو طالب جملة من فضائل الإسلام فدين محمد (صلى الله عليه وآله) قد بشرت به الكتب السماوية، فكان احبار اليهود، ورهبان النصارى يترقبون ظهوره، وبشَّروا ببعثة النبي المرتقب بالشواهد والدلائل والآيات والمعجزات، فكانت وثيقة لصحة نبوته الشريفة، والكتاب المنزل عليه من عند الله للحقائق التي تضمنتها الكتب السماوية التي اوحى الله بها إلى النبيين: موسى وعيسى 8 وأول شيء صدع فيه رسول الله في تبيلغ رسالته هو التوحيد، ونفي عبادة الانداد من دون الله، لأن الله خالق كل شيء، له ما في السماوات، وما في الارض، فمن حقه ان تكون العبادة خالصة له وحده بلا شريك.

وعقيدة أبي طالب في الايمان بالله لا تنفك عن عقيدته في الايمان برسله، وتصديقه وتأييده لهم جميعا، فلا فرق بينهم؛ لأن مقتضى الايمان واحد، وواجب على كل مسلم بما اكدته الشريعة الإسلامية، فضلا عن ان عقيدته تلزمه بان يحث الناس على اتباع منهج الحق؛ لأنه طريق مشع بنور الهداية بعد ان اكتنفت غياهب الظلام في العقيدة الجاهلية.

ويومض البيت الرابع إلى عقيدة النصارى التي تجعل المسيح ابنا لله(12) وان تبني أبي طالب دعوة ملك الحبشة لاعتناق الدين الإسلامي الجديد وتقديمه الحجة والبرهان من كتب النصرانية نفسها، لها اثرها العميق في نفس النجاشي حتى اعلن إسلامه(13).

 

التصديق:

إنَّ تصديق الرسول بكل ما يتحدث به من وحي السماء وتأييده هو الركن الثاني للإسلام، فمدح أبو طالب صدق نبي الله (صلى الله عليه وآله) في شعره إلى جانب موقف المشركين المنكرين لدعوته بما جاء من صدق القول المنزل من عند الله، فقال:

{من المتقارب}

وقَوْلٍ لأَحْمَدَ : أنتَ امرُؤٌ
وإنْ كانَ احمدُ  قد جاءهم

 

خَلُوفُ الحديثَ ضَعيفُ السَّبَبْ
بِحَقٍّ ولم يَأتِهم بالكَذِبْ(14)

 

وعندما آذن الله للرسول بنشر دعوته للاقربين من بني هاشم وعبد المطلب، ورفع كلمة الحق بينهم كذبوه، وعابوا عليه دينه، ومن عشيرته الاقربين عمه أبولهب، وكان ذلك الأمر في بداية الدعوة الإسلامية، فاشاع في سوق ذي المجاز(15)، بانه كذاب، فانتفض أبو طالب باعلان صدق مقال ابن أخيه وانه رسول من الله، وقرآنه صادق منزل من ذي العزة، فأنشد:

{من البسيط}

والصادقُ القِيلِ لا لهوٌ ولا لَعِبُ

عليكَ تنزلُ من ذي العزّةِ الكُتُبُ(16)

 

أنتَ الامينُ امينُ اللهِ لا كَذِبُ

أنتَ الرسولُ رسولُ اللهِ نعلمُهُ

إنَّ تركيز أبي طالب على صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحقق له امرين: الأول، أنه يحرص على تذكير قريش بهذا اللقب (الصادق الأمين) الذي عرف به المصطفى في الجاهلية، فما عدا مما بدا، فهم يُصدِّقون قبل، ويُكذِّبون بعد، والثاني انه صادق حقا كما يؤمن هو والمسلمون بكــل ما جــاء بـه ، فأومأ في قوله : «أنت الأمينُ أمينُ اللهِ لا كذب، وأنت الرسولُ رسولُ الله نعلمه» باليقين الذي لايقبل الشك على إيمانه بالله، وان ابن أخيه الصادق الأمين مبعوث من عند الله؛ لأن أبا طالب آمن بغيب السماء المبشرة ببعثته قبل ان يبعث في الوقت الذي كان قومه يعبدون الأصنام:

{من الطويل}

يصلُّون للأوثانِ قبلَ محمدِ(17)

وبالغيبِ آمنّا وقد كان قومُنا

وهذا دليل موثق من شعر أبي طالب يؤكد إيمانه بغيب الله بما أخبر به، واطلع عليه، واعتقد به، معلناً تصديقه ببعثة النبي المنتظر.

ولما قعدت قريش برسول الله (صلى الله عليه وآله) في القبائل بالموسم وزعموا أنَّه ساحر أقسم أبو طالب جهد ايمانه بان ابن أخيه ليس ساحرا ولا كاذبا، وما قالته قريش زورا وبهتانا، فقال:

{من الكامل}

كذبُوا وربِّ الراقصاتِ الى الحَرَمْ
وهو الأمينُ على الحرائبِ والحُرَمْ ومضتْ مقالتُهم تسيرُ إلى الأُمَمْ(18
)

زعمتْ قريشٌ أنَّ احمدَ ساحرٌ

ما زلتُ أعرفُهُ بصدقِ حديثِهِ

بَهَتُوهُ لا سُعِدوا بِقَطْرٍ بعدما

وأبوطالب ما زال يعرف صدق حديث ابن أخيه المعهود، فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) صادقا وظل على صدقه وهو امين على ما أئتمنه على ماله وحريمه، فالصدق والامانة كلاهما من صفات الانبياء يريد انهما من صفات نبي الله محمد (صلى الله عليه وآله).

ولما انتشرت دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لتوحيد الله في صفوف قريش «اشتد اذى أبي جهل بن هشام للنبي (صلى الله عليه وآله) وعناده له، قال أبو طالب له: متهددا، وبالحرب متوعدا، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولدينه محققا ومعتقدا» (19):

{من الكامل}

فتميّزوا غيظاً به وتقطَّعوا

سيقومُ بالحقِّ الجليِّ ويصدعُ

زالت جدودُك تستخفُّ وتظلعُ

وعنادَه من أمرهِ ما تسمعُ(20)

صدقَ ابنُ آمنة النبيُّ محمدٌ

إن ابنَ آمنةَ النبيَّ محمداً

فاربعْ أبا جهلٍ على ظلَعٍ فما

سترى بعينكُ إن اردتَ قتالَهُ

سجل الشاعر اعلانا اخر بصدق نبوة ابن أخيه في شعره: «صدق ابن آمنة النبي محمدا»، ويؤكد تكرارا «ان ابن آمنة النبي محمدا» وقد جاء بالحق الواضح، وصدع بما امر الله تعالى بدعوته، وركز أبو طالب على نسب النبي إلى أمه؛ ليؤكد حقيقة، وهي أن نسبه من طرف أبيه معروف، اما ذكر نسب أمه، فربما أراد به أن يستميل أهلها إلى ابن أختهم، فضلا عن شرف نسبها الذي يفخر به.

وعقيدة الشاعر الراسخة في الايمان بالله ورسوله، كانت دافعا لان يتحدى صناديد الشرك، ومنهم أبو جهل الذي كان يدعى أبا الحكم في الجاهلية، فسماه الرسول(صلى الله عليه وآله) أبا جهل، لجهله ومكابرته في عدم اتباعه، وها هو أبو طالب يستعمل الاسم نفسه، فينهاه عن الحاق الأذى برسوله، ومن عناده في قتاله؛ لأن النبي محفوف برعاية الله وتأييده ونصرته.

ومما يلحظ أن الشاعر وقف بوجه أبي جهل لا لعصبية ابن أخيه وانما بصدق دعواه؛ لذلك ركز على صدق دعوته ونبوته، والحق الذي جاء به، وهنا تغيير فيما كان ساريا بين العرب من عصبية النسب إلى عصبية العقيدة.

ومن دلائل التصديق بالله ورسوله:

 

ـ أولاً: المعجزة :

أيَّد الباري تبارك وتعالى الرسل بالمعجزات التي تؤكد صدق نبوتهم، فالمعجزة سمة مقترنة بالانبياء والمعجز يجريه الحق على يد الرسل اقناعا للمعارضين، وتأييداً لدعوتهم، «وشاء الله ان تكون معجزة كل نبي من جنس ما يبرع به قومه؛ لكي تؤثر في نفوسهم، وتستولي على عقولهم، فيسرعوا بالتصديق، ويبادروا إلى الايمان وهو ما يسعى إليه كل نبي مرسل» (21)، فكانت المعجزات دلالة واضحة وبرهانا ساطعاً على الايمان بصدق النبوة.

ومن المعجزات التي شاهدها أبو طالب(22)، واشاد بها لابن أخيه الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) المنزل عليه القرآن المجيد من الله العزيز الذي لا تدركه الابصار، فما نُزّل عليه من سورة «صاد»، وسور «حاميم» من العجائب التي يستأنس بها القلب، ويرتاح لها الفؤاد، فتستحق الاكبار والتعظيم فقال:

{من البسيط}

مُنَزَّلٍ في كتابِ اللهِ معلومِ

ممّا تنَزَّلُ في صادٍ وحاميمِ

فيه بصائرُ من حقٍّ وتعظيمِ(23)

 

وقد أتانا بحقِّ غيرِ ذي عوجٍ

فيه عجائبُ يرتاح الفؤادُ لها

من العزيزِ الذي لا شيءَ يدركُهُ

إنَّ نزول القرآن الكريم على النبي محمد(صلى الله عليه وآله) معجزة عقلية تحدى بها العرب جميعا وهم اهل الفصاحة والبيان ،ولا سيما سورة «ص» التي تفتتح بالحرف نفسه، والسور التي تضمنت الحرفين (حاميم) التي تفتتح بها السور: غافر، وفصلت، والشورى، و الزخرف، والدخان، والاحقاف، على الترتيب القرآني و«الحواميم ديباج القرآن» (24) ويسمين عرائس القرآن(25)؛ لفضلهن، وهذه دلائل جلية على صدق ما جاء به النبي من الله تعالى، ليمضي في تبليغ رسالته في دعوته الى التوحيد، وازالة ظلام الشرك والوثنية من الفكر الجاهلي .

وأفصح أبو طالب عن معجزة حسية حصلت لابن أخيه قبل بعثته الشريفة عندما اصاب القحط في مكة، وقد استحضرها وهو في حصار الشِّعب ساعة نظم القصيدة اللامية «التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره انه غير مسلِّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا تاركه لشيء أبداً حتى يهلك دونه» (26).

فببركة وجه ابن أخيه استمطر الغمام، وهو ملجأ الأرامل والأيتام، يأتي إليه فقراء عشيرته من آل هاشم، فيكونوا في نعمة تزيد عليهم حتى يغدقوا بها على غيرهم، فقال أبو طالب:

{من الطويل}

ربيع اليَتامى عِصمَةٌ لِلأَرامِلِ

فَهُم عِندَهُ في نعمَةٍ وَفَواضِلِ(27)

 

وَأَبيَضَ يُستَسقى الغَمامُ بِوَجهِهِ

يَلوذُ بِهِ الهُلاكُ مِن آلِ هاشِمٍ

إنَّ من ارهاصات النبوة رعاية الله تعالى للمصطفى وهو صغير ما روي ان القرشيين شكوا إلى أبي طالب القحط في مكة، فقالوا: «يا أبا طالب، اقحط الوادي، واجدب العيال، فهلمَّ واستسقِ، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دُجن تجلت عنه سحاب قثماء، وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب فالصق ظهره بالكعبة ولاذ باصبعه الغلام، وما في السماء قزعة فاقبل السحاب من ها هنا وها هنا واغدق واغدودق وانفجر له الوادي واخصب البادي والنادي» (28).

ولا يخفى وقع معنى البيتين في نفس المصطفى (صلى الله عليه وآله) موقعا حسنا فيما تلمح اليه الرواية: ان اهل المدينة اصابهم قحط شديد ـ بعد بعثته ـ فاستغاثوا بالرسول فاستسقى لهم، فما لبث ان جاء المطر، ما خشي من أهل المدينة من الغرق، فشكو ذلك الى رسول الله(صلى الله عليه وآله) (29) فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل. فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بدت نواجذه، ثم قال: لله دُّر أبي طالب! لو كان حيا لقرت عينه. من ينشدنا قوله؟ فقام علي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله، لعلك اردت: وابيض يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهه) قال: اجل ، فأنشده أبياتاً ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر» (30) فقول رسول الله: «لله در أبي طالب...» تصريح منه على أن أبا طالب لو رأى مشهد استسقاء رسول الله، لخالجه شعور الحبور والسرور والفرح ولقرت عيناه، لانه مطمئن القلب ، ثابت العقيدة على يقين ان ابن أخيه له وافر البركة، وشرف المنزلة، والمكانة السامقة، وجليل الاثر عند ربه، فمنحه هذه الكرامة الجليلة، فمما لا شك فيه أنَّ استذكار الرسول لحادثة الاستسقاء القديم بحضور أبي طالب يؤكد تصديقه به قبل البعثة، فمدحه بالاستسقاء بوجهه.

ومن الآيات ما جاء في خروج النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهو صغير مع عمه أبي طالب الى الشام، آية الغمام التي اظلته فسجلها أبو طالب في شعره:

{من الطويل}

يوقِّيه حَرَّ الشمس ظلُّ غمامِ

الى نحرِهِ والصدرِ أيَّ ضُمامِ

...

وليس نهارٌ واضحٌ كظَلامِ(31)

 

فلمّا رآهُ مقبلاً نحو دارِهِ

حنى رأسَه شِبْه السجود وضمَّهُ

...

فذلك من اعلاِمهِ وبيانِهِ

رأى الراهب صفات وعلامات استدل بها على أنه النبي الموعود في كتبهم، شاهد غماما تظله من بين القوم، فإذا وقف وقفت واذا سار سارت، فنظر الى الغمام حتى اظلت الشجرة التي تحتها ومالت اغصان الشجرة عليه، فأدرك الراهب أن هذا الحدث العجيب لا يكون إلا لنبي مرسل فنزل من صومعته(32)، ووقف امام النبي محمد منحني الرأس معظما اياه، ثم ضمه إلى نحره، وصدره جذلا ببشارة النبوة، ودوَّن أبو طالب هذه الحادثة في شعره عندما بُعِث ابن أخيه، ليؤكد أن الله تعالى كان يرعاه من صغره بهذه الدلالة، ويدعو من شهد معه هذه الحادثة ليتذكرها فيشهد بذلك، ولا نستبعد ان هذه الحادثة كانت معروفة عند قريش قبل البعثة فأبو طالب يعيدها على مسامع قريش وكأنَّه يدعوهم إلى الايمان بالنبوة بعد أن آمنوا بهذه الحادثة التي طرقت مسامعهم.

إنَّ تدوين أبي طالب لهذه المعجزة في شعره، وجعلها من العلامات الدالة على نبوة ابن أخيه دليل منه على تصديقه، ومما يؤكد يقين أبي طالب في التصديق هو إخبارُ الراهب بحيرا له عن نبوة ابن أخيه، وذكر البشائر الدالة عليه وهو يوصيه «لاتخرجن بابن اخيك إلى ما ههنا فإنَّ اليهود أهل عداوة، وهذا نبي هذه الامة، وهو من العرب، واليهود تحسده تريد أن يكون من بني اسرائيل، فاحذر على ابن أخيك» (33)، وما كان كلام الراهب إلا خشية على النبي من العيون التي تترقبه حسداً على نبوته.

ومما لاشك فيه أن الراهب بحيرا قد قرأ في الكتب السماوية ان هذا الزمان زمن بعثته (صلى الله عليه وآله) . وأشار أبو طالب الى آية اخرى، فابن أخيه الأمين والحبيب المصطفى بين عباد الله، والمهاب بينهم، معلم بخاتم النبوة، فالجاهل فيه ليس كالعالم به، فقال:

{من الطويل}

بخاتمِ ربٍّ قاهرٍ للخَواتِمِ

وما جَاهلٌ في فعله مثل عَالمِ(34)

 

أمينا حبيباً في البلادِ مُسوَّماً

يرى الناسُ برهاناً عليه وهيبةً

فخاتم النبوة آية موثقة بالشاهد والدليل وبرهان واضح على صدق نبوة ابن أخيه، ويريد الشاعر أن يدعو قريشا إلى الايمان به وتصديقه ونصرته(35)، فقال وهو يذكر صفة النبي (صلى الله عليه وآله) المعلم بخاتم النبوة:

{من البسيط}

ذي خاتمٍ صاغه الرحمنُ مختومِ(36)

 

فآمنوا بنبيٍّ ـ لا أبا لكُمُ ـ

وذكر أبو طالب معجزة أُخرى لابن أخيه ـ بعد بعثته ـ وهي «أن أبا جهل بن هشام جاء الى النبي (صلى الله عليه وآله) ومعه حجر يريد أن يرميه به إذا سجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فرفع أبو جهل يده فيبست على الحجر، فرجع وقد التصق الحجر بيده، فقال له اشياعه من المشركين : أجبنت؟ قال: لا ولكني رأيت بيني وبينه كهيأة الفحل يخطر بذَنَبهِ» (37) فأنشد أبو طالب ابياتاً متعجباً وموثقاً لهذه المعجزة في القصيدة التي حذر فيها قومه من انكارهم لبعثة رسول الله(38) :

{من المتقارب}

عَجائِبُ في الحَجَرِ المُلصَقِ

إِلى الصّابِرِ الصَادِقِ المُتَّقي

عَلى رغمَِ ذا الخائنِ الأَحمَقِ

بغَيِّ الغُواةِ وَلَم يَصدقِ(39)

 

وَأَعجَبُ مِن ذاكَ مِن أَمرِكُم

بِكَفِّ الَّذي قامَ من حِينِهِ

فَأَيبَسَهُ اَللَّه في كَفِّهِ

أُحَيمِقِ مَخزومِكُم إِذ غَوى

فهذه الأبيات أقرب إلى الهجاء مع دعوة التصديق التي يدعو اليها أبو طالب فهو يذكر أبا جهل بما وقع له ورواه بنفسه، وهذا ادعى للتصديق، فان لم يُصدِّق بما وقع له فهو احمق، وتفصح الابيات أيضاً عن التصديق برسول الله(صلى الله عليه وآله) بالمعجزة التي شرف الله رسوله، وخصه بها، تعظيما لمكانته عنده، وتأييدا لنصرته.

ومما تقدم يتبين: أن ذكر أبي طالب العلامات والآيات والمعجزات التي حركت شاعريته تنم عن غاية في نفسه، وهي دعوة عشيرته وقومه لتصديق رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وليكونوا جميعا صفا واحدا تحت راية الإسلام في نصرة حاملها، وتأييده واتباعه، ومن ثمَّ شمول دعوته البلاد العربية عامة ، ومن حولها، وكان لسان أبي طالب جهادا شعريا لاستجلاب قريش إلى الدعوة الإسلامية، وهو يقدم الدلائل والبراهين المشهودة على صدق نبوة رسول الله(صلى الله عليه وآله) .

 

ـ ثانياً: النصرة:

النصرة منقبة خُلقية جليلة يثنى عليها الرجل الكريم الفاضل في قومه يرى من الواجب عليه حماية من يطلب منه الجوار ونصرته، فجذورها متأصلة في سجية العربي المجبول على الغيرة، وحفظ الحرمة ، وصيانة العرض، وتعد من فضائل العربي التي تستحق الاشادة والافتخار، فمنعة المنصور منعة للناصر، والحاق الأذى به يتبعه إلحاق الأذى له، وتمثل صورة حية وصادقة للحياة الاجتماعية عند العرب، وقانونا مستمدا اصوله من التضامن الاجتماعي بينهم، ونجد اشارات ثرة لهذه الفضيلة تغنى بها الشعراء قبل الإسلام(40).

اما في ظل الإسلام فاتخذت طابعا دينيا في أكثر الاحايين لمساندة الدعوة الإسلامية، ويتبنى أبو طالب نصرة ابن أخيه التي كان مبعثها الاعتقاد السليم بما جاء به النبي المبعوث(صلى الله عليه وآله) ؛ ولان حمايته حق مفروض عليه، وواجب موكل اليه اسنده والده عبد المطلب له؛ لأن نبوته بشرت بها الكتب السماوية القديمة التي كان والده قد قرأها، وانبأه بها زد على أنَّ النصرة تكفلتها عادات المجتمع العربي وتقاليدهم، فأعلن أبو طالب نصرته وحمايته لابن أخيه ليجهر بدعوته المباركة «اخرج ابن أبي فإنك الرفيع كعبا؛ والمنيع حزبا، والأعلى أبا، والله لا يسلقك لسان إلا سلقته ألسن حداد، واجتذبته سيوف حداد، والله لتذلنَّ لك العرب ذل البهم لحاضنها، ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعا ولقد قال: إن من صلبي لنبياً لوددت اني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به» (41)، وافتخر أبو طالب بشعره بنصرته لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وحمايته له عندما اضحى في قريش اتجاهان متضادان: الاول، اتجاه المسلمين في سريان المد الإسلامي بين رجال قريش والثاني، اتجاه المشركين المضاد والثائر على المد الإسلامي، وبات أبو طالب يخشى أن يعلن هذان الاتجاهان حرباً لايعرف عقباها، ويأبى الرسول إلا ان يمضي في تبليغ رسالة السماء بقوة وعزم وصرامة.

فلما رأى أبو طالب قوة ابن أخيه وايمانه، وثبات عزيمته، واصراره على المبدأ قال له يطيب خاطره، ويوعده بالنصرة مرة أُخرى «أمضِ على امرك وافعل ما احببت فوالله لا نسلمك لشيء ابدا» (42) وأنشد:

{من الكامل}

حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دفينا

وَأبشِرْ وقرَّ بذاكَ منكَ عُيونا(43)

 

وَالَلَّهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم

امضِ لأَمرِكَ ما عَلَيكَ غَضاضَةٌ

يعد أبو طالب الركيزة الأولى لدعائم الإسلام في نصرته لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وحمايته ومؤازرته له طول مدة البعثة حتى مماته، فقد فداه بنفسه وحافظ على سلامته بقوة، وكان يحنو عليه حنان المشفق على ولده المحب له، فوجَّه أبو طالب شعرا إلى خصوم رسول الله(صلى الله عليه وآله) مهدداً ومتوعداً، على الرغم من ان المواجهة لم تقع بين الطرفين قال:

{من المتقارب}

بِبيضٍ تَلالا كلمع البُروقِ

حــــــذارَ البــوادر وَالخَـــنفَقيقِ
حِمايَةَ حامٍ عَلَيهِ شَفيقِ

دَبيبَ البِكارِ حذارَ الفَنيقِ

كَما زارَ لَيثٌ بِغيلٍ مَضيقِ(44)

 

نَصَرْنا الرَّسولَ رَسولَ المَليكِ

ِبضَربٍ يُذيبُ بدونَ التهابٍ

أَذُبُّ وَأَحمي رَسولَ المَليكِ

وَما إِن أَدُبُّ لأعدائِهِ

وَلَكِن أَسيرُ لَهُم سامِتاً

إنَّ نصرة أبي طالب لابن أخيه اساسها الهداية، ونصرة الدين، واعلاء كلمة الحق التي بُعث المصطفى من أجلها وهو يردد «نصرنا الرسول رسول المليك، أذبُّ وأحمي رسول المليك» فنصرة أبي طالب متأتية من التصديق برسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والاقرار بانها رسالة سماوية، وهاتان حقيقتان من حقائق الايمان بالله، والتصديق برسول الله، والتسليم بهما.

ولما رأت قريش نصرة أبي طالب لرسول الله وحماية قومه عنه، جاء نفر من قريش لأبي طالب يسامونه على ابن أخيه، فيعطونه عمارة بن الوليد؛ ليكون نصره وميراثه له على ان يدفع إليهم ابن أخيه، فغضب أبو طالب ونهرهم، فهموا بقتل نبي الهدى(45).

فخاطبه رجال قريش حين طلبوا منه النبي (صلى الله عليه وآله) ليقتلوه على ان يعطوا بدله ولدا من عندهم إذ سألوه ان يتنازل عن مناصرة نبي الهدى؛ ليكون في نصرتهم، وطالبوه بتسليم احمد لهم على ان يعطونه مكانه ولدا آخر منهم، بيد أنَّه لا يحفل بما يقولونه، فالله إلهه مانعه على من يريد الكيد برسوله من بني لؤي بن غالب، فلايعطي ابن أخيه ليقتلوه، ويرعى ابنهم ليتبناه، فهذا لن يكون ابدا، ولن ينقض عهداً قد قطعه على نفسه في تربية أحمد ورعايته وحمايته، فقال:

{من الطويل}

وَغالِبْ لَنا غَلابَ كُلِّ مُغالِبِ

بَنِياً وَلا تَحفل بِقَولِ المُعاتِبِ

عَلى كُلِّ باغٍ مِن لُؤَيِّ بنِ غالِبِ

واكفل إبناً لابنِ عَمَّي وصاحبي(46)

 

يقولونَ لي: دَعْ نَصرَ مَن جاءَ بِالهُدى

 وَسَلِّم إِلَينا أَحمَداً وَاِكفلن لَنا

فَقُلتُ لَهُم: اللَهُ رَبّي وَناصِري

 أأجْزِركم ابني وأُخفِرُ ذِمَّتي

وأبو طالب صاحب عقيدة راسخة في الايمان بالله ينبهنا عليها شعره: «يقولون لي: دع نصر من جاء بالهدى» حال قوله، وليس حال قول المشركين، فاقرَّ بلسانه بان رسول الله الدليل الهادي إلى اخراج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الهداية والايمان.

وأبو طالب صاحب قدم ثابتة في الإسلام يقول: «الله ربي وناصري» فالله ملاذه ومانعه وحاميه من شرور الناس، ومحمد (صلى الله عليه وآله) نبي الهدى كافله وناصره، فنفسه دونه في الملمات، لاظهار دعوته ونشرها في أرجاء بلاد الله.

وأبو طالب ليس ناصرا لابن أخيه فحسب، وانما متبنياً لدعوته فيخاطب أخاه أبا لهب، وبني هاشم جميعا، وصديقه أبا عمارة، وآل بيته كلهم داعيا لنصرة ابن أخيه ولدعوته؛ لصلة الرحم، ولقرابة النسب، فيأمرهم بان يكونوا له يدا واحدة في اشهار سيوفهم بوجه أعدائه دفاعا عنه وعونا له، فإن لم يفعلوا، فلم يبقَ له سوى خيار واحد وهو أنَّه سينصره، ويدافع عنه الذين يخذلونه بصولته :

{من الخفيف}

وَبَني هاشِمٍ جَميعاً عِزينا

وانِ طُراً وأسْرَتي اجمعينا

مَ سناءً وكان في الحشر دِيْنا

ري وَمُجْرٍ بِقَولَتي الخاذِلينا

نى وَكونوا لَهُ يَداً مُصلِتينا(47)

قُل لِعَبدِ العُزّى أَخي وَشَقيقي

وصديقي أبي عُمَارة والاخـ

إنْ يكنْ ما أتى به أحمدُ اليَوْ

فَاِعْلَمُوا أَنَّني لَهُ ناصِرٌ دهـ

فَانْصُروهُ لِلرُّحْمِ وَالنَسَبِ الأَد

وقف أبو طالب سداً منيعاً لحماية ابن أخيه ودعوته، فأخذ على عاتقه مناشده آل بيته وأخوته وعشيرته والمقربين ولا سيما الوليد بن المغيرة، وكأن الخطاب موجَّه إليه قبل بني هاشم، لأنه أحد عظماء قريش وهو واحد من اثنين(48) قال فيهما الله تعالى: «وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرآنُ على رَجُلٍ مِنْ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (49) فجعله أبو طالب من أهل بيته في دعوته في الوقوف إلى جانب رسول الله(صلى الله عليه وآله) وحماية رسالته، فاستعطفهم بصلة الرحم ووشائج النسب متوسما فيهم الخير في نصرته.

وخطاب أبي طالب يؤمىء إلى أن نصرته لابن أخيه محكومة بتصديقه «إن يكن ما أتى به احمد اليوم سناءً وكان في الحشر دنيا، فاعلموا انني له ناصر دهري... » فوشيجة النسب، وصلة الرحم لم تدع أبا طالب الى حماية نبي الله فحسب، وانما عقيدته تدعوه إلى الافصاح بتصديق رسالته، وتأييد دعوته، ويريد أبو طالب أن ينبه آل بيته وأخوته وعشيرته والمقربين له جميعهم إلى أن قريشا مهما سعت جاهدة لاطفاء نور الإسلام ودعوة رسول الله فلن تستطيع أبدا.

ويتبنى أبو طالب الدعوة الإسلامية مرة أُخرى، وابلاغها إلى من اتصف بفضيلة الكرم، والمكانة السامقة من قبيلة كنانة، قد جاءكم رسول مبعوث من الله يقدم لكم الأعمال الصالحة، فأيدوه وانصروه؛ لأنه ملتحف برداء رباني:

{من الخفيف}

زِ وَأَهلِ النَّدى وَأَهلِ الفعالِ

فَاقبَلوهُ بِصالِحِ الأَعمالِ

ـهِ رِداءً عليهِ غَيرَ مُدَالِ(50)

قُل لِمَن كانَ مِن كِنانَةَ في العِـ

قَد أَتاكُم مِنَ المَليكِ رَسولٌ

وانصروا أَحمَداً فَإِنَّ مِنَ اللَـ

ومرة أُخرى يؤكد أبو طالب: أن ابن أخيه رسول مبعوث من عند الله (أتاكم من المليك رسول)، وعلى الناس قبول تعاليمه؛ لأنها هبطت من وحي السماء فيها الرشاد والفلاح للناس جميعا، فاعلن أبو طالب عقيدته في الايمان بالله تبارك وتعالى والتصديق برسول الله المبعوث من عنده (صلى الله عليه وآله).

ولما حلَّ في صفوف المسلمين بعض الأمن والاستقرار، اجتمعت قريش على أن يكتبوا كتابا يتعاقدوا بموجبه على مقاطعة بني هاشم وعبدالمطلب(51)، فخطاب أبوطالب مشركي قريش، ولاسيما بطن كعب بن لؤي بن غالب، يعلمهم باستمراره في مؤازرته النبي محمد(صلى الله عليه وآله) ويحذرهم مغبة معاداته، مستنكرا علمهم بمعرفته وحملهم على معاداته، فهو مثل موسى ورد ذكره في كتب الانبياء، وانه محفوف بهالة من حب الله الذي منحه لعباده لمحبة رسوله، فورب الكعبة لا نسلم محمدا أو نخذله في شدته:

{من الطويل}

لُؤَيّاً وَخُصّا مِن لُؤَيٍّ بَني كَعبِ
نَبيّاً كَموسى خُطَّ في أَوَّلِ الكُتبِ
وَلا خَيرَ مِمَّن خَصَّهُ اللَهُ بِالحُبِّ
....
لِعَزّاء مِن نَكْبِ الزَمانِ وَلا كَربِ(52
)

 

أَلا أَبلِغا عَنّي عَلى ذاتِ بينِنا
أَلَم تَعلَموا أَنّا وَجَدنا مُحَمَّداً
و َأَنَّ عليهِ في العِبادِ مَحَبَّةً
....
فَلَسنا
ـ وبيتِ اللهِ ـ نُسلِمُ أَحمَداً

ففي النص جملة من الدلائل الموثقة في تصديق أبي طالب لنبوة رسول الله محمد(صلى الله عليه وآله)، فهو يذكر بطن كعب بن لؤي معرفتهم ببعثة النبي التي وردت بشارته بانه خاتم الانبياء على لسان جدهم كعبا الذي كان له علم ودراية واحاطة بكتب الانبياء: التوراة والانجيل، فما جاء في خطبته التي تضمنت العديد من الوصايا قوله: «... واعظموا هذا الحرم وتمسكوا به فسيكون له نبأ، ويبعث منه خاتم الانبياء بذلك جاء موسى وعيسى... » (53) فما على بطن كعب إلا التصديق بما جاء به من الكلام الالهي، ويومىء خطاب أبي طالب إلى ايمانه العميق وإسلامه الراسخ؛ لأن المرء لايدعو إلى الايمان والتسليم ما لم يكن مؤمنا مسلما صادق العقيدة، وهو يرفع هتافه «ألم تعلموا انا وجدنا محمد نبيا ... »، وقد اكد صدقه بما اومأ إليه بان النبي محمد شبيه بموسى (عليه السلام) وزاد في تصديقه تأكيدا (خُطَّ في أولِ الكُتبِ)، فهذا دليل آخر على أنَّه بُشِّر بمقدمِهِ ونبوتِهِ كل نبي له كتاب، ومن ثمة فهو ينبه على حقيقة عقائدية أُخرى (ان عليه في العباد محبة ... خصه الله بالحب)، فقد حاز النبي محمد (صلى الله عليه وآله) محبة الله، ومحبة الناس فهو أفضل خلق الله؛ لأن الله تبارك وتعالى خصَّه من دون عباده بفضيلة النبوة.

فنصرة أبي طالب لرسول الله لها جذور متأصلة في عقيدته الثابتة في الايمان بالله، وبمحمد رسول الله، وبالتصديق برسالته وبالرسل من قبله، وبالكتب المنزلة عليهم، وهذا يشير إلى أن أبا طالب له سبق حسن في الإسلام.

ويحمي أبو طالب المستضعفين من المسلمين ويدافع عنهم، وينصر كل من اعتنق الإسلام، واستنار بهديه، فهذا عثمان بن مظعون الصحابي الجليل يلقي ألوانا من العذاب والعنت عندما اسلم، فطلب جوار الوليد بن المغيرة فأجاره، ولما رأى عثمان ما في اصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) من البلاء وهو يروح ويغدو في امان الوليد بن المغيرة، ردَّ جواره؛ ليكون في جوار الله، فحدث ان اعتدى عليه احد رجال قريش ولطم عينه، فأصابها(54)، فغضب أبو طالب غضبا شديدا لهذا الامر، واستنكر انكار قريش في تصديق النبي، وما جاء به، فهو واضح مستقيم، تبينه وتفسره آيات ياسين، والشاعر في ذلك كله يريد من قريش اما ان يكفوا اذاهم بلين، واما ان يؤمنوا بالدين الجديد، فقال:

{من البسيط}

أَصبَحتَ مُكتَئِباً تَبكي كَمَحزونِ؟

 يَغشونَ بِالظُّلمِ مَن يَدْعو إِلى الدِّينِ؟

 ....

أَنّا غَضِبنا لِعُثمانَ بنِ مَظعونِ؟

طَعناً دِراكاً وَضَرباً غَيرَ مَرهونِ

....

بِكُلِّ مُطَّرِدٍ في الكَفِّ مَسنونِ

يُشْفَى بِها الدَّاءُ مِن هامِ المَجانينِ

بَعدَ الصُّعوبَةِ بِالإِسماحِ وَاللِّينِ
عَلى نَبِيٍّ كَموسى أَو كَذي النُّونِ
كَما تَبَيَّنَ في آياتِ ياسينِ(55
)

 

أَمِن تَذَكُّرِ دَهرٍ غَيرِ مَأمونِ

أَمْ مِن تَذَكُّرِ أَقوامٍ ذَوي سَفَهٍ

....

أَلا يَرَوْنَ ـ أَذَلَّ اللّهُ جَمعَهُمُ ـ

إِذا يَلطِمونَ وَلا يَخشَونَ مُقلَتَهُ

....

وَنَمنَعُ الضَّيمَ مَن يَبغِي مَضامَتَنا

 وَمُرهَفاتٍ كَأَنَّ المِلحَ خالطَها

حَتّى تُقِرَّ رِجالٌ لا حُلومَ لَها

أَو يُؤمِنوا بِكتابٍ مُنزَلٍ عَجَبٍ

يَأَتي بِأَمرٍ جَلِيٍّ غَيرِ ذي عِوَجٍ

يتجرع أبو طالب المرارة من فعل مشركي قريش في تعذيبهم المسلمين والنيل منهم، ليفتنونهم عن دينهم؛ وليرجعوهم إلى ملتهم القديمة، وأبو طالب يزداد اصرارا في نصرة النبي؛ ليصدع بامر الله تعالى ويمنع مشركي قريش من إيذاء أصحابه(صلى الله عليه وآله)، فلا يرضى أن ينال احداً من المسلمين ضيمٌ، أو أذى من (يدعو إلى الدين) الجديد، وهو يتحدى المشركين بالقرآن المجيد الذي انزله الحق تبارك وتعالى على نبيه، فبهرهم به وسحر عقولهم، فوصف بالعجب، لم تشهد العرب قبله، وما يقوله النبي ليس بقول شاعر ولا بقول ساحر.

ويؤكد أبو طالب نبوة ابن أخيه (نبي كموسى أو كذي النُّون) ، ويعلن ايمانه بالرسل وبرسالاتهم،وبما جاء به النبي محمد(صلى الله عليه وآله) أمر واضح ومستقيم وصفته آيات ياسين وبينته(56).

ومما تقدم يتبين:

إنَّ مواقف أبي طالب الجهادية لنصرة دين الله ومحاماة رسوله، وأصحابه تنم عن إيمان صادق بالشريعة الإسلامية منذ مهدها إلى أن ترسخت دعائمها، وهو ناصر لكل من يعتنقها، مانع للضيم لكل من يستجير به، ومن مظاهر النصرة ما يأتي:


ـ الحث على الصبر:

تحولت فضيلة الصبر من اطارها النفسي إلى اطارها العبادي عندما اقرتها الشريعة الإسلامية(57)، بانها كنز من كنوز الايمان(58)، فحث أبو طالب عليها في شعره عندما ازمعت قريش على ادخال بني هاشم وبني عبدالمطلب عشيرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الشِّعب وباتت تخطط لاغتيال رسول الله، فاوجس أبو طالب منهم خيفة، وكان «كثيرا ما يخاف على رسول الله(صلى الله عليه وآله) البيات إذا عرف مضجعه، فكان يقيمه ليلاً من منامه، ويضجع ابنه علياً مكانه، فقال علي ليلة: يا أبت، إني مقتول» (59).

والامام لايخشى الموت وهو يدافع عن ابن عمه، وانما أراد أن يبين طاعته لأبيه، في فداء نفسه لابن عمه ونصرته له، وهو لا يقل عن فداء أبيه بنفسه لابن أخيه، فحثه أبو طالب على التحلي بالصبر وحضه على طاعته، فهذا اولى له من الجزع؛ لأن الموت امر محتوم على كل انسان، وان البلايا جسام، وسهام المنايا عظام ، وقد تصيب، أو تخطئ، وكل امرىء مهما طال عمره آخذٌ بنصيب منها، فقال:

{من الخفيف}

كُلُّ حَيٍّ مَصيرُهُ لِشَعُوبِ

لِفِداءِ النَّجيبِ وَاِبنِ النِجيبِ

قِبِ وَالباعِ والفناءِ الرَّحيبِ

فَمُصيبٌ مِنها وَغَيرُ مُصيبِ

آخِذٌ مِن سهامها بِذنوبِ(60)

 

إِصطَبِرْ يا عَليُّ فَالصَبرُ أَحجى

قَد بَذلِناك ـ وَالبَلاء عسيرُ ـ
لفداء الأَغَرِّ ذي الحَسَبِ الثّا

إِنْ تُصِبكَ المَنونُ فَالنَّبلُ يُبْرَى

كُلُّ حَيٍّ وَإِن تَمَلأ عيشاً

إن حثَّ أبي طالب ولده على الصبر لا لأنه كان خائفا؛ وانما ليؤكد حرصهم جميعا على نصرة رسول الله، فكان أبو طالب متفانيا في نصرة ابن أخيه؛ لان يفدي ابنه له، ويبدو أنَّ الدافع الديني عند أبي طالب أقوى وأعظم من الدافع العاطفي لوشائج القربى، فمهما بلغ المرء من وشيجة النسب، وصلة القرابة، وحبه لابن أخيه، لا يرضى أن يتعدى على معتقداته، وأن يقام دين محل دينه ما لم يكن مؤمنا إيمانا عميقا بالدعوة الإسلامية، ومعتنقا إياها، وهذا ما تترجمه افعال أبي طالب،وتهالكه في بذل نفسه وولده دون نبي الله(صلى الله عليه وآله)، فيرغب بالصبر ويحث عليه؛ لأن الرجال الصابرين المؤمنين هم الذين ينهضون باعباء الدعوة الإسلامية ونشرها. ويدعو أبو طالب اخاه الحمزة ـ عندما اسلم ـ الى التجمل بالصبر والثبات؛ لتحمل أعباء الرسالة المحمدية، ويحثه على اتباع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ويناشده مناصرته:

{من الطويل}

وَكُنْ مُظهِراً لِلدينِ وُفِّقتَ صابِرا

بِصِدقٍ وَحَقٍّ لا تَكُن حَمزَ كافِرا

فَكُن لِرَسولِ اللّهِ في اللّهِ ناصِرا

 جهاراً وَقُل: ما كانَ أَحمَدُ ساحِرا(61)

 

اصَبرْ أَبا يَعلى عَلى دينِ أَحمَدٍ

وَحُط مَن أَتى بِالحَقِّ مِن عِندِ رَبِّهِ

فَقَد سَرَّني إِنْ قُلتَ إِنَّكَ مُسْلِمٌ

وَبادِ قُرَيشاً بِالَّذي قَد أَتَيتَهُ

انصاع حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) لدعوة أخيه أبي طالب عندما طلب منه الانضواء ضمن اتباع ابن أخيه، واتباعه ومناصرته «فكان حمزة ممن اعز الله به الدين» (62) بعد أبي طالب، وما عليه إلا ان يتجرع الصبر محتسبا في سبيل الإسلام ولم تثنِ عزيمة أبي طالب عداوة قريش له ولابن أخيه، فقد كان طول رفقته معه صادقا به مؤيدا لدعوته، صحيحا في اعتقاده وهو يردد (وحُط من أتى بالحقِّ من عند ربِّه ● بصدقٍ وحقٍّ ...) فهذا اعلان ساطع بالايمان بالله، والتصديق برسول الله(صلى الله عليه وآله)، ودخول عم النبي الحمزة (رضي الله عنه) الإسلام دعم للرسالة المحمدية، وقوة، ومنعه لحامل الرسالة في نظر اعدائه والمناوئين له، فكان لإسلامه أثر بالغ في نفس أبي طالب (فقد سرني إنْ قلتَ إنَّك مُسلمٌ)، فيمتليء حبورا لإسلام أخيه، ويأمر بالانصياع واقتفاء اثر مسيرة رسول الله، ونصرته ومؤازرته، (فكن لرسول الله في الله ناصرا)، فنصرته لرسول الله مبعثها مرضاة الله وليس رابطة القربة فحسب، ويلزم أبوطالب أخاه باعلان إسلامه امام رؤوس الشرك من قريش واعلامهم بأن ابن أخيه رسول من عند الله صادق القول وليس ساحرا بحسب زعم مشركي قريش. وإسلام حمزة (رضي الله عنه) يعني قوة ركني: النبي (صلى الله عليه وآله) وأبي طالب، واعلاء كلمة الدين، واضعاف قريش، بل إن إسلامه اقترن بضربه لأبي جهل لأنه أساء للمصطفى (صلى الله عليه وآله).

ودعوة أبي طالب لأخيه الحمزة إلى التجمل بالصبر والثبات على دين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإلزامه باتباعه ومؤازرته وايمانه بالله تعالى، وتصديقه لرسوله وجذله بإسلام أخيه امارات كلها جلية على عقيدة أبي طالب الصحيحة بالإسلام.

 

ـ النصيحة :

هو الشعر الذي يوجِّه إلى الأبناء والأقارب، عندما تكون غمامة تحجب الحق من ظهوره، ويراد به الخير في ملازمة الحق واتباعه باخلاص وتفانٍ، فاذا كان لاجل الله عبرت النصيحة عن صدق الاعتقاد، والوحدانية، واخلاص النية في عبادة الله، والتصديق برسوله، والكتاب المنزل عليه، والانقياد له.

والانقياد يعني إرداف منهج رسول الله(صلى الله عليه وآله) اقواله وافعاله والسير على هداه في طاعته، وكان هذا منهج أبي طالب في نصحه فقد وجه نصحه إلى أولاده، ولاسيما أميرالمؤمنين باتباع النبي (صلى الله عليه وآله) وحضّه على نصرته، وهو يقول له: «يابني الزم ابن عمك فانك تسلم به من كل بأس عاجل وآجل» (63) وأنشد:

{من الكامل}

فَاِشدُدْ بِصُحبَتِهِ عَليُّ يَدَيكا(64)

 

إِنَّ الوَثيقَةَ في لُزومِ مُحَمَّدٍ

لما كان اتباع النبي ونصرته السبيل إلى النور والهداية، واساس العقيدة في الايمان بالله ورسوله، امر أبو طالب ولده أميرالمؤمنين (عليه السلام) بتأييد ابن عمه في الاحوال كلها وملازمة صحبته، وامتثال أوامره، والشد على ساعديه، فنصرة أمين الله نصرة للدين الجديد وتقوية لدعائمه.

ويسلك أبو طالب منهجا واضحا في النصيحة لأبنائه طاعة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فقد كان «إسلام جعفر بامر أبي طالب ... مرَّ أبو طالب ومعه ابنه جعفر برسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يصلي، وعلي عن يمينه، فقال أبو طالب لجعفر: صلْ جناح ابن عمَّك، فجاء جعفر فصلى مع النبي (صلى الله عليه وآله) فلما قضى صلاته قال له: يا جعفر؛ وصلت جناح ابن عمك، إنَّ الله يعوضك من ذلك جناحين في الجنة» (65) فحث أبو طالب ولديه: علي وجعفر 8 على اتباع النبي ونصرته عند احتدام الشدائد، وتأزم الكرب، فعندما يكونان مستعدين لملاقاة المحن يفاخر بهما حينما ينتسب إلى المآثر ويحامي هو واسرته من دون النبي في مواجهة اعدائه؛ لأنهم يعدون اُمةً وحدهم، لعزتهم ومنعتهم، فأنشد:

{من المنسرح}

عِندَ اِحتِدامِ الأُمورِ وَالكُرَبِ

سامَيتُ أَو أَنتَمي إِلى حَسَبِ }(66)

أَخي ابن ِأُمّي مِن بَينِهِم وَأَبي

...

يَخذُلهُ مِن بَنِيَّ ذو حَسَبِ

...

نضربُ عنه الأعداء كالشُّهُبِ

فنحنُ في الناس الأمُ العَربِ

 

إِنَّ عَلِيّاً وَجَعفَراً ثِقَتي

{ أَراهُما عُرضَةَ اللِّقاءِ إِذا

لا تَخذُلا وَاِنصُرا اِبنَ عَمِّكُما

...

وَاللَهِ لا أَخذُلُ النَبِيَّ وَلا

...

نحنُ وهذا النبيَّ أُسرتُهُ

إنْ نلْنُموهُ بكلِّ جَمْعِكم

مما لا شك فيه أن الشعر يشيع في مكة والمشركون لايؤمنون ولايفهمون قوة العقيدة التي تحكم العلاقات بين المسلمين، فخاطبهم أبو طالب بما يفهموه هم، فهو ينصر المصطفى(صلى الله عليه وآله) ويدعو بنيهِ للنصرة لهذا السبب، ثم يقفيه بعقيدته الراسخة في الدين. ويبدو أنّ الدوافع المحركة لنصرة أبي طالب ابن أخيه(صلى الله عليه وآله) أنه ابن شقيقه من أمة وأبيه، فنصرته محكومة بصلة الرحم هذا من جهة ومن جهة أُخرى انه نبي الأمة، وحامل رسالة جديدة تحمل افكاراً وعقائد تصطدم مع افكار المشركين وعقائدهم، وأصحاب الكتب السماوية على السواء، فكان لابد له من الحفاظ على حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ومعاضدته، وشد ازره، لتخرج رسالته إلى النور وتمحو ظلام الجاهلية.

ونصيحة أبي طالب ولديه: علي وجعفر 8 في الانضمام لابن عمهما، والانضواء تحت شريعته، وحثهما على نصرته، وعدم خذلانه، والثناء عليهما، وجوده بنفسه وولده، وتأييده بقلبه ولسانه وسيفه، واخلاصه وتفانيه لمحبته، تلويح واضح على إيمان أبي طالب المقترن بالتصديق (لا اخذلُ النبيّ، وهذا النبيّ)، فقضية نصرته ابن أخيه وحمايته له ليست نصرة عم وحماية لابن الاخ فحسب، وانما قضية عقيدة ذات جذور عميقة ترتبط بالايمان.

ويغض أبو طالب الطرف عن مواقف أبي لهب في عداوته لرسول الله وتكذيبه له، ومعاونته لمشركي قريش في الكيد منه، ويدعوه ناصحا وموجها له ان ينضم لركب المسيرة المحمدية مخاطبا اياه؛ لدفع الظلم عن ابن أخيه لما في عمله هذا من الصلاح والعلو والشموخ، ويستجلب أبو طالب ابا لهب لمحاربة الاعداء ويستقطبه لمناصرته، ومناصرة رسول الله، ويحذره من العجز الذي لا يليق به، ومحاربة قومه، وهم لم يحاربوه ولم يخذلوه في الاحوال كلها، وقد كذبت قريش في زعمها بان قوم النبي محمد سوف يخذلوه ويقهروه، فهدد الشاعر قريشا بانها سترى حربا تشن عليهم في الشِّعب ليس لها قائم ان ارادت قريش ذلك، فقال:

{من الطويل}

لَفي رَوضَةٍ ما إِن يُسام المَظالِما

أَبا مَعْتَبٍ ثَبِّت سَوادَكَ قائِما

تُسَبُّ بِها إِمّا هَبَطتَ المَواسِما

فَإِنَّكَ لَم تُخلَق عَلى العَجزِ جاثما

أَخا الحَربِ يُعطي الخسفَ حَتّى يُسالما

وَلَم يخذُلوكَ غارماً أَو مُغارِما

....
وَلمّا تَرَوا يَوماً لَدى الشِّعبِ قائِما(67)

 

إِنَّ اِمرَءاً أَبو عُتَيبَةَ عَمُّهُ

أَقولُ لَهُ ـ وَأَينَ مِنهُ نَصيحَتي ـ:

وَلا تَقبَلَنَّ الدَهرَ ما عِشتَ خُطَّةً

وَوَلِّ سَبيلَ العَجزِ ـ وَيْكَ ـ مِنهُمُ

 وَحارِب فَإِنَّ الحَربَ نِصفٌ وَلَن تَرى

 فكَيفَ وَلَم يَجنوا عَلَيكَ جنايةً

....
كَذَبتُم وَبَيتِ اللَهِ يُبزى مُحَمَّدٌ

خاطب أبو طالب أخاه بكنيته محاولا ان يحرك في نفسه وشائج الرحم لابن أخيه، فدعاه إلى نصرته وهو بهذا ناصح له باخلاص، وهذا نمط من الخطاب فيه روح إسلامية تتمثل بخفض الجناح واللين وصلة الرحم متلمسا وسيلة النصح والارشاد تارة، والحث والتحضيض تارة اخرى في استقطاب اخيه ابي عتبة، ليلتحق بالقافلة المحمدية ما استطاع؛ لأن أبا عتبة من كبار خصوم رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وله أثره البالغ في قرارات المشركين، فلعله في مخاطبته اياه يخفف من وطأة تحامله على ابن أخيه، وحقده وكيده لدعوته، ويستجلب نصرته له؛ لأن قانون الحماية عرف اجتماعي فرضته طبيعة الحياة العربية، وطبيعة القربى لابن أخيه.

ومرة اخرى يخاطب أبو طالب أبا لهب ناصحا وحاثا له على نصرة رسول الله واعانته على اعدائه والدفاع عنه من اذى المشركين(68) فقال:

{من الطويل}

وَأَحلامِ أَقوامٍ لَدَيكَ سِخافِ

بِسوءٍ وَقُم في أَمرِهِ بِخِلافِ

وَإِمّا قَريبٌ مِنكَ غَيرُ مُصافِ

وَأَنتَ اِمرُؤٌ مِن خَيرِ عَبدِ مَنافِ

وَكُن رَجُلاً ذا نَجدَةٍ وَعَفافِ

وإيلافهم في الناسِ خَيرُ إِلافِ

وَزيراً عَلى الأَعداءِ غَيرَ مُجافِ

 وليس بذي حلفِ ولا بمُضافِ

إلى أبحرٍ فوق البحورِ صوَافِ

بَني عَمِّنا ما هاشمٌ بِضِعافِ

وَما بالُ أَرحامٍ هُتكنَ َحَوافِ

وَعِزٍّ بِبَطحاءِ الحطائمِ وافِ(69)

 

عَجِبتُ لِحلمٍ يا ابنَ شَيبَةَ عازِبٍ

 يَقولونَ: شايِع مَن أَرادَ مُحَمَّداً

 أَضاميمُ إِمّا حاسِدٌ ذو جنايَةٍ

فَلا تَركَبَنَّ الدَهرَ مِنهُ ذِمامَةً

وَلا تَترُكَنهُ ما حَييتَ لِمُعظمٍ

يَذودُ العِدا عَن ذِروَةٍ هاشِمِيَّةٍ

وَراجم جَميعَ الناسِ عَنهُ وَكُن لَهُ

فإنَّ لهُ قُربى لديك قريبةً

ولكنه من هاشم في صميمها

فإِن غَضِبَت مِنهُ قُرَيشٌ فَقُل لها:

فَما بالُنا يَغشَونَ مِنهُ ظُلامَةً

وَلَكِنَّنا أَهلُ الحَفائِظِ وَالنُّهى

حاول أبو طالب ان يحرك في أخيه أبي لهب العصبية للرحم من توجيهه لنصرة النبي (صلى الله عليه وآله) فتتجه نصيحته بالاشادة ببيان فضائله (وأنت امرؤ من خير عبد مناف)؛ ليستقطبه إلى صفه، وصف ابن أخيه؛ وليمهد لما يدلي به بجملة من النصائح «لاتركبَنَّ الدهر منه ذمامة، ولاتتركنه ما حييت لمعظمٍ، وكن رجلا ذا نجدة وعفافِ، وراجم جميع الناس عنه، وكن له وزيرا على الأعداء غير مجافِ»، ومن ثمَّ يستعطفه بقرابته برسول الله ( فان له قربى لديك قريبة)، فيرى أبو طالب أنَّ من باب الحكمة ان يستثير عواطف أخيه بمناشدة من هذا المسلك، فنصرته نصرة للرحم، والتقاليد التي تربى عليها وسط المجتمع العربي؛ ليوجب أبو طالب كف عداوة أبي لهب لرسول الله، واذاه له، وليمسك عن مساعدة مشركي قريش الناصبين العداوة لرسول الله ولدعوته، وليربك مخططاته ضد رسول الله، ولاحباط عزيمته في مواصلة عداوته له، ولتكسير شوكته في نظر مشركي قريش، وليفتح أبو طالب آفاقا جديدة لرسول الله في تبليغ دعوته.

 

ـ الوصية :

عرفت الوصية قبل الإسلام وبعده شعرا كما عرفت نثرا(70)، وقد اتخذت طابع الوصية في شعر أبي طالب سبيلين: الوصي في رعاية ابن أخيه وحفظه، ومعاضدته، ودفع الضيم عنه والموصى في دعوة الأهل والعشيرة لمناصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) في نشر دعوته ومؤازرته وهذا الطابع الذي يطبع شعر أبي طالب من إمارات ايمانه بنبوة ابن أخيه، وتصديقه بماجاء من عند الله وتأييده للرسالة المكلف بها لأن أباطالب كان له علم ببعثة ابن أخيه منذ نعومة اظفار المبعوث ولاسيما عندما كان جد النبي عبدالمطلب يردد «ان لابني شأنا» (71) استنادا لما بشر به من أهل الكتاب من أنه نبي هذه الأمة(72)، ومثل هذه العبارات كانت تطرق مسامع أبي طالب، فقال لبعض من كان بمكة من أهل العلم عندما ظهرت على ابن أخيه علامات النبوة: «لقد انبأني أبي عبد المطلب بأنه النبي المبعوث وأمرني أن استر ذلك لئلا يغرى به الأعادي» (73)، وهذا ما تؤيده المعجزات التي حصلت للنبي وهو صغير تؤكد نبوته.

وتذكر المظان ان عبد المطلب جد الرسول (صلى الله عليه وآله) اوصى ابنه عبد مناف بالمصطفى فقال:

{من الرجز}

أوْصِيكَ يا عبدَ مناف بَعْدي

بِمفردٍ بعدَ أبيهِ فَردِ

فَارَقهُ وهو ضجيْعُ المهْدِ

فكُنْتُ كالأمِّ لهُ في الوجدِ

تُدْنيهِ من احشائِها والكَبْدِ

فأنتَ من أرجى بنيِّ عَندي

لِدَفعِ ضَيمٍ أوْ لِشَدَّ عَقْدِ(74)

كان لوصية عبد المطلب بالغ الاثر في نفس أبي طالب، فيطلب من أبيه أن لا يوصيه بما عليه فعله من واجب في رعاية ابن أخيه وحفظه؛ لأنه سمع عنه العجب العجائب من أحبار اليهود ورهبان النصارى في بيان صفاته التي تدل على شأنه العظيم، فقال:

{من الرجز}

لا تُوصني بلازمٍ وواجبِ

إنّي سمعتُ أعجبَ العجائبِ

من كلِّ حبرٍ عالمٍ وكاتبِ

بان بحمد الله قَوْلُ الراهبِ(75)

ويردف عبد المطلب بوصية أُخرى يحثُ بها أبا طالب على نصرة ابن أخيه بنفسه وماله، واتباعه ومؤازرته فقال: «يا أبا طالب؛ إن أدركت أيامه فاعلم أنّي كنتُ من ابصر الناس به، فإن استطعت ان تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك فإنه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك احد من بني آبائي» (76).

ويتعهد أبو طالب رعاية رسول الله(صلى الله عليه وآله) في صغره وكبره، وحمايته بنفسه وماله من اليهود المرصدة له بالعداوة، ومن بني أعمامه،والعرب كافة الذين يحسدونه على ما وهبه الحق من امر النبوة(77). وأبو طالب يستحضر وصية أبيه عبد المطلب في القصيدة التي ذكر فيها خروجه في ركب إلى الشام تاجرا، وقد اخبره الراهب بحيرا ببشارة النبي المنتظر التي وردت في كتبهم الأولى ويحث الراهب أبا طالب على ارجاع ابن أخيه إلى أهله خوفا عليه من أن يقتله اليهود(78)، ويومىء أبو طالب في القصيدة التي يمدح بها النبي وهو صغير إلى تعلقه بركاب عمه حين ازمع الرحيل، فرق له وبكى، وصحبه معه في رحلته، الذي رعى فيها قرابته الموصولة به، وحفظ وصية عبد المطلب فيه قال:

{من الكامل}

عِندي يَفوقُ مَنازِلَ الأَولادِ

وَالعيسُ قَد قَلَّصنَ بِالأَزوادِ

مِثلُ الجُمانِ مُفَرَّقٌ الأفرادِ

وَحَفِظتُ فيهِ وَصِيَّةَ الأَجدادِ(79)

 

ِإنَّ ابن آمنةَ النبيَّ مُحَمَّداً

لَمّا تَعَلَّقَ بِالزمامِ رحمتُهُ

فَاِرفَضَّ مِن عَينَيَّ دَمعٌ ذارِفٌ

راعَيتُ فيهِ قَرابَةً مَوصولَةً

ومما لايخفى على القاريء أن قول الشاعر «إنَّ ابن آمنة النبي محمدا» إمارة واضحة على تصريحه بنبوة ابن أخيه، وتصديقه به، وهي من دواعي الحفاظ عليه وحمايته قبل البعثة، ومعاضدته ومؤازرته بعد البعثة، زد على أن محبة النبي وجعله بمنزلة أولاده هي من شعب الايمان.

ويومئ الشاعر في قوله «حفظت فيه وصية الاجداد» الى وصية جد النبي عبد المطلب وهو يحتضر بعد أن تكفله بنفسه، فكان له حافظا وراعيا «يابنيَّ؛ تكفَل ابن أخيك مني فأنت شيخ قومك وعاقلهم، ... وهذا الغلام ما تحدثت به الكهان، وقد روينا في الاخبار أنه سيظهر من تهامة نبي كريم، وروي فيه علامات قد وجدتها فيه، فأكرم مثواه واحفظه من اليهود فإنهم اعداؤه» (80).

وتدور الايام دورتها، ويوشك ناصر الرسول، وحاميه على الموت، فيكون الموصي لا الوصي، فيجمع أولاده وأخوته ووجوه قريش، ولا سيما اخويه العباس والحمزة، وبنيه جعفر وعلي (رضي الله عنهم) فيدلي بوصيته التي يتجلى فيها حبه للنبي محمد(صلى الله عليه وآله) ولدعوته، واصراره على دعوة بني زهرة والقرشيين للانضمام الى النبي والالتفاف حوله، واتباعه ونصرته وحمايته واعانته على اعدائه؛ لينالوا الرشاد والفلاح والخير، فأنشد:

{من البسيط}

بَعْدي: عَلِيّاً وصِنْوَ الخَيرِ عَبّاسا

 وَجَعفَراً أَن يَذودوا دونَهُ النّاسا

أن يُوجَدوا دُوْنَ حربِ القوم أكياسا

 مِن دونِ أَحمَدَ عِندَ الرَّوعِ أَتراسا

 تَخالُهُ في سوادِ اللَيلِ مِقباسا(81)

 

أوصي بِنَصرِ أمينِ اللَّهِ مشهُدَهُ

 وَحَمزَةَ الأَسَدَ المَخشِيَّ صَولَتُهُ

وجمع زُهْرَة إذ كانت مُخَلَّلَةً

كونوا فِدىً لَكُم نَفسي وَما ولدَت

بِكُلِّ أَبيَضَ مَصقولٍ عَوارِضُهُ

ويتضح من الأبيات أن أبا طالب على هدى الإسلام فقد كان مصدقا للرسالة المحمدية، معاضدا للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) ومساندا له في ظروفه الحرجة، شاحذا للهمم ومقويا للعزائم وهو يردد في وصاياه لبني هاشم وحلفائهم «ان محمدا نبي صادق وامين ناطق وان شأنه اعظم شأن ومكانه من ربه أعلى مكان فاجيبوا دعوته واجتمعوا على نصرته وارموا عدوه من وراء حوزته فانه الشرف الباقي لكم مدى الدهر» (82) فاعلن ايمانه بالله، وتصديقه برسول الله.

ولأبي طالب وصية أخرى أفردها لابنه الأكبر طالب يحثه فيها على اتباع ابن عمه رسول الله، فما اشد حسرة أبي طالب اذ فارق الحياة، ولم يقر عينا بارتفاع شأن ابن أخيه، فهل سيراه سيدا في قومه، وابنه علي يتقدم جيشه، ويعانق لوائه؟ وهل سينال شفاعة المصطفى يوم البعث؟، بيد أنَّ الحقيقة المدركة انه لا محالة سيموت فانشد:

{من الكامل}

فيما يَقولُ مُسَدِّدٌ لَكَ راتِقُ

حَتّى تَكونَ لدى المَنِيَّةِ ذائِقُ

لا زِلتُ فيكَ بِكُلِّ رُشدٍ واثِقُ

إنّى بِجِدِّكَ لا مَحالَةَ لاحِقُ

إِذ لم أَراهُ وَقَد تَطاوَلَ باسِقُ

وَعَلِيٌّ اِبني لِلِّواءِ مُعانِقُ

هَيهاتَ إِنّي لا مَحالَةَ راهِقُ(83)

أَ بُنَيَّ طالِبُ إِنَّ شَيخَكَ ناصِحٌ

فَاِضرِب بِسَيفِكَ مَن أَرادَ مساءَةً

هَذا رَجائي فيكَ بَعدَ مَنِيَّتي

فَاِعضِد قُواهُ يا بُنَيَّ وَكُن لَهُ

آهاً أُرَدِّدُ حَسرَةً لِفراقِهِ

أَترى أراهُ وَاللِواءُ أَمامَهُ

أتَراهُ يَشفَعُ لي وَيَرحَمُ عَبرَتي

ويظهر أن أبا طالب انفرد بهذه الوصية لابنه طالب، لأن طالبا كان حينئذ غير مسلم(84)، مع أنه كان يحب النبي حبا جما، وله اشعار فيه(85) وهذه الأبيات تعطي صورة بيّنة عن المبدأ الذي نهجه أبو طالب في نصرة ابن أخيه واتباعه ومعاضدته والتصديق به، فقد كرس شطرا من حياته في تربيته ورعايته وحفظه وهو صغير، والدفاع عنه وحمايته وهو كبير ؛ لنشر دعوته حتى كُتب لها النجاح وتم له النصر، ووصاياه امتداد لوصية أبيه عبد المطلب الذي الزم نفسه بتنفيذها والسير بمقتضاها بكل حزم .

ومما تقدم يتبين: أن شعر أبي طالب واكب أحداث نشر الدعوة الإسلامية منذ عهدها الاول في اطلاق اولى شعارات التوحيد والتصديق بالله ورسوله، فرسم شعره العقائدي صورة صادقة ومعبرة عن الحال الجديدة للحياة الجديدة في مواجهة المعارضين والمناوئين والمناهضين من المشركين، ومن هنا تبرز اهمية شعره وقيمته في التجديد وتأصيل الظاهرة الأدبية من خلال ما حمل نفسه على نصرة الإسلام المتمثل بصاحبه رسول الله، وحرصه في الحفاظ عليه وهذا مما افاده شعره، واوحى به في الوقت نفسه عن مسؤوليته بالتأييد والنصرة والمحاماة والمؤازرة والحث على ذلك كله بألوان من فنون القول المختلفة بالصبر، والنصيحة، والوصية، ولاشك فيه أن هذا السلوك الاخلاقي ذا القيمة العالية هو الغاية التي ينشدها الدين الجديد في إيمانه به.

إن ايمان أبي طالب دعم لرسول الله واضافة معنوية جديدة؛ إذ امد الإسلام بلسان اعلامي مُعبِر، تبرز فيه الروح الدينية، بما استلهمه من فيض زاخر من المعاني الإسلامية الجديدة، ومن معاني التعبير القرآني وألفاظه في شعره العقائدي.

***

الهوامش:

(1) ظ: تاريخ العرب قبل الإسلام (القسم الديني): 5/56-59، دراسات في التاريخ الإسلامي: 21- 24.

(2) ظ: زيد بن عمرو بن نفيل حياته وما تبقى من شعره (بحث): 90- 92.

(3) ظ: ورقة بن نوفل حياته وشعره (بحث): 174- 178.

(4) ظ: شعر العقيدة في عصر صدر الإسلام: 60.

(5) عندما كُلف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغ دعوته زاد التوتر في صفوف رجال قريش، ففكروا في  قتله، ولكن رأى عقلاؤهم من الحكمة الذهاب إلى أبي طالب، وهم يحملون في حديثهم معه نغمة الرجاء تارة، والتهديد تارة اخرى، فأبى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)  إلا ان يصدع بامر الله بكلمة الحق، وتنزيهه عن عبادة الاوثان وهو يقول لعمه أبي طالب: ((أي عم أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟ كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب ويملكون رقاب العجم، فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها  وعشر أمثالها، قال تقولون: لا إله إلا الله)) فثارت حفيظة رجال قريش لمنع المد الإسلامي بالوسائل كلها، ظ: السير والمغازي: 154، الكامل في التاريخ: 2/44، البداية والنهاية في التاريخ: 3/123.

(6)  الديوان: 189.

(7)  م.ن : 158.

(8)  ظ: السير والمغازي: 150.

(9)  الديوان: 183، السرب: الطريق.

(10)  ظ: السير والمغازي: 150.

(11)  الديوان: 259، في البيت الثاني إقواء.

(12)  ظ: العهد الجديد: 326- 343، الرسالة إلى العبرانيين، الاقسام : 1- 13.

(13)  ظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/341، البداية والنهاية في التاريخ: 3/84.

(14)  الديوان: 115، السبب: الوُصْلَة من الصلة والاتِّصال.

(15)  ظ: مناقب آل أبي طالب: 1/51.

(16)  الديوان: 329.

(17)  م.ن: 334.

(18)  م.ن : 185، الحريبة: المال، والجمع حرائب.

(19)  الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب: 292.

(20)  الديوان: 339.

(21)  دراسات في الادب الإسلامي: 28.

(22)  ان ما نزل من القرآن الكريم في مكة هو ست وثمانون سورة، فلو فرضنا ان أبا طالب شهد نزول خمسين سورة خلال  زمن البعثة، فهذا يعني انه اطلع على كم وافر من السور المكية التي تتحدث عن التوحيد والعقيدة أكثر من حديثها عن التشريع كما هو معروف.

(23)  الديوان: 241.

(24)  كنز العمال في سنن الاقوال والافعال: 1/144.

(25)  ظ: الجامع لاحكام القرآن: 15/ 288.

(26)   السيرة النبوية لابن هشام: 1/272، ظ: الديوان: 190- 198.

(27)  الديوان: 75.

(28)  الخصائص الكبرى: 1/86، سمط النجوم العوالي في انباء الاوائل والتوالي: 1/361، كأن شمس دُجُن: ذات يوم داجن أي مظلم، وحوله أغليمه: تصغير أغلمه جمع غلام، قزعه: القطعة من السحاب، أغدودق: كثر قطره، ظ: شرح المواهب اللدنية: 1/190.

(29)  السيرة النبوية لابن هشام: 1/280- 281، صحيح البخاري: 1/239- 241، صحيح مسلم: 1/393، دلائل النبوة لابن نعيم: 383 ((حديث الاستستقاء)).

(30)  شرح نهج البلاغة: 14/ 81، ظ: شرح شواهد المغني: 1/398، بحار الانوار: 35/ 168، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 75.

(31)  الديوان: 166- 167.

(32)  ظ: الطبقات الكبرى: 1/154، دلائل النبوة لابن نعيم: 126، دلائل النبوة ومعرفة احوال صاحب الشريعة – البيهقي: 2/27، إعلام الورى بأعلام الهدى: 17، ، صفة الصفوة: 1/33، عيون الاثر في فنون المغازي والشمائل والسير: 1/41.

(33)  الطبقات الكبرى: 1/155.

(34)  الديوان: 224، يريد بالخواتم الرجال اصحاب الخواتم، وخاتم النبوة: شامة خضراء أو سوداء محتفرة في اللحم، أو كغدة عند غضروف كتفه اليسرى مثل التفاحة، ظ: الرَّوض الأُنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام: 1/315- 316.

(35)  الديوان : 241.

(36) م .ن: 241.

(37)  الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب: 223، ظ: شرح نهج البلاغة: 14/ 74، البداية والنهاية في التاريخ: 3/43، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 53.

(38)  ظ: الديوان: 255.

(39)  الديوان: 225- 256.

(40)  ظ: الفروسية في الشعر الجاهلي: 284، 288، 308.

(41)  الغدير في الكتاب والسنة والادب: 7/ 349، نقلا عن نهاية الطلب وغاية السؤل في مناقب آل الرسول لإبراهيم بن محمد الدينوري.

(42)  السير والمغازي: 154، ظ: أنساب الأشراف: 1/230، مناقب آل أبي طالب : 1/53، شرح نهج البلاغة: 14/ 54، شرح شواهد المغني: 2/687.

(43)  الديوان: 189.

(44)  الديوان: 174، الخنفقيق: الداهية، البكار: مفردها البكرة وهي انثى من الإبل، الفنيق: الفحل المكرم عند أهله لايؤذى ولا يركب لكرامته، الغيل: عرين الأسد وموضعه.

(45)  ظ: السيرة النبوية لابن هشام: 1/267، أنساب الأشراف: 1/231.

(46)  الديوان: 205.

(47)  الديوان : 100، أبو عمارة: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ويكنى ابا عبد شمس أيضا، والوليد من المستهزئين المؤذين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات بعد الهجرة بثلاثة اشهر أو نحوها، ودفن بالحجون، ظ: أنساب الأشراف: 1/ 133- 134، 232.

(48)  والثاني أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ظ: السيرة النبوية لابن هشام: 2/9.

(49)  الزخرف/ 31.

(50)  الديوان: 207، كنانة: بطن من بطون قريش تدخل في النسب النبوي،ظ: أنساب الأشراف: 1/15- 35.

(51)  وتشمل بنود المقاطعة: حصار بني هاشم وعبد المطلب في شِّعب أبي طالب، ويمنع الدخول إليهم،  والخروج منهم، ولايتزوجون منهم، ولا يزوجونهم، وتمنع الامدادات الغذائية والتعامل التجاري، ولا يرفع الحصار عن أبي طالب وعشيرته إلا ان يسلم محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يموتوا جميعهم، ظ: السير والمغازي: 156، السيرة النبوية لابن كثير: 2/44.

(52)  الديوان: 211- 212.

(53)  أنساب الأشراف: 1/41، ظ: الكامل في التاريخ: 2/16.

(54)  ظ: أنساب الأشراف: 1/228،والبداية والنهاية في التاريخ: 3/ 92- 93.

(55)  الديوان (التونجي): 94- 95، دراكا: متتابعا، المطرد: المستقيم وهو وصف للرمح المقدر.

(56) ظ: يس/ 1- 4.

(57)  ظ: تمثيلا لا حصرا: هود/ 115، النحل/ 127، لقمان/ 17، الاحقاف/ 35، الطور/48، المعارج/ 5، البلد/ 17.

(58)  ظ: كنز الفوائد: 1/140.

(59)  شرح نهج البلاغة: 4/64، ظ: بحار الانوار: 35/93، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 42، و((كان علي (عليه السلام) لايرى أحداً يسب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا وثب عليه، وكان في كل يوم يجيء إلى أبيه مضروبا مشجوجا فقال له في ذلك أبو طالب ... {الابيات})) الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب: 276- 277، ظ: الديوان: 220.

(60)  الديوان: 220- 221، أحجى: أولى، شعوب: المنية.

(61)  الديوان: 253- 254، أبو يَعْلَى: كنية الحمزة بن عبد المطلب.

(62)  السير والمغازي: 172.

(63)  الديوان: 170، شرح نهج البلاغة: 14/75، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة: 54، وذكر في إسلام  أمير المؤمنين (عليه السلام) انه  قال: ((أي بُنيّ؛ ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: ياأبتِ؛ آمنتُ بالله وبرسول الله، وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته... قال له: أما انه لم يَدْعُك إلا إلى خير فالزمه)) السيرة النبوية لابن هشام : 1/247، ظ: الفصول المختارة: 283، الإصابة في تمييز الصحابة: 4/116.

 ان تحنّث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غار حراء، ولايعلم أبو طالب وهو كفيله، يخالف منطق الاشياء، واحسب أن أبا طالب لم يفاجأ بنبوة المصطفى، وانما كان ينتظرها، وسؤاله عن ابنه كان من أجل الاقرار بالدين، فهو استفهام للتقرير.

(64)  الديوان: 170.

(65)  الديوان : 171، بحار الانوار: 35/ 121، يراد في الصلاة: ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، كانتا في اوائل الإسلام، قبل ليلة الاسراء، كان يقوم بها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بعثته، ولايجوز حمل هذه الصلاة على الصلوات الخمس المفروضة؛ لأنها فرضت ليلة الاسراء، ظ: الرَّوض الأُنف في تفسيرالسيرة النبوية لابن هشام: 1/ 423- 424، وكانت الصلوات الخمسة فرضت بعد موت أبي طالب بنحو سنة ونصف، فقد توفي في السنة العاشرة من البعثة.

(66) الديوان: 171- 172، والبيت بين القوسين اضافة في الديوان نفسه صنعه (أبي هفان) : 137، أخي ابن أُمي: يريد أن أم أبي طالب وأم عبد الله والد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدة فهي (فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي) أنساب الأشراف: 1/88.

(67)  الديوان: 178، ابو عتبة: عبد العزى ابو لهب.

(68)  إنَّ سبب نظم القصيدة يرجع إلى أن أبا سلمة عبد الله بن عبد الاسد المخزومي، وأمة برّة بنت عبد المطلب من المسلمين الذين عُذِّبوا في إسلامهم، عذبه قومه وطلبوا منه  الرجوع الى ملته القديمة، فهرب منهم، واستجار بخاله أبي طالب، ليمنعه من عداوة قريش، فطالب بنو مخزوم به، فأبى أبو طالب ردَّ جواره، وكثر لغط بني مخزوم فيه، فدافع أبو لهب عنه وعن حاميه، فطمع أبو طالب بما سمع من مناصرة أخيه له فقال هذه القصيدة ناصحا موجها، ظ: السير والمغازي: 164، اسد الغابة في معرفة الصحابة: 3/295، البداية والنهاية في التاريخ: 3/93.

(69)  الديوان: 177، شبية هو عبد المطلب، عازب: غائب، سخاف: نواقص، الأضاميم: مفردها الإضمامة وهي الجماعة.

(70)  ظ: المعمرون والوصايا: 117- 167.

(71)  سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي: 1/270، ظ: أسنى المطالب في نجاة أبي طالب: 40.

(72)  ظ: السير والمغازي: 75، ، الطبقات الكبرى: 1/118، أمتاع الأسماع بما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع: 4/ 36- 37، سمط النجوم العوالي في انباء الاوائل والتوالي: 1/ 270.

(73)  تاريخ اليعقوبي: 2/11.

(74)  السير والمغازي: 69، تاريخ اليعقوبي: 2/10، مناقب آل أبي طالب : 1/34، ظ: عمدة الطالب في انساب آل أبي طالب: 23.

(75)  الديوان: 329.

(76)  اكمال الدين واتمام النعمة في اثبات الرجعة: 170.

(77)  ظ: مناقب آل أبي طالب: 1/34، بحار الانوار: 35/ 85.

(78)  ظ: السير والمغازي: 73- 76، التاريخ الكبير: 1/267- 271.

(79)  الديوان: 164- 165، قلصن: تابعن مسيرهن، الأزواد: مفردها الزاد وهو طعام السفر، ارفض:  تتابع سيلانه متفرقا.

(80)  بحار الانوار: 35/ 130.

(81)  الديوان: 246، وبنو زهرة بن كلاب بن مُرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك، فهم أخوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبطن من بطون قريش تدخل في عمود النسب النبوي، ظ: جمهرة أنساب العرب: 2/ 464.

(82)  مناقب آل أبي طالب: 1/ 55- 56.

(83)  الديوان: 340.

(84)  ظ: الطبقات الكبرى: 1/121، السيرة النبوية لابن كثير: 2/400، خرج طالب يوم بدر مكرها مع مشركي قريش.

(85)  ظ: مجموع اشعار قريش ملحق في الاطروحة (شعر قريش في الجاهلية وصدر الاسلام): 159- 161.