الخـاتمـة

 

يمكن تلخيص أهم النتائج التي توصلنا إليها بما يأتي:

● كانت الدعوة الإسلامية ممثلة بنبوة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) داعيا من دواعي قول الشعر عند أبي طالب، فقد شغلته الدعوة وصاحبها، فدافع عنها بشعره، وكان شعره في الإسلام يفوق شعره في الجاهلية في عدد القصائد والمقطعات، فبزوغ نور الإسلام أتاح لنجم أبي طالب الظهور بحكم الظروف الجديدة التي رافقت الجهر بالدعوة، التي تصدى لها المعارضون من مشركي قريش، فزودته بقوة شاعرية، وانفجرت قريحته الشعرية مع مجريات الحوادث اليومية الملازمة لنشر الدعوة.

● إنَّ اندماج مرحلتي قبل الإسلام وبعده جعلت ابن سلام يشعر بعدم وجود فوارق ملموسة بين المرحليتن، فصنّف ابن سلام أبا طالب مع شعراء مكة ضمن طبقة الشعراء الجاهليين، ولابن سلام عذره؛ لأن زمن البعثة كان مرحلة انتقالية لم تتبلور الظواهر الأدبية الإسلامية الجديدة فيها.

● كان شعرأبي طالب يمثل روح الإسلام حقا على الرغم من حداثة الدعوة، وهذا ينم عن ايمان عميق تجسد في هذا الشعر في قصائد أُسست على نصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وانبثت منها قيم اخلاقية من وعظ وارشاد وتوجيه ونصح إلى آخره، في ابداع فني حمل مبدأ الالتزام، وهدفه اصلاح افكار مشركي قريش من الدعوة الإسلامية، فحركة شعره لها وشيجة قوية بالمجتمع الإسلامي الجديد الذي ينشد فيه قيماً خيرة اكسبت شعره الإسلامي صفة الالتزام الذي يتبين في التمهيد.

● في توثيق شعره استدركتُ على الديوان بواحد وستين بيتاً ومشطوراً في اثناء بحثي وتنقيبي عن أشعاره من مصادر شعره التي حفلت بها المظان.

في ظاهرة الوضع التي أثارها ابن هشام وابن سلام في اشاراتهما لم تكن في شعره، وانما في مطولته اللامية فحسب، اما في شأن ظاهرة الوضع والنحل فيما ردده بلاشير وبروكلمان وشايعهما بعض الكتاب العرب أمثال: محمد كيلاني ، والنجار، فقد كشف البحث النقاب عن ضعف ارائهم لاستنادهم الى افتراضات عقلية، وليس الى دليل نقلي.

حفل شعر أبي طالب بالفنون الشعرية: الرثاء، والفخر، والمديح، فالرثاء من الفنون الشعرية التي طرقها أبو طالب قبل الإسلام، وتحمل معاني موروثة، ومعاني جديدة غير معهودة عند غيره من الشعراء التي هي من نتاج البيئة الدينية للشاعر منها: معاني الاستسقاء بعبد المطلب، وبكاء بيت الله الحرام والحجر والمدار لأبي أمية بن المغيرة ـ خاله ـ إلى آخره مما افصح عنه البحث.

شمل التطور في موضوعي: شعر الفخر والحماسة الدالين على تأثرهما في الدعوة الإسلامية وإن كان اصلاهما واضحين في الشعر العربي قبل الإسلام، فأشاد أبوطالب ببلائه وجهاده بنفسه وأولاده وأخوته وأبناء عشيرته من بني هاشم، وعبدالمطلب فداءً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولدعوته الدينية، فاكتسى فخر أبي طالب صبغة إسلامية تتجلى في فكرة الجهاد في سبيل رسول الله ودعوته التي تفترق عن فكرة الشاعر قبل الإسلام الذي يفخر بالثأر والانتقام للقبيلة، فنشوء فكرة الجهاد وجدت جذورها في شعر أبي طالب؛ لأنه أول ناصر لرسول الله(صلى الله عليه وآله).

● المديح من الموضوعات التي أصابها التطور فاكسبها الإسلام معاني جديدة فمديح أبي طالب ملازم لشخصية الرسول الكريم الممثل للدين الإسلامي، لا يتجزأ عن الدعوة التي جاء بها، و هو جزء من اعلام التزام الشاعر بالعقيدة الإسلامية، فيعد شعره في الرسول(صلى الله عليه وآله) اللبنة الأولى في بناء المدائح النبوية التي ظهرت فيما بعد، فقد نظمها في زمن البعثة الشريفة، قبل الهجرة أي قبل غيره من شعراء الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن ثمة يمثل مديحه في قصائد النصرة الجذور الاولى لنشوء المديح الإسلامي السياسي في مديح امام المسلمين بوصفه خليفة رسول الله والقائم على تولي أُمور المسلمين.

● يعد أبوطالب أول من نظم في شعر العقيدة الإسلامية، فكان شعره البداية الحقيقية لنشأته فيما بعد، فاحتل هذا النمط الموضوعي مكانا كبيرا في شعره وقد برز فيه التأثر الإسلامي في الفاظه ومعانيه وافكاره ومضامينه، فحفل بما هو جديد في ظل الحياة الدينية الإسلامية الجديدة، وكان ايمانه اضافة معنوية جعلته رجلا حاميا ومؤازرا لرسول الله(صلى الله عليه وآله) واعلاميا معبّراً عن عقيدة الإسلام في شعره؛ لاستقطاب عشيرته وأخوانه وأبنائه، ودعوتهم للوقوف إلى جانب صاحب الرسالة وتأييده ونصرته، متوسلا اساليب الكلام في الدعوة إلى التوحيد والتصديق، وما يتبعه من التصديق إلى بيان معاجز الرسول الكريم ونصرته، وما ينصرف من النصرة إلى الحث على الصبر والنصيحة والوصية، والموضوعات المتفرعة من شعر العقيدة جميعها تدل على عطاء أبي طالب الايماني المتدفق في رعاية الإسلام.

● وفي موضوعات العتاب والتحذير والتهديد والوعيد يمكن تأصيل ظاهرة العتاب الأخواني في شعر أبي طالب لأخيه أبي لهب وللشخصيات المتزعمة في المجتمع القريشي الذين هم اكفاؤه، فقد استند أبو طالب في عتابه إلى القيم الاجتماعية المتآزرة مع القيم الإسلامية في مخالفة المعارضين من قريش وتطبيق قانون الحماية، واجهد أبو طالب نفسه وهو يسعى إلى ادامة الود وصلة الرحم بينه وبين ابناء قبيلته ونبذ الخلاف والجنوح تحت راية الإسلام، وهذه الروابط التي تربط الشاعر بقبيلته لم تطفُ من خلال الصراع الفكري فحسب؛ بل في حالات العتب أيضاً.

ومن جديد موضوعي: التهديد والوعيد انهما يحملان قيماً اجتماعيةً إسلامية لحماية رسول الله والتصدي للمناهضين للدعوة الإسلامية من قبيلة أبي طالب في تهديدهم ووعيدهم، وهذا الأمر لم يكن يصدر من عربي يرى الولاء للقبيلة أهم شيء، لولا التحول الفكري الذي جعل ولاء الشاعر للإسلام يفيض بهذه المواقف في شعره.

● وكان أبو طالب يهجو قومه من دون ان يعبأ برابطة النسب، فكان مدفوعا بايمانه للإسلام، فتغلب الإسلام في هجائه على وشيجة النسب، وهذا يتنافى مع قوانين القبيلة في الاتحاد والاخلاص والتعاون، ولكن ما كان أبو طالب يشن هجومه في شعره على قومه إلا لإنثلام اتحاد القوم مع بني عمومتهم من بني هاشم وعبد المطلب، فنعتهم بالخصال الذميمة، وفي هجائه يعيرهم ببعض المعاني الإسلامية من كفر وضلال وعقوق وأثم وهذا ما افرزته الدعوة من معاني الهجاء الإسلامي.

● من المحقق أن شعر أبي طالب أصابه التطوير والتغيير، فاذا انصرف جزء منه إلى معاني ومباني قبل الإسلام فإن كثيرا من المعاني والمباني الإسلامية استطاعت أن تقفز بالقصيدة العربية إلى طور جديد يمكن ان يعد ظاهرة أدبية في تأصيل فن شعري لاحق.

سعى أبو طالب في البناء الفني للقصيدة ـ بجانب التقليد ـ الى التطوير، فقد كانت المقدمة ثمرة نتاج المضامين الإسلامية بزياداتها الفنية ، ولاسيما في مقدمتي وصف الهموم والشكوى.

● التزم أبو طالب نمطا فنيا جديدا في بناء القصائد ذوات المقدمات والقصائد المباشرة لم يكن معهوداً من قبله في قصيدة المديح المتزاوجة مع موضوع نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بناء القصيدة الإسلامية، فقد تشكلت في موضوعات مركبة متفرعة من الموضوع الرئيس في بناء محكم ومتلاحم، عالجت موضوعات إسلامية.

● أبو طالب من الرّجاز الذين سعوا الى تطويل اراجيزه التي بلغ فيها النضج الفني في اتقان الاداء، وجمال الاسلوب، وجودة الصياغة، وبراعة الصور في محاولة فنية جادة لتطوير بنائها، وفي الاعمام يعد بناء قصائد أبي طالب نهضة فنية في تطوير القصيدة من الجاهلية إلى الإسلام.

● كانت لغة أبي طالب الشعرية صافية خالية من حوشي الكلام وغريبه، شأنها شأن الشعر القرشي، وقد كانت موضوعات الشعر الإسلامي سببا في وضوح هذه اللغة.

● انمازت قصائده بنزعة خطابية في رسائل شعرية، شُكِّلت في سياقات فنية تسعى لإيصال فكرة موجزة هدفها الاقناع والقبول لتؤدي وظيفة اخلاقية اجتماعية في حماية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونصرته.

برز أثر الإسلام في شعره في الاقتباس من آيات التنزيل، واستعماله سيلاً من المفردات الدينية التي جاء بها الإسلام والمواكبة لحركة تطور الحياة الجديدة، فأعطى اللغة سمة بارزة في البنية الشعرية، فاكسبها طابعاً إسلامياً.

● وفي الإيقاع تتكون عملية بناء هندسة القصيدة من الوزن والقافية اللذين يحتويها البيت الشعري، فقد ساير أبو طالب الشعراء السابقين له والمعاصرين في هذا الجانب، فلم يتميز عنهم في شيء.

● وفي الصورة الشعرية، تابع أبو طالب اسلافه في رسم صورة، واستمد بعضها من الحياة الدينية الجديدة التي رسمت صورا حية لواقع حياة الإسلام المتشكلة في صور بيانية: التشبيه والكناية والاستعارة.

فانمازت الصورة التشبيهية بالوضوح والابانة في تصوير العوالم الحسية وقد تتزاوج الصورة الحسية مع الصورة المعنوية فتمنح الصورة الكلية ثراء ايحائيا.

● وتتمتع الصورة الكنائية برقة الفكرة المطروقة، وسمو العبارة المنظومة المتأتية من ترابط نسيجها في سياق النص.

● وتمنح الصورة الاستعارية عطاء فنيا غنيا بالايحاء والخيال ولا سيما الصورة العقلية، فتتوسع مداليلها في التعبير الموجز.

نسأل الحق تبارك وتعالى قبول صالح اعمالنا إنه غنيٌّ عن العباد حميدٌ مجيدٌ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى وعلى آله المنتجبين وأصحابه الميامين.

***