المقدّمة

الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره، وسبباً للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظمته، وصلى الله على محمد خير بريته، وعلى الآل من عترته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين.

أما بعد: فليس من فلسفة الحياة أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا برهة من الزمن ثم يرتحل عنها من دون هدف أو غاية، ولو كان ميزان الحياة هكذا لتساوت البشرية في كتابة التاريخ، بل من فلسفتها أن يعيش ليترك مجداً وفخراً يفيض بألقه على الملأ علماً وخلقاً وذكرى تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل .

قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ))(1).

وقد أعان الحق سبحانه وتعالى على ذلك السعي والكدح الشاق بما يؤهله لتحقيق الطموح وعدم الانحراف عن جادة الحق، ولتكون ـ تلك المؤهلات ـ حجة عليه، فوهب للإنسان حجتين، عقله ليدله على موجبات الفطرة، والأنبياء والرسل والأئمة (ع)(2) لإبلاغ الشريعة.

فكانت عظمة الأمة بصبر رجالاتها، وفكر علمائها، وصلاح رموزها. ومن هنا عظّمت الأمم قادتها الذين جاهدوا بكل ما لديهم، من اجل إرساء العدالة في الأرض، وتحقيق ما تصبو إليه النفس من رقي معهود وكمال منشود .

وجاء التعظيم ليس في حياتهم فحسب، بل امتدّ بأفقه إليهم وهم أموات، ليتابعوا المسيرة. وقد تسابقت الديانات في قداسة البقعة التي ضمت أجساد أنبيائهم وأوصيائهم (ع) لتكون معلماً شاخصاً على الحدث التاريخي المادي، ورمزاً طافحاً بالعطاء والالتصاق الروحي .

وقد حظيت الديانة السماوية الإسلامية ـ شأنها شأن غيرها من الأديان ـ بتمجيد إرثها العقائدي، وفكرها الرسالي من قادة وعظماء .

هذا الإرث والفكر الذي امتدحه القرآن الكريم، من خلال الثلة الطاهرة المتمثلة بالأنوار القدسية محمد المصطفى (ص) وأهل بيته المعصومين (ع) علي وفاطمة والحسن والحسين والتسعة من ذريته وبنيه .

قال تعالى : ((إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً))(3).

وكان سبب ذلك المدح ما قد حباهم سبحانه بصفات عديدة، ومميزات وفيرة، خصهم عن غيرهم، ومنها انه جعلهم ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ))(4).

وجعل لهذه البيوت من الحرمة ما تكون لهم في الحياة، وتعمهم وهم أموات، خصوصاً بعد ما ورد الحث على زيارة قبورهم والتعاهد على زيارتها وتعميرها(5).

فبنيت فوقها الأضرحة، وشيّدت المشاهد، فكانت عتباتهم المقدسة بغض النظر عن حجمها المادي والمكاني، مكان تعظيم وتقديس في نفوس المسلمين، تزار من القرب والبعد، وتحضى بآداب وسلوك وأحكام .

تلك الآداب والأحكام لتلك العتبات، كان حلمي وأنا من الصغر أن اعرف السر المكنون لقداستها، هل لشرف المدفون بها ؟ ـ وان كان هذا حاصلا ابتداءً ـ، وأن جريان الأحكام العبا دية أو السلوكية هل هو مستمد من طبيعتها الفقهية من حيث مسجديتها، أو وقفيتها بهيئة معينة، استوجب تعلقها بتلك الطبيعة من الأحكام والآداب ؟

ثم مدى مشروعية ما يُنذر وما يُوقف وما يُهدى لها أو للمدفون بها ؟ بعد أن جعل الفقهاء من شرائط ذلك حياته لا مماته، وان يكون مما يصح له التملك ؟

وأن ما يأتي لها من الأموال مَنْ له الحق في تسلمها وصرفها ؟ وما هي الجهة التي خوّلت جهازها الإداري تولي ذلك الحق من الإدارة والتسلم والصرف ؟ إلى غيرها من الأحكام العبادية المتعلقة بالصلاة، أو السلوكية المتعلقة بدفن المسلمين أو ارتياد غيرهم، وما يقتضيه أدب التعامل ـ التي ينبغي أن يكون عليها ذلك الزائر لتلك البقاع الطاهرة ـ سواء من جهة أمر الشرع ونهيه بالحرمة أو الندب أو الإباحة ونحوها، أو من جهة العرف المتدين القائم على احترامها، هذا من جهة .

ومن جهة أخرى لم يكن هناك بحث مستقل قائم برأسه في فقه العتبات، بل هناك أحكام وآراء اجتهادية وروايات مثبّتة في كتب الفقه والحديث في أماكن متفرقة، فاحتاج الأمر إلى عملية الجمع والنظم وإعادة الترتيب، كل هذا جعل الرغبة لي في أن يكون هذا سبباً لأختار موضوع ـ فقه العتبات المقدسة ـ الذي يجمع تلك الأحكام، ويستبين أقوال الفقهاء وأدلتهم المتعلقة بتلك الابنية المشّرفة ضمن فصول هذه الرسالة .

وتبعاً لهذا بُنيت الرسالة على أربعة فصول يسبقهن فصل تمهيدي ومقدمة، وخاتمة .

المقدمة : ضمت بيانا لما حوته الأطروحة من الفصول.

الفصل التمهيدي : حُدّد فيه التقديس المكاني.

وهو فصل تنظيري لمسائل جاءت أساساً للفصول التالية وكان في مبحثين :

عنوان المبحث الأول : التقديس المكاني في الفكر الديني : والبحث فيه حول تقارب الفكر الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي ـ إلاّ ما شذ ـ في تقديس تلك الأماكن، مع عرض لبعضها .

وعنوان المبحث الثاني : المفهوم الإسلامي لتعظيم الشعائر، البحث فيه بأربعة مطالب:

المطلب الأول : في زيارة القبور، والمطلب الثاني : في البناء على القبور، والمطلب الثالث : قاعدة الشعائر الدينية بين العموم والخصوص، والمطلب الرابع : الأسس الدينية لقداسة العتبات وقد جاء هذا الفصل منطلقاً لي في دحض ما يرد من إشكالات على ما أود الخوض فيه والبيان له من أحكام للعتبات المقدسة .

وأما الفصل الأول : تحديدات العتبة المقدسة، يتكفل إيضاح مبحثين :

المبحث الأول : حدود العتبة المقدسة. وكان الغرض من التحديد بيان الحدّ المسموح به لإجراء الأحكام المتناولة لدى الفقهاء وتطبيقها ضمن جغرافية المكان .

أما المبحث الثاني : وعنوانه الطبيعة الفقهية للعتبة، جاء البحث فيه لبيان المجال أو المصداق الفقهي لتعامل الناس مع هذا المكان المقدس، من حيث حرمته، وهل يمتاز عن غيره من الأماكن من حيث الأحكام ؟ لذا جاء التعامل معه على وفق مطلبين :

المطلب الأول : إلحاقها بالمسجدية. وفيه ما تناوله الفقهاء من محاولة لإعطاء ما يكون للمساجد من أحكام خاصة بها فهل تكون شاملة للعتبات أم لا ؟ وذلك من خلال الأدلة التي توجب أن تكون بيوتهم أو قبورهم مساجد، أو أدلة أخرى توجب الإلحاق ضمن أمور معينة .

المطلب الثاني : الوقفية. استطرد البحث فيه، ومن خلال ثلاثة فروع :

الفرع الأول : أدلة دعوة الوقف، وفيه محاولة عن إمكانية إثبات وقفية الأراضي المشيَّد عليها العتبات على أنها وقف، وذلك خلال النصوص الواردة عن طريق المعصومين (ع)أو مثبتات الوقف .

الفرع الثاني : البحث فيه عن مقتضيات القول بالوقف وعن حقيقة الوقف وأقسامه، ومن أي أنواع الوقف أراضي العتبات ؟

الفرع الثالث : وقع البحث فيه على ما أوقفت عليه العتبة.

أما الفصل الثاني : وعنوانه إدارة العتبات المقدسة .

وقع البحث فيه لدراسة إدارة تلك المؤسسة، وذلك من خلال سلطة الولاية او التولية أو النظارة أو السدانة وجاءت دراسته وفق ثلاثة مباحث :

المبحث الأول : أحكام التولية على العتبات .

أما المبحث الثاني : في أنواع المتولين ضمن ثلاثة مطالب:

الولاية الأصلية على الوقف والولاية الفرعية على الوقف وولاية السادن .

أما المبحث الثالث : فقد تكفل ببيان أجرة المتولي وفق مطلبين : آراء الفقهاء في أخذ الأجرة ومحاسبة ناظر العتبة أو المتولي .

أما الفصل الثالث: فعنوانه : الموارد المالية للعتبات المقدسة .

انطوى على مبحثين :

المبحث الأول : التكييف الفقهي لأموال العتبات المقدسة، وفيه بيان لمطالب ثلاثة : مشروعية الأموال الموقوفة والأموال المنذورة والمهداة والأموال الموصى بها .

المبحث الثاني : الإنفاق الشرعي لأموال العتبات ويتضمن ثلاثة مطالب :

عالج الأول الإنفاق المالي مع وجود المقتضي، والثاني الإنفاق المالي مع وجود المانع، وبيّن الثالث إمكانية استثمار أموال العتبات المقدسة .

أما الفصل الرابع عنوانه : أحكام التصرفات الشخصية في العتبات المقدسة، وفيه مبحثان : المبحث الأول : أحكام الجوانب العبادية، والمبحث الثاني : أحكام الجوانب غير العبادية .

وقع البحث في الأول : عن حكم الصلاة داخل الروضات المشرّفة مع وجود القبر الشريف متقدماً أو محاذياً، أو خلفه، ضمن المطلب الأول، أما المطلب الثاني فقد احتوى على مسألة حكم الصلاة للمسافر داخل العتبات المقدسة على نحو التخيير من حيث القصر أو الإتمام .

أما المبحث الثاني : فعن الجوانب غير العبادية التي كانت موضوعة للبحث وفق مطالب ثلاثة :

أولهما : مشروعية نقل الموتى ودفنهم في مدن المشاهد المشرفة.

وثانيهما : حكم ارتياد غير المسلمين للعتبات المقدسة .

وثالثهما : انطوى على أحكام متفرقة مختصة بالزيارة وآدابها .

ثم آخر الفصول كانت الخاتمة : وقد اشتملت على أهم النتائج المتحققة من الفصول المبحوثة، مع توصيات ومقترحات .

هذه أهم الفصول التي حاولت أن أرصدها وأسلط الضوء عليها ضمن هذه الدراسة المتواضعة والتي وقفت فيها على آخر فتاوى فقهائنا، أطلب بذلك رضى ربي، وإظهار حقيقة تلك البيوت، التي أمر الله سبحانـه وتعـالى أن ترفـع ويذكر فيها اسمه ـ من حيث الأحكام الشرعية المتعلقة بها ـ وخدمة للنبي (ص) وأهل بيته الطيبين الطاهرين (ع)، فان تحقق المراد فهو غاية المنى، وسبيل ذلك عون الله وتوفيقه، وان كانت الصورة لبيان تلك الأحكام وما وقع فيها من الهنات والأخطاء فهو من عجزي وقلة حيلتي، واسأل الله سبحانه وتعالى أن يُعينني على كشفها والأخذ بما يهديني إلى سواء السبيل إنه نعم المولى ونعم النصير .

((وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) .

صدق الله العلي العظيم

***

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة الانشقاق : 6 .

(2) إشارة إلى الرواية الشريفة عن هشام بن الحكم عن الإمام موسى بن جعفر (ع) : «إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (ع)، وأما الباطنة فالعقول» أنظر : الأصول من الكافي : الكليني، محمد بن يعقوب، دار الكتب الإسلامية إيران، الطبعة الثالثة : 1388هـ، ج1 : كتاب العقل والجهل، حديث : 12 .

(3) سورة الأحزاب : 33 .

(4) سورة النور : 36 .

(5) ظ : وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الحر العاملي، مطبعة دار إحياء التراث العربي : بيروت، الطبعة الخامسة : 1403هـ، ج10 : باب 26 من أبواب استحباب عمارة مشهد أمير المؤمنين (ع) ومشاهد الأئمة (ع).