الصفحة 244
النص الرابع: وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف(1) بسنده عن جعفر عن أبيه قال: خرجت صفية وقد قبض النبي (صلى الله عليه وآله) وهي تلمع بثوبها _ يعني تشير به _ وهي تقول:


قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطب

أقول: وهذا أخرجه الطبراني في المعجم الكبير(2) بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) خرجت صفية تلمع(3) بردائها وهي تقول:


قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطب

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد(4).

وهذا الخبر يطوي في بيت شعره أنباءً وهنبثة حدثت بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) هزت المسلمين، وعظم وقعها على أهل البيت خاصة، حتى خرجت صفية بنت عبد المطلب وهي أم الزبير بن العوام تلمع بثوبها _ تشير به _ وهذا حال مَن بَلغَ به الأسى مبلغاً ضاق به صاحبه ذرعاً، فعلاه الحزن لفقد فقيده الغالي، وزاد أساه ما لاقاه من المآسي التي حيقت به من بعد فقيده، وما هي تلك الأنباء والهنبثة غير تقديم من أخّر الله وتأخير من قدّم الله، وغصب الخلافة من صاحبها.

قال ابن منظور في لسان العرب(5): الهنابث: الدواهي، واحدها هنبثة...، وفي الحديث: إنّ فاطمة قالت بعد موت سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله):


قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها فاختل قومك فاشهدهم ولا تغب

____________

1- مصنف ابن أبي شيبة 14: 556، برقم: 18874.

2- المعجم الكبير للطبراني 24: 253.

3- لمع بثوبه وسيفه لمعاً وألمع أشار, وقيل: أشار للإنذار، ولمع أعلى وهو أن يرفعه ويحركه ليراه غيره فيجيء إليه (لسان العرب) (لمع).

4- مجمع الزوائد للهيثمي 9: 92.

5- لسان العرب 3: 20.


الصفحة 245
الهنبثة واحدة الهنابث، وهي الأمور الشداد المختلفة، وقد ورد هذا الشعر في حديث آخر قال: لما قبض سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرجت صفية تلمع بثوبها وتقول البيتين. انتهى. يقال: لمع بثوبه وألمع به إذا رفعه وحركه ليراه غيره فيجيء إليه.

وقفة تحقيق:

وقفة تحقيق عابرة عند هذه الأبيات التي ورد فيها إقواء في القافية وهو من عيوب الشعر، فنقول:

لقد ورد البيتان في جملة من المصادر التاريخية والأدبية واللغوية على تفاوت في روايتهما تصحيفاً أو تحريفاً، ومع الإقواء وبدونه، وهذا ما يكشف عن أيدٍ أثيمة بدّلت واستبدلت، حتى غيّرت في معاني الشعر، فلا إتساق بين الصدر والعجز، ومِن الذين رووا البيتين مع الإقواء ابن الأثير في النهاية(1)، والزمخشري(2) في الفائق، والزبيدي في تاج العروس(3).فهؤلاء رووا أنّ فاطمة (عليها السلام) قالت:


قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها فاختل قومك فاشهدهم ولا تغب

وأعطف على هؤلاء علي فهمي جابي زادة في كتابه حسن الصحابة في أشعار الصحابة(4) ، وحكاه نقلاً عن العقد الفريد(5)، ولدى مراجعتي له وجدت هكذا:


إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها وغاب مذ غبت عنّا الوحي والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا لما نُعيت وحالت دونك الكثب

____________

1- النهاية لابن الأثير 8: 277.

2- الفائق للزمخشري 4: 116.

3- تاج العروس للزبيدي 3: 654.

4- حسن الصحابة 128.

5- العقد الفريد 3: 238.


الصفحة 246
وهذا غير ما حكاه علي فهمي كما هو ظاهر.

أما الذين رووا بتصحيف وتحريف مع الإقواء، لعل أقدم من رأيت ذلك عنده هو محمد بن سعد صاحب الطبقات، فقد روى الرثاء منسوباً إلى هند بنت أثاثة، وهو صحيح في نسبته إلاّ أنّ تحريفاً وتصحيفاً وإقواءاً حصل في البيت الثاني والخامس من أبيات خمسة هي:


قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطَب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها فاحتل لقومك واشهدهم ولا تغبِ
قد كنت بدراً ونوراً يستضاء به عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يحضرنا فغاب عنّا وكل الغيب محتجب
فقد رزئت أيا سهلاً خليقته محض الضريبة والأعراق والنسبِ

فلاحظوا التصحيف في البيت الثاني في كلمة (فاختل) بالخاء المعجمة، وهي فعل ماضي من الإختلال، فصُحّفت إلى (فاحتل) بالحاء المهملة، وهي فعل أمر من إعمال الحيلة؟

ولاحظوا التحريف في قافية البيت الثاني أيضاً حيث لا معنى يتسق مع سياق البيت، وفيه إقواء، وكذلك البيت الخامس ففيه أيضاً تحريف وإقواء.

أما الذين رووا الأبيات بدون إقواء، لكنّهم لم يسلموا من ضغط الموروث، فكان التحريف في اللفظ والتحريف في النسبة، فمثالهم جسوس في كتابه شرح الشمائل الترمذية(1) ، فقد قال: ويقال إنّ عائشة لما وقفت على القبر الشريف أنشدت:


قل للمغيّب تحت أطباق الثرى هل أنت تسمع ضرعتي وندائيا

____________

1- شرح الشمائل 2: 182.


الصفحة 247

ماذا على من شمّ تربة أحمدٍ أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنّها صبّت على الأيام صرن لياليا

ثم قالت للقبر ثانية، وتمثلت بقول صفية عمّة رسول الله (صلى الله عليه وآله):


قد كان بعدك أنباء وهينمة لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطَب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها واختلى قومك فافقدهم فقد نكبوا
قدكان جبريل بالآيات يؤنسنا فغاب عنّا فكل الخير محتجب
وكنت نوراً وبدراً يستضاء به عليك تنـزل من ذي العزة الكتب
فقد رزئنا بما لم يرزأ به أحد من البرية لا عجمٌ ولا عربُ

فهذه رواية جسوس جعلت صاحبة الرثاء والإنشاد عائشة، وهذا ما لم أقف عليه عند غيره، وكذبه واضح؛ لأنّ صاحبة الرثاء الأول تشكو ما صبّ عليها من مصائب لو أنّها صُبّت على الأيام صرن ليالياً حالكات لشدة وقعها، وعائشة لم يصبها أيّ أذى بعد فقد النبي (صلى الله عليه وآله)، بل أصبحت ذات عزّة ومنعة لتولي أبيها الخلافة، فلا يمكن التصديق بما ذكره عنها وإن نسبه إلى القيل، وهو مشعر بالتمريض. وقد صرّح الزرقاني في شرح المواهب(1)، وعلى القارئ في شرح الشمائل(2) ، بأنّ الشعر أنشأته - عند الأول - وأنشدته - عند الثاني - فاطمة (عليها السلام).

ثم إنّ نسبة الأبيات الخمسة إلى صفية هو أيضاً من الخطأ، فإنّها _ الأبيات _ ليست لها بل هي تمثلت ببيت واحد منها حينما خرجت تلمع بثوبها، كما سبق في رواية ابن أبي شيبة وراجع لسان العرب(3)، بل هي _ الأبيات _ لهند بنت إثاثة كما في طبقات ابن سعد.

____________

1- شرح المواهب للزرقاني 8: 293.

2- شرح الشمائل 2: 210.

3- راجع لسان العرب 3: 30.


الصفحة 248
ومما يؤكد أنّ البيت لفاطمة (عليها السلام) ، ما ذكره الزمخشري في الفائق(1) أنّ معاوية قال يوم صفّين: آهاً أبا حفص:


قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخُطَب

هي كلمة تأسّف، وانتصابها على إجرائها مجرى المصادر، كقولهم ويحاً له...، الهنبثة: إثارة الفتنة، وهي من النبث، والهاء زائدة، ويقال للأمور الشدائد: هنابث. يريد ما وقع الناس فيه من الفتن بعد عمر، وهذا البيت يعزى إلى فاطمة. انتهى.

النص الخامس: مما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(2)، بسنده أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي: «ستلقى بعدي جهداً»، قال: «يارسول الله في سلامة من ديني؟»، قال: «نعم، في سلامة من دينك».

وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك(3) عن ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه على تخريجه ورمز له: (خ م) يعني: البخاري ومسلم.

وأخرجه غير أولاء، وحمله بعضهم مفسراً له بما عاناه الإمام (عليه السلام) في الحروب الثلاثة: الجمل وصفّين والنهروان، وهو كذلك. إلاّ أنّ البعَدية في لفظ الحديث تشير إلى ما أصابه بعد فقد الرسول (صلى الله عليه وآله) من غدر الأمة به، كما رواه أبو إدريس الأودي عن علي قال: «إنّ مما عهد إليّ النبي (صلى الله عليه وآله) أنّ الأمة ستغدر بي بعده».

____________

1- الفائق للزمخشري 1: 66.

2- المصنف 12: 78.

3- المستدرك للحاكم 3: 140.


الصفحة 249
أخرجه الحاكم في المستدرك(1)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص على تخريجه وتصحيحه. وللحديث مصادر أخرى كدلائل النبوة للبيهقي، وتاريخ بغداد ج 11، وتاريخ دمشق ج3، وخصائص النسائي، وكنز العمال، وغيرها كثير.

النص السادس: وأخرج في المصنف(2)، بسنده عن أسلم، وذكر خبر مجيئ عمر إلى فاطمة يريد منها منع علي والزبير من الاجتماع في بيتها، وتهديدها بقوله: وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بهم أن يحرق عليهم البيت...، والخبر إلى هنا ليس فيه ما يستنكر عنه من يعرف شدة عمر، وعدم مبالاته في شن الغارة على بيت فاطمة، وأمره بأن يحرق على من فيه.

ولكن هلم الخطب في بقية الخبر فاقرأ ماذا فيه: (فلمّا خرج عمر جاؤوها فقالت: تعلمون أنّ عمر قد جاءني، وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت، وأيم الله ليمضينّ لما حلف عليه فانصرفوا راشدين، فروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ، فانصرفوا عنها، فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر)؟

فهذا الجزء من الخبر نسف الرأي الثابت في مجيئ عمر ومعه قبس من النار، ومعه من يحمل الحطب، واقتحامه الدار بعنف، وإخراج عليّ والزبير بـالعنف، كما سيأتي عن البلاذري وابن قتيبة وغيرهما، إلى آخر ما هنالك من الأذى الذي لحق بفاطمة من ضرب وإسقاط جنين وو....

النص السابع: وأخرج في المصنف(3) بسنده عن عروة أنّ أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي (صلى الله عليه وآله) ، كانا في الأنصار فدفن قبل أن يرجعا.

____________

1- المصدر نفسه 3: 140.

2- المصنف 14: 568.

3- المصدر نفسه 14: 568.


الصفحة 250
النص الثامن: وأخرج في المصنف(1) بسنده عن أسلم قال: دخل عمر على أبي بكر وهو آخذ بلسانه ينضنضه، فقال له عمر: الله الله يا خليفة رسول الله، وهو يقول: هاه إنّ هذا أوردني الموارد(2).

تعقيب على حديث غدر الأمة بالإمام:

لقد وردت عدة أحاديث تندّد مفهوماً بالأمة، وتصرّح منطوقاً بما سيلقى الإمام من جهد بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من تلك الأمة، وألفاظها مختلفة مما يدلنا على اهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله) بابن عمه، فهو إذ يخبره بما سيجري عليه من بعده، وهو إذ يسلّيه أيضاً يعدّه لمواجهة الأحداث بصبر وثبات، وهذا ما دلّ عليه جواب الإمام «في سلامة من ديني».

فمن الأحاديث في هذا المعنى خبر الحدايق التي مرّ عليها النبي (صلى الله عليه وآله) ومعه الإمام، فيقول الإمام: «ما أحسن هذه» ويجيبه النبي (صلى الله عليه وآله): «ولك في الجنة أحسن منها»، ثم اعتنقه وأجهش باكياً، فقال علي (عليه السلام): «ما يبكيك يا رسول الله؟»، فقال: «أبكي لضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك إلاّ بعدي، فقلت: في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك». (أخرجه أبو يعلى في مسنده، والحاكم في المستدرك، والمحب الطبري في الرياض النضرة، والهيثمي في مجمع الزوائد، والخوارزمي في المناقب، والحمويني في فرائد السمطين، وابن أبي الحديد في شرح النهج، والمتقي الهندي في كنز العمال، والقندوزي في الينابيع، وغيرهم).

____________

1- المصدر نفسه 14: 568.

2- وهذا أخرجه قبلاً في المصنف 9: 66 كتاب الأدب، وذكر في الهامش: أخرجه أبو نعيم في الحلية 1: 33، وأورده الهندي في كنز العمّال 3: 478. أقول: وذكره غيرهم في تاريخ أبي بكر، وحتى في بعض مصادر اللغة في مادة (نضنض) فراجع.


الصفحة 251
ومن الأحاديث ما أخرجه أبو نعيم في الحلية بسنده عن أبي برزة الأسلمي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «انّ الله تعالى عهد إليَّ في علي عهداً، إنّ علياً راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبّه أحبني، ومن أبغضه أبغضني، فبشّره فجاء علي فبشرته بذلك، فقال: يا رسول الله أنا عبد الله فإن يعذبني فبذنبي، وإن يتمّ الذي بشّرني به فالله أولى به». قال (صلى الله عليه وآله): «قلت: اللّهمّ أجل قلبه واجعله ربيع الإيمان، فقال الله تبارك وتعالى: قد فعلت به ذلك، ثم قال تعالى: إنّي مستخصّه بالبلاء، فقلت: يا رب إنه أخي ووصيي، فقال تعالى: إنّه شيء قد سبق فيه قضائي، إنّه مبتلى»(1).

ومن الأحاديث ما أخرجه الموفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: أعطى النبي (صلى الله عليه وآله) الراية يوم خيبر إلى علي ففتح الله عليه، وفي يوم غدير خم أعلم الناس انّه مولى كل مؤمن ومؤمنة، وقال له: «أنت منّي وأنا منك، وأنت تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله»، وقال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبي بعدي»، وقال له: «أنا سلم لمن سالمك، وحرب لمن حاربك، وأنت العروة الوثقى، وأنت تبيّن ما اشتبه عليهم من بعدي، وأنت ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي، وأنت الذي أنزل الله فيك: {وَأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأكْبَرِ}(2) وأنت الآخذ بسنتي، والذاب عن ملتي، وأنا وأنت أوّل من تنشق الأرض عنه، وأنت معي تدخل الجنة والحسن والحسين وفاطمة معنا، إنّ الله أوحى إليَّ أن أبيّن فضلك، فقلت للناس وبلّغتهم ما أمرني الله تبارك وتعالى بتبليغه».

____________

1- حلية الأولياء، وعنه في ينابيع المودة: 134.

2- التوبة: 3.


الصفحة 252
ثم قال: «اتق الضغائن التي كانت في صدور قوم لا تظهرها إلاّ بعد موتي، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون»، وبكى (صلى الله عليه وآله) ثم قال: «أخبرني جبرئيل انّهم يظلمونك بعدي، وأنّ ذلك الظلم لا يزول بالكلية عن عترتنا، حتى إذا قام قائمهم، وعلت كلمتهم، واجتمعت الأمة على مودتهم، والشانيء لهم قليلاً، والكاره لهم ذليلاً، والمادح لهم كثيراً، وذلك حين تغيّر البلاد، وضعف العباد حين اليأس من الفرج، فعند ذلك يظهر القائم مع أصحابه، فبهم يظهر الله الحق، ويخمد الباطل بأسيافهم، ويتبعهم الناس، راغباً إليهم وخائفاً منهم، ابشروا بالفرج، فإنّ وعد الله حق لا يخلف، وقضاؤه لا يرد، وهو الحكيم الخبير، وانّ فتح الله قريب.

اللّهمّ إنّهم أهلي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، اللّهمّ اكلأهم وارعهم، وكن لهم وانصرهم وأعزّهم ولا تذلّهم، واخلفني فيهم، إنّك على ما تشاء قدير»(1).

وقال علي كرّم الله وجهه: «كل حقد حقدته قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أظهرته فيَّ، وستظهره في ولدي من بعدي، مالي ولقريش إنّما وترتهم بأمر الله وأمر رسوله، أفهذا جزاء من أطاع الله ورسوله إن كانوا مسلمين»(2).

ما ذكره أحمد بن حنبل:

سابعاً: ماذا عند أحمد بن حنبل (ت 241 هـ)؟

النص الأول: أخرج في المسند(3)، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: حدّثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان

____________

1- المناقب للخوارزمي الحنفي وينابيع المودة: 135.

2- ينابيع المودة: 135.

3- المسند 1: 26، برقم: 9، بتحقيق أحمد محمد شاكر.


الصفحة 253
ميراثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهما حينئذٍ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهم أبو بكر: إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا نورّث، ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال، وإنّي والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنعه فيه إلا صنعته.

أقول: لقد مرّ هذا الحديث عن المصنف لعبد الرزاق فراجع (تاسعاً) ستجد زيادة طويلة بترها أحمد ولم ينقلها، ومما جاء في تلك الزيادة «قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها عليّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر، قالت عائشة: وكان لعلي من الناس حياة فاطمة حبوة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عنه، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم توفيت. قال معمر: فقال رجل للزهري: فلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال: لا، ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي....

إلى غير ذلك ممّا مرّ لفظه نقلاً عن المصنف، وهو كلام كثير يتضمن كيف بايع الإمام، وتحت طائلة الضغط الاجتماعي، وقد نبّهت هناك على ما صنعه أحمد والبخاري في اختصار هذا الحديث اختصاراً مهيناً ومشيناً فراجع، على أنّ تخريج أحمد للحديث هنا في مسند أبي بكر لروايته لا نورّث، فهو أشبه بمسند عائشة منه بمسند أبي بكر، فلاحظ.

النص الثاني: أخرج في المسند(1)، فقال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة [قال عبد الله: وسمعته من عبد الله بن أبي شيبة] قال: حدّثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل قال: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: أنت ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم أهله؟

قال: فقال: لا، بل أهله، قالت: فأين سهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: فقال أبو بكر: إنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ الله (عزّ وجلّ) إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه جعله للذي

____________

1- المسند 1: 28، برقم: 14.


الصفحة 254
يقوم من بعده، فرأيت أن أرده على المسلمين، فقالت: فأنت وما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعلم.

وهذا الحديث علّق عليه المحقق بقوله: إسناده صحيح، الوليد بن جُميع هو الوليد بن عبد الله بن جميع، نسب إلى جده وهو ثقة. أبو الطفيل: هو عامر بن واثلة، من صغار الصحابة، وهو آخرهم موتاً، مات سنة: 107، أو سنة: 110 هـ.

والحديث ذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه(1)، نقلاً عن المسند ثم قال: هكذا رواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل به، ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيع، فليعلم ذلك، وأحسن ما فيه قولها: أنت وما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهذا هو الصواب، وهو المظنون بها، واللائق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها _ (رضي الله عنها) _ وكأنّها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظراً على هذه الصدقة، فلم يجبها إلى ذلك لما قدمناه، فتعتبت عليه بسبب ذلك، وهي امرأه من بنات آدم، تأسف كما يأسفن، وليست بواجبة العصمة، مع وجود نص رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومخالفة أبي بكر الصديق، وقد روينا عن أبي بكر أنّه ترضّى فاطمة وتلاينها قبل موتها، فرضيت (رضي الله عنها).

إلى هنا انتهى ما ذكره أحمد محمد شاكر في الهامش، ولم يعقّب على ما ذكره ابن كثير بشيء، فأقول: ومن هنا يعلم موافقته لما قاله ابن كثير، ومن الواضح أنّ ابن كثير شامي، والنصب في أهل الشام من مواريثهم من أيام معاوية، وهو بعدُ تلميذ لابن تيمية، وذلك يكفي في تعريفه لو شط به القلم وحدا به النصب لأن يقول عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): (وليست بواجبة العصمة).

____________

1- تاريخ الحافظ ابن كثير 5: 289.