الصفحة 452
قال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت أبي خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة وقرأت عليه، فقال: هذا حديث يساوي بدنة، فقلت: يسوى بدنة؟ بل هذا يسوي بدرة.

ثم قال ابن كثير: وقد رواه الإمام أحمد عن الثقة عن وهيب مختصراً، وأخرجه الحاكم في مستدركه من طريق عفان بن مسلم عن وهيب مطولاً كنحو ما تقدم، وروينا من طريق المحاملي عن القاسم بن سعيد بن المسيب، عن علي بن عاصم، عن الجريري(1) ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، فذكره مثله في مبايعة علي والزبيريومئذٍ. انتهى.

إلقاء نظرة على حديث البُدرة:

إنّ النص المتقدم الذي اهتم به ابن كثير كثيراً، وساقه بإسناد الحافظ ابن خزيمة، وابن خزيمة كما في ترجمته كان من أسلاف السلفية القائلين بالتجسيم، ونقل عنه أنه قرأ الحديث على مسلم، فرأى مسلم في سوقه انّه يسوى بدنة _ وهي الناقة، وزاد الأزهري أو بعير ذكر، كما في المصباح المنير _ ولم يقنع ابن خزيمة بذلك التقويم حتى قال: بل يسوى بدرة _ والبدرة كيس ألف أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار كما في القاموس _.

وقد ساق ابن كثير عدة أسماء من أئمة الحديث كأحمد بن حنبل، والحاكم، والمحاملي ممن رووا ذلك النص متهالكاً في إثباته، مع أنّ القارئ الفطن يدرك

____________

1- في المصدر: الحريري، والصحيح الجريري وهو سعيد بن أياس البصري، قال أحمد: هو محدث أهل البصرة، وقال أبو حاتم: تغيّر حفظه قبل موته، قال أحمد بن حنبل: سألت ابن علية: أكان الجريري اختلط؟ فقال: لا، كبر الشيخ فرقّ، وأما ابن عدي فقال: لا نكذب الله، سمعنا من الجريري وهو مختلط (ت 144 هـ).


الصفحة 453
أنّ النص مكذوب على أبي سعيد، وإن كثرت أسانيد الرواية عنه، مع وجود الآفة في بعض رجال الرواة، كالجريري الذي اختلط وتغيّر حفظه، ومع ذلك لم يترك ابن علية وابن عدي السماع منه، بل أقسم ابن عدي فقال: لا نُكذِب الله، سمعنا من الجريري وهو مختلط. هذا من جهة السند، ولنلق نظرة عابرة على متنه لنرى مدى صحته، وهل يسوى سماعه وتحصيله بدرة أو لا يسوى حتى بعرة؟

فنقول: إنّ صحيح البخاري له مقام عند العامة، لا يوازيه أيّ كتاب من صحاحهم وغيرها، حتى قالوا فيه: إنّه أصح كتاب بعد كتاب الله، وهذا وإن لم نقبله نحن، ولكن لإلزام ابن كثير وقومه نقول لهم: إنّ بخاريّكم روى بسنده عن الزهري عن عروة عن عائشة خبر مطالبة الزهراء (عليها السلام) في باب غزوة خيبر(1) _ وقد مرّ ذكره في النص الثاني فماذا عند البخاري فراجع _ وقد جاء فيه: (فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها،وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر...).

وقد بيّنا هناك اقتضاب البخاري _ ومثله أحمد بن حنبل في مسنده _ لهذا الخبر، مع أنّ عبد الرزاق وهو قبلهما، قد روى الخبر بنفس السند وبصورة أتم، ومما جاء فيه: قال معمّر: فقال رجل للزهري: فلم يبايعه علي ستة أشهر؟ قال: لا، ولا واحد من بني هاشم حتى بايعه علي. (راجع النص التاسع فيماذا عند عبد الرزاق).

____________

1- صحيح البخاري 5: 139.


الصفحة 454
ومن المضحك _ وشر البلية ما يضحك _ أنّ ابن كثير لم يغب عنه ما رواه عبد الرزاق وأحمد والبخاري، فراوغ في الجمع بين ما ذكره أولاً من خبره الذي رواه ابن خزيمة، وقوّم تحصيل سماعه ببُدرة، وبين ما رواه الثلاثة، فساق خبراً كذباً عقب ما مرّ وهو النص الآتي.

النص الثاني: وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم: حدّثني أبي أنّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأنّ محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، فقبل المهاجرون مقالته، وقال علي والزبير: ما أغضبنا إلاّ لأنّنا أُخّرنا عن المشورة، وإنّا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنّه لصاحب الغار، وإنّا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصلاة بالناس وهو حي.

ثم قال ابن كثير: وهذا اللائق بعلي (رضي الله عنه)، والذي يدلّ عليه الآثار من شهوده معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القصة بعد موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما سنورده، وبذله له النصيحة والمشورة بين يديه، وأما ما يأتي من مبايعته إياه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها (عليه السلام) بستة أشهر، فذلك محمول على أنّها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله: لا نورث ما تركنا فهو صدقة.

أقول: هذا هو الجمع بين الخبرين فيما يراه ابن كثير، فكل من بايع أبا بكر من المسلمين بايعه مرّة واحدة، إلاّ علي المظلوم فقد بايعه مرّتين، لك الله يا علي؟! إنّها لفرية جازت الحد، ولا تسوى النقد والرد، وإنّما أشرت إليها لأثبت للقارئ أنّ الخبر الذي رواه ابن خزيمة لا يسوى سماعه بعرة فضلاً عن بدرة، وما تمسك ابن كثير به إلا لنصبه، وقد ذكره في كتابه (السيرة النبوية)(1) مع غيره من الطامات ما لا سبيل إلى قبولها بأيّ وجه.

____________

1- السيرة النبوية 4: 494.


الصفحة 455
ولدلالة القارئ على جانب مما يكشف عن نَصبه ما ذكره تعقيباً عليه فقال: وفيه أنّ زيد بن ثابت أخذ بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم فبايعوه، ثم انطلقوا، فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير علياً، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به.

ثم ذكر بقية الخبر وقصة بيعة الزبير بعد علي، ثم قال: «وقد رواه الإمام أحمد... وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة... وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب، أما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق (؟!) فإنّ علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه كما سنذكره، وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة (؟!) ولكن لما حصل من فاطمة (رضي الله عنها) عتب على الصديق، بسبب ما كانت متوهمة من أنّها تستحق ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم تعلم بما أخبرها به أبو بكر الصديق انّه قال: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة) فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح، كما سنبيّنه في موضعه، فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفَدَك، فلم يجبها إلى ذلك، وهو الصادق البار الراشد التابع للحق، فحصل لها _ وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة (؟!) _ عتب وتغضّب ولم تكلّم الصدّيق حتى ماتت، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله) رأى علي أن يجدّد البيعة مع أبي بكر مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (؟) ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه: أقول...» ثم ذكر ما مرّ عنه آنفاً في أول النص الثاني.

هذا بعض ما عند ابن كثير من زخرف القول بالباطل في بيعة أبي بكر، ولم يستطع إخفاء نصبه مضافاً إلى كذبه إنه لم يترض عن علي ولا مرّة واحدة، مع

الصفحة 456
تكرر ذكره في الخبر خمس مرّات، بينما ترضّى عن صاحبه أبي بكر ثلاث مرّات، وليس هذا بشيء إزاء شنعته الصلعاء حين نفى عصمة الصديقة الزهراء (عليها السلام)، مع سوء أدب وقلة حياء....

ولو كان ممن آتاه الله فهماً في كتابه، لما عمي عن مدلول آية التطهير وشأن نزولها، وتأكيد النبي (صلى الله عليه وآله) على تعيين أصحابها وهم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها(1)، ولا عن مدلول آية المباهلة، ولا عن آية المودة.

ولو كان لديه قلة حياء لما تعامى عن أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) نحو قوله: «فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني»(2).

وقوله الآخر: «فاطمة بضعة منّي يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها»(3).

وقوله الثالث: «إنّ الله يغضب لغضبكِ ويرضى لرضاكِ»(4).

وقوله الرابع: «فاطمة بضعة منّي يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها»(5).

وقوله الخامس: «قال لعلي (عليه السلام): أوتيتَ ثلاثاً لم يؤتهنّ أحد ولا أنا، أوتيت صهراً مثلي ولم أوت أنا مثله، وأوتيتَ زوجة صديقة مثل ابنتي ولم أوت مثلها

____________

1- راجع كتاب (علي إمام البررة) 1: 371 _ 408.

2- صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق، باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنقبة فاطمة، وله عدّة مصادر اُخرى: منها خصائص النسائي: 35، وذكره المناوي في فيض القدير 4: 421، وقال: استدل به السهيلي على أنّ من سبّها كفر، لأنّه يغضبه، وأنها أفضل من الشيخين.

3- صحيح البخاري في كتاب النكاح ورواه غيره، راجع كتاب علي إمام البررة 2: 168_230 و280.

4- أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 53 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ورواه ابن الأثير في اُسد الغابة 5: 522، وابن حجر في الإصابة 8: 159، وفي تهذيب التهذيب 12: 441، وابن عدي في الكامل 2: 351 في ترجمة الحسين بن زيد العلوي، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 1: 221, ورواه ابن عساكر في تاريخه 1: 299, والمتقي الهندي في كنز العمّال.

5- مسند أحمد 4: 323، ومستدرك الحاكم 3: 158.


الصفحة 457
زوجة، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما، ولكنكم منّي وأنا منكم» أخرجه أبو سعيد في شرف النبوة، وعنه المحب الطبري في الرياض النضرة(1).

وقوله السادس: «رأيت على باب الجنة مكتوباً: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، علي حبّ الله، والحسن والحسين صفوة الله، فاطمة خيرة الله، على باغضهم لعنة الله» أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد(2).

وقوله السابع: «إنما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها» أخرجه مسلم في الصحيح في كتاب فضائل الصحابة في باب فضائل فاطمة، وذكره الفخر الرازي في تفسير آية المودّة في سورة الشورى بلفظ «يؤذيني ما يؤذيها» وأخرجه الترمذي بتفاوت يسير.

وقوله الثامن: «إنّما فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها» أخرجه الترمذي في صحيحه(3)، والحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين(4)، وأخرجه أحمد في مسنده(5).

وقوله التاسع: «إن الله (عزّ وجلّ) فطم ابنتي فاطمة وولدها ومن أحبهم من النار، فلذلك سمّيت ابنتي فاطمة» أخرجه الديلمي عن أبي هريرة مرفوعاً، ورواه المتقي في كنز العمّال، ونحوه في ذخائر العقبى(6).

____________

1- الرياض النضرة 2: 202.

2- تاريخ بغداد 1: 259.

3- صحيح الترمذي 2: 319، ومستدرك الحاكم 3: 159، مسند أحمد 4: 5.

4- المستدرك 3: 159.

5- مسند أحمد 4: 5.

6- ذخائر العقبى: 26.


الصفحة 458
وقوله العاشر: «يا بنية أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟ قالت: يا أبت فأين مريم ابنة عمران؟ قال: تلك سيدة نساء عالمها وأنتِ سيدة نساء عالمكِ، أما والله زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة ولا يبغضه إلا منافق» أخرجه أبو نعيم في الحلية، والطحاوي في مشكل الآثار، والمحب الطبري في ذخائر العقبى(1)، وغيرهم.

وقوله الحادي عشر: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: يا معشر الخلائق طأطئوا رؤوسكم حتى تجوز فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) »، أخرجه الخطيب في تاريخه، والمحب الطبري في ذخائر العقبى وقال: خرّجه ابن بشران عن عائشة(2).

هذه إحدى عشرة رواية كاملة صريحة العبارة واضحة الدلالة على فضل فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وانّها صديقة معصومة، وهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، ومع هذا كلّه فيأبى ابن كثير الشامي أن يقرّ لها بالعصمة، بل وتجاوز الحد في نصبه فقال: «وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة».

وما أدري كيف يثبتون العصمة لغيرها مع سوء التصرف مع إمام الحق في زمانها، ولا أقل من قبول شهادة عائشة وهي أم المؤمنين بأنّ فاطمة (عليها السلام) أصدق الناس حديثاً ما عدا والدها، فقد أخرج الحاكم في المستدرك(3)، بسنده عن عائشة أنّها كانت إذا ذكرت فاطمة (سلام الله عليها) بنت النبي (صلى الله عليه وآله) قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.

____________

1- حلية الأولياء 2: 42، مشكل الآثار 1: 50، ذخائر العقبى: 43.

2- الخطيب في تاريخه 8: 141، ذخائر العقبى: 48.

3- المستدرك 3: 160.


الصفحة 459
وقد روى الخبر أيضاً أبو عمر في الاستيعاب(1)، وفي لفظ أبي نعيم في الحلية(2) قالت عائشة: ما رأيت أحداً قط أصدق من فاطمة غير أبيها.

فهي في دعواها صادقة، ولم يكن أبو بكر أصدق منها في زعمه سماعه الحديث (إنا لا نورث) شهادة ابنته عائشة كما مرّ، ومع هذا يقول ابن كثير أنّها متوهمة، وهي امرأة من البشر ليست بواجبة العصمة!!

ولنا أن نسـأل منه ما رأيـه في روايـات الـبخاري في صحيحـه الـتي تـثبت غضـبها عـلى أبي بكر، وليس كما يقول هو فحصل لها... عتب وتغضب، بل حصل غضب وشديد أيضاً فلنقرأ:

ففي صحيح البخاري(3) أنّ فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألت أبا بكر... أن يقسم لها ميراثها... فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، والحديث عن عائشة.

وفيه أيضاً(4)... فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت... والحديث عن عائشة، وفيه أيضاً(5)... فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت... والحديث عن عائشة.

وهذا ما رواه مسلم(6) ، ورواه أحمد في مسنده(7)، ورواه البيهقي في سننه(8).

وروى الترمذي في صحيحه في باب ما جاء في تركة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ فاطمة قالت لأبي بكر وعمر: والله لا اُكلمكما أبداً، فماتت ولا تكلّمهما.

____________

1- الاستيعاب 2: 751.

2- حلية الأولياء 2: 41.

3- صحيح البخاري 4: 79, كتاب الخمس.

4- المصدر نفسه 5: 139، باب غزوة خيبر.

5- المصدر نفسه 8: 149، كتاب الفرائض.

6- صحيح مسلم 5: 153، كتاب الجهاد.

7- مسند أحمد 1: 9.

8- سنن البيهقي 6: 300.


الصفحة 460
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة(1): فقالت _ فاطمة (عليها السلام) _ لأبي بكر وعمر: أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: رضى فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟

قالا: نعم، سمعناها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قالت: فإنّي أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه وآله) لأشكونكما إليه، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، ثم خرج فاجتمع الناس فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي.

هذا ما رواه شيوخ الحديث من أصحاب ابن كثير، وهو مع ذلك يقول بكل صلف عن فاطمة (عليها السلام) ما قال، ونحن لا نزيد على قول الله تعالى في محكم كتابه: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}(2).

ولم يخف ابن كثير نُصبه وايذاءه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته بكل سبيل، حتى حاول صرف بيعة الغدير عن مغزاها وتفريغها عن محتواها، فقال:

(فصل في إيراد الحديث الدال على أنه (عليه السلام) خطب بمكان بين مكة والمدينة، مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة _ يقال له غدير خم _ فبيّن فيها فضل علي بن أبي طالب، وبراءة عِرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه اليهم من العدالة التي ظنّها بعضهم جوراً

____________

1- الإمامة والسياسة: 14، في بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام).

2- الأحزاب: 57.


الصفحة 461
وتضييقاً وبخلاً، والصواب كان معه في ذلك، ولهذا لما تفرّغ (عليه السلام) من بيان المناسك، ورجع إلى المدينة بيّن ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذٍ، وكان يوم الأحد بغدير خم تحت شجرة هناك، فبيّن فيها أشياء (؟!) وذكر من فضل علي وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه.

ونحن نورد عيون الأحاديث الواردة في ذلك، ونبيّن ما فيها من صحيح وضعيف بحول الله وقوته وعونه.

وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ، فجمع فيه مجلّدين أورد فيهما طرقه وألفاظه، وساق الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم، على ما جرت به عادة كثير من المحدّثين، يوردون ما وقع لهم في ذلك الباب من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة، ونحن نورد عيون ما روي في ذلك، مع إعلامنا أنه لاحظّ للشيعة فيه، ولا تمسّك لهم ولا دليل، لما سنبيّنه وننبه عليه).

ثم ساق عن ابن إسحاق وأحمد والنسائي حديث بريدة وغيره مما جرى لهم في اليمن، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): «لا تشكوا علياً، فوالله إنّه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله» وهذا كان بمكة و ليس في غدير خم.

ثم ذكر من النسائي في سننه بسنده عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحاتٍ فقممن ثم قال: «كأنّي قد دعيتُ فاُجبتُ، إنّي قد تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». ثم قال: «الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن» ثم أخذ بيد علي فقال: «من كنت مولاه فهذا وليّه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه».


الصفحة 462
فقلت _ والقائل أبو الطفيل _ لزيد: سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه وسمعه بأذنيه. تفرّد به النسائي من هذا الوجه، قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وهذا حديث صحيح.

ثم ساق روايات الصحابة كالبراء بن عازب وحديثه عند ابن ماجة، وعبد الرزاق، والحافظ أبي يعلى الموصلي، وفي حديثه قول عمر لعلي في ذلك: هنيئاً لك، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. ورواه ابن جرير عن أبي زرعة....

ثم ساق خبر مناشدة الإمام (عليه السلام) بالرحبة من شهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم وهو يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فقام اثنا عشر رجلاً فشهدوا أنّهم سمعوا ذلك، وفي حديث عبد الله بن أحمد بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: فقام اثنا عشر رجلاً بدرياً، وفي سند آخر عنه أيضاً: فقالوا: قد رأينا وسمعنا حيث أخذ بيده يقول: «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» فقام إلا ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته. وفي خبر لأبي الطفيل: فقام ناس كثير فشهدوا.

وهكذا سرد روايات أحمد، وابن جرير، والترمذي، وأبي يعلى الموصلي وغيرهم، ولم يكن ابن كثير أميناً في نقل جملة من ذلك، فقد روى عن ابن جرير وأبي يعلى الموصلي باسنادهما قال: دخل أبو هريرة المسجد _ مسجد الكوفة _ فاجتمع الناس إليه، فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله يقول: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه»؟ قال: نعم.

ولهذا الخبر تتمة غص بها ابن كثير فلم يذكرها، وهي قول الشاب: فأشهد بالله لقد واليت عدوه، وعاديت وليّه ثم قام عنه(1).

____________

1- شرح النهج لابن أبي الحديد 4: 68، نقلاً عن كتاب المعارف لابن قتيبة، وقال: (وقوله فيه حجة؛لأنه غير متهم عليه) ولكن حتى هذا امتدت إليه يد الخيانة فطالت كتاب المعارف في جملة موارد كان هذا منها، كما سيأتي في الملحق الثاني آخر الكتاب.


الصفحة 463
ولئن غص ابن كثير بذكر ما قاله ذلك الشاب، فله نظراء مثله، راجع مجمع الزوائد(1) نقلاً عن أبي يعلى الموصلي، والبراء، والطبراني في الأوسط، فقد ذكروا الخبر من دون قول الشاب(2).

ولابن كثير في تفسير القرآن العظيم شطحات تفوق حق المليم، ومنها ما يتعلق بالمقام.

النص الثالث: ما ذكره(3) في تفسير قوله تعالى: {وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ}(4).

قال الحافظ أبو بكر البزار: حدّثنا عبّاد بن يعقوب، حدّثنا أبو يحيى التميمي، حدّثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: لما نزلت: {وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ} دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فَدَك.

ثم قال: لا نعلم حدّث به عن فضيل بن مرزوق إلاّ أبو يحيى التميمي وحميد بن حماد بن أبي الجوزاء. وهذا الحديث مشكل لو صح اسناده، لأنّ الآية مكية وفَدَك إنّما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ فهو إذاً حديث منكر والأشبه أنّه من وضع الرافضة، والله أعلم.

____________

1- مجمع الزوائد 9: 105.

2- ولقد جرى لأبي هريرة نحو هذا من تأنيب من الأصبغ بن نباتة، وذلك في مجلس معاوية وبمحضر من جلسائه، حيث سأله الأصبغ عن سماعه حديث يوم الغدير فقال: أي والله لقد سمعته... فقال: فإذن أنت يا أبا هريرة واليت عدوه وعاديت وليه، فتنفس أبو هريرة وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتغيّر (فتمعّر) وجه معاوية... راجع الخبر مفصلاً في تذكرة خواص الأئمة لسبط ابن الجوزي: 48، ومناقب الخوارزمي الحنفي: 130.

3- تفسير ابن كثير 3: 36.

4- الإسراء: 26.


الصفحة 464
أقول: وهذا من ابن كثير تدجيل وتضليل، حيث ذكر قول البزار في رواية الحديث عن فضيل لأبي يحيى وحميد بن حماد بن أبي الجوزاء، وإلى هنا انتهى كلام البزار، فأضاف منه قوله: وهذا الحديث مشكل... ولم يشعر القارئ بالفصل بين القولين، فهذا هو التدجيل والتضليل، وله نحو هذا كثير.

وأما قوله: « وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده لأنّ الآية مكية... » فنقول له ولأتباعه ممن يهوى هواه: انّ الحديث غير مشكل، والسند صحيح، والى القارئ بيان حال رجال ذلك السند:

1_ البزار: هو أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق (ت 292 هـ)، ذكره الدارقطني فأثنى عليه وقال: ثقة يخطئ ويتكل على حفظه.

2_ عباد بن يعقوب: هو الرواجني (ت 250 هـ) قال الحاكم: كان ابن خزيمة يقول: حدّثنا الثقة في روايته، المتهم في دينه عباد بن يعقوب، وقال أبو حاتم: شيخ ثقة، وقال الدارقطني: شيعي صدوق، وفي تهذيب التهذيب رمز له بتخريج حديثه في البخاري والترمذي وابن ماجة.

3_ أبو يحيى التميمي (الصحيح التيمي): هو إسماعيل بن إبراهيم الأحول، كوفي، ضعفه ابن نمير، وقال ابن عدي: ولأبي يحيى التيمي هذا أحاديث حسان، وليس فيما يرويه حديث منكر المتن، ويكتب حديثه(1).

4_ فضيل بن مرزوق: سئل الدوري عنه فقال: ثقة، وعن ابن معين: صالح الحديث إلاّ أنّه شديد التشيع، وقد أخرج له مسلم في الصحيح، وقال العجلي: جائز الحديث صدوق، وكان فيه تشيع، وقال أحمد: لا أعلم إلا خيراً، لا يكاد يحدث عن غير عطية، وأخرج له البخاري في رفع اليدين ومسلم، وبقية الأربعة أصحاب السنن، كما في رموز (تهذيب التهذيب).

____________

1- الكامل 1: 308.


الصفحة 465
5_ عطية: هو العوفي، قال الدوري: عن ابن معين: صالح، قال ابن عدي في الكامل(1): ولعطية عن أبي سعيد الخدري أحاديث عداد، وعن غير أبي سعيد، وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وكان يعد من شيعة الكوفة.

أقول: وهذا أخرج حديثه البخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، كما في تهذيب التهذيب في رموز أوّل الترجمة.

ونزيد على صحة السند هذا، أنّ ابن عدي روى الحديث في الكامل(2) بسنده فقال: أخبرنا القاسم بن زكريا، ثنا عباد بن يعقوب، ثنا علي بن عابس، عن فضيل _ يعني ابن مرزوق _ عن عطية، عن أبي سعيد قال: لما نزلت: {وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ}(3) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فَدَك.

ثم قال ابن عدي: ولعلي بن عابس أحاديث حسان، ويروي عن أبان بن تغلب وعن غيره أحاديث غرائب، وهو مع ضعفه يكتب حديثه.

أقول: وروى الحديث الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل(4) بسبعة أسانيد، كما ستأتي الإشارة إليها.

وأما زعمه أنّ الآية مكية، فهو تدجيل ثان وتضليل آخر، فإنّ الآية مدنية مع آيات اُخر وضعت في سورة مكية، ولا نطيل البحث في مسألة المكي والمدني في القرآن، ومن راجع الموضوع في كتب علوم القرآن كأسباب النزول والاتقان للسيوطي مثلاً، يجد التصريح بأنّ السورة المكية وفيها آيات مدنية، وبالعكس أيضاً.

____________

1- المصدر نفسه 5: 370.

2- المصدر نفسه 1: 190.

3- الإسراء: 26.

4- شواهد التنزيل 1: 338 _ 341.


الصفحة 466
وسورة الإسراء وإن كانت هي مكية، إلا أنّه اُستثني فيها آيات مدنية، فقال السيوطي في الاتقان(1): (الإسراء) استثني منها: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}(2) الآية، لما أخرج البخاري عن ابن مسعود أنّها نزلت بالمدينة...، واستثني منها أيضاً: {وَإنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}(3) وقوله: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالجِنُّ}(4) الآية، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا}(5) الآية، وقوله: {إنَّ الَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ}(6) لما أخرجناه في أسباب النزول.

ومما ذكره في أسباب النزول بهامش تنوير المقباس من تفسير ابن عباس(7) قال: وأخرج الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: لما أنزلت: {وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ}(8) دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فَدَك. قال ابن كثير: وهذا مشكل فإنّه يشعر بأنّ الآية مدنية، والمشهور خلافه. وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله.

ثم انّ بعض المفسرين كالفيروزآبادي ذكر في أول سورة الإسراء كونها مكية غير آيات، منها خبر وفد ثقيف، وخبر ما قالت له اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء، فنزل: {وَإنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ} إلى قوله: {أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ...}(9) إلى آخر الآية، فهؤلاء الآيات مدنية...(10).

____________

1- الإتقان 1: 16.

2- الإسراء: 83.

3- الإسراء: 73 _ 81.

4- الإسراء: 88.

5- الإسراء: 60.

6- الإسراء: 107.

7- تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: 174.

8- الإسراء: 26.

9- الإسراء: 76 _ 80.

10- تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: 176.