الفصل الأول

تحديدات العتبة المقدسة

 

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: حدود العتبة المقدسة

المبحث الثاني: الطبيعة الفقهية للعتبة

 

 

المبحث الأول

حدود العتبة المقدسة (الحدود المكانية)

 

الحدود جمع حد، والحد لغة هو: «الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر، وجمعه حدود .. ومنتهى كل شيء حده ... ومنه اخذ حدود الارضين وحدود الحرم أو الحرمين»(1). وأصل الحد هو المنع أو الحاجز أو ما ينتهي إليه الشيء ولا يتعداه .

وقد كان التعريف منتزعاً من أصلين للحد جمعهما القرآن الكريم في بيان حدود الله سبحانه.

الأول: حدود الأمر بالامتثال: فعبر عنها ((تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا))(2).

الثاني: حدود النهي بالاجتناب، فعبّر عنها:((تِلْكَ حُدُودُ الله فَلا تَعْتَدُوهَا))(3).

فان النهي هو «أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل»(4)، وان الأشياء من أقوال أو أفعال أو ما نحن فيه من مساحات، لما حددت بحدود أعطتها هذه الحدود الصيغة الشرعية من حيث التعامل معها سواء كانت أرضا أو عقاراً أو بئراً أو عتبة لمعصوم أو غيرها.

فما حدود العتبة المكانية ؟ لا يخفى أن مراقد المعصومين (ع)وعتباتهم، قد مر تطويرها بالشكل الذي عليه اليوم بعدة مراحل عمرانية متعددة ذكرتها كتب الموسوعات(5).

فمثلاً عمارة توسعة عتبة أمير المؤمنين (ع) بعد أن كانت مختفية منذ وفاته 40هـ مرت بخمس عمارات آخرها في عهد السلطان صفي حفيد الشاه عباس الأول أحد السلاطين الصفويين، وهي العمارة الحاضرة. وكذلك باقي العتبات، وهناك محاولة للتوسعة على غرار توسعة حرم الإمام الرضا وعتبته(ع) في مدينة مشهد المقدسة.

وقد أوضح قانون العتبات في العراق حدود عتبات الأئمة (ع) بأنها: «هي العمارات التي تضم مراقد أهل البيت (ع) والبنايات التابعة لها في النجف الاشرف، وكربلاء، والكاظمية، وسامراء، ويلحق بها مرقد العباس في كربلاء»(6).

وكنموذج بيَّن قانون النظام الداخلي للعتبة العلوية المقدسة في النجف الاشرف وحدودها وما اشتملت عليه حيث ذكر :

«هي العمارة القائمة التي تضم البقعة المطهرة المحيطة بالمرقد المقدس لوصي رسول الله (ص) أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، التي تعلوها القبة المشرفة المحاطة بالأروقة، والمنافذ من الجهات الأربعة، والتي تتصل بدورها بالأسوار المحيطة بها عبر الساحة (الصحن)، وكل العمارات التي تشيد، وتلحق بالعمارة القائمة، ويشمل هذا المفهوم المنشآت والموجودات التي تحتويها العتبة جميعاً»(7).

فالتعريف أوضح شمول العتبة لكل ما دار عليه سور الصحن، من الروضة المباركة والرواق والصحن وجميع المنشآت المشيدة داخلها حالياً أو ما سيلحق بها .

فما هي تلك العمارة المشتملة عليها العتبات:

ـ الروضة المقدسة:

الروضة في اللغة: الأرض ذات الخضرة، وقيل: البستان الحسن، وقيل الموضع يجتمع إليه الماء ويكثر نبته، ولا يقال في موضع الشجر روضة(8)، وهي القطعة المنتزعة من الجنة . وقد ورد في الحديث الشريف كنايةً عن تلك الأرض الخضرة والبستان الحسن بانها مجالس المؤمنين. عن أبي عبدالله(ع) قال رسول الله(ص): «إذا رأيتم روضة من رياض الجنة فارتعوا فيها، قيل: يارسول الله وما الروضة؟ فقال: مجالس المؤمنين»(9).

وهي حلق الذكر التي دعا لها رسول الله(ص)للمبادرة(10).

وفي الاصطلاح هي: «الضريح وكل ما حوله المتصل له في المسجد أو المشهد، كروضة المسجد النبوي، وهي ضريح النبي (ص) وروضة مشهد الإمام الحسين (ع)»(11).

التعريف يبين نموذجين لحدود الروضة، وقد أعطى عنواناً عاماً بشموله للمسجد أو المشهد.

وقد حددت روضة رسول الله (ص) الوارد ذكرها بما روي عنه من الأخبار المعتبرة ، وعن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (ع) قال: «قال رسول الله (ص): ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة، وقوائم منبري ربت في الجنة، قال: قلت: هي روضة اليوم قال: نعم لو كشف الغطاء لرأيتهم»(12). وعلى رواية «ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة» (13).

وقد روي في الفقيه إن الزهراء (ع) دفنت بين القبر والمنبر واستحباب زيارة النبي وفاطمة الزهراء في هذا المكان(14) .

وجاء في مصباح المتهجد: «ثم ادخل الروضة الشريفة وقف محاذياً للرأس الشريف وقل...، ثم زر فاطمة (ع) من عند الروضة»(15).

وحددت تلك الروضة بما ورد عن مرازم قال: سألت أبا عبد الله (ع) عما يقول الناس في الروضة ؟ قال: «قال رسول الله (ص) وساق الحديث المتقدم، فقلت له: جعلت فداك فما حد الروضة ؟ فقال: بعد أربع أساطين من المنبر إلى الظلال، فقلت: جعلت فداك، من الصحن فيها شيء ؟ قال: لا» (16).

فالروضة هي ما بين القبر والمنبر إلى الأساطين التي تلي صحن المسجد، وليس في الصحن من الروضة بشيء(17)، وهذا يظهر من رواية أبي بصير عن الإمام الصادق (ع): «حد الروضة من مسجد رسول النبي (ص) إلى طرف الظلال»(18) .

وقد جاء في كتب الفقهاء بيان بعض الأحكام، أو آداب الزيارة المتضمنة تحديدات لهذه البقعة:

1 ـ «من أراد الصلاة في العتبات المقدسة في نفس الروضة الشريفة التي فيها الضريح فعليه أن لا يتقدمه في موضع صلاته قبر المعصوم»(19).

2 ـ أوضحت روضة الإمام الحسين (ع) عند بيان حدود حائر الحسين (ع) «الأقوى دخول تمام الروضة في الحائر، فيمتد من طرف الرأس إلى الشباك المتصل بالرواق، ومن طرف الرجل إلى الباب والشباك المتصلين بالرواق، ومن الخلف إلى حد المسجد، ودخول المسجد والرواق الشريف فيه أيضا»(20).

وبعد إخراج المسجد والرواق لأنهما من الحائر يتضح معنى الروضة الحسينية وهذا التحديد ناظر لما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: «قبر الحسين (ع) عشرون ذراعاً مكسراً روضة من رياض الجنة»(21).

وما ورد عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «إن لموضع قبر الحسين بن علي حرمة معروفة، من عرفها واستجار بها أجير قلت: فصف لي موضعها جعلت فداك، قال: امسح من موقع قبره اليوم خمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رجليه، وخمسة وعشرين ذراعاً مما يلي وجهه، وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه وموضع قبره من يوم دفن روضة من رياض الجنة، ومنه معراج يعرج فيه بأعمال زواره إلى السماء ...» (22).

فعليه تكون الروضة هي:

موضع القبر بما دارت عليه القبة الشريفة من مكان دفن المعصوم (ع) وما يحيط بقبره الشريف من مساحة تنتهي إلى سور يفضي إلى أبواب أو شبابيك تكون مداخل ومخارج للوافدين لزيارته والصلاة عنده .

ـ الرواق:

لغة: روق البيت: مقَّدمه ورواقه: ما بين يديه وقيل: سماواته وهي الشقة التي دون العليا والجمع أروقه . وقال عنه الجواهري: الروق والرواق سقف في مقدم البيت، والرواق: ستر يمد دون السقف، ويقال بيت مروق(23). ومنه قول الأعشى «فظلت لديهم في خباء مروق» . فالرواق بناء أو عمارة تختلف عن الروضة أو المشهد .

ويتبين من أقوال العلماء أن الرواق هو الساحة المحيطة بالروضة وهو ما يكون ملاصقاً بالروضة، وهذه نماذج من عباراتهم :

1 ـ روي لحادثة بين عمران بن شاهين والسلطان عضد الدولة البويهي إن الأول نذر إن عفا عنه السلطان يبني أروقة في المشهد الغروي والمسجد الحائري، وعندما تحقق مراده بنى تلك الأروقة(24)، وهذه الأروقة هي «أول من ربط حرم الحائر بالرواق المعروف باسمه رواق ابن شاهين» (25) ويسمى اليوم رواق السيد إبراهيم المجاب بالنسبة إلى حرم الإمام الحسين (ع) .

2 ـ دفن السيد إبراهيم المجاب (ره) في الزاوية الشمالية الغربية من الرواق، وهو معروف بقبره(26).

3 ـ دفن نقيب الطالبيين الشريف الحسين (ره) والد الشريفين الرضي والمرتضى في داره أولا، ثم نقل جثمانه الطاهر إلى مشهد جده الإمام الحسين (ع) بمدينة كربلاء، ووري جسده الطاهر في رواق الروضة المقدسة عند جده إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر (ع)(27).

4 ـ وعند تعمير الروضة العلوية فتح باب ثان من الإيوان الذهبي يفضي الباب إلى الرواق العلوي، فصار قبر العلاّمة في حجرة صغيرة مختصة به، ويقابلها حجرة صغيرة أخرى هي قبر المحقق الاردبيلي(28).

ومنه يظهر أن الرواق: ساحة محيطة وملاصقة بالروضة المباركة يعلوها سقف بامتداد الروضة تحتوي تلك المساحة على ايوانات للدرس وغرف لدفن العلماء والسلاطين وغيرهم من أصحاب المنزلة واليوم لم يعد لتلك الغرف من وجود بسبب التحديثات العمرانية المطلوبة لتوسعة العتبة.

ـ الصحن الشريف :

لغة: يطلق على اتساع في شيء أو على ما اتسعت بطنه مثل ساحة وسط الدار، وساحة وسط الفلاة ونحوهما من متون الأرض، والصحن: المستوي من الأرض(29).

اصطلاحاً: هو المساحة المكشوفة التي تحيط بالأضرحة المقدسة، تنتهي تلك المساحة ـ الرحبة الواسعة ـ المفروشة عادة بسور يتقوم من طبقة أو طبقتين بداخله عدد من الأواوين والغرف(30).

وقد أعدت هذه الغرف أو الحجر ليتلقى بها طلاب الدين دروسهم، ومقابر للملوك والأمراء والسلاطين، وكبار رجال الدين وسراة الناس(31).

وتقام في الصحن الشريف مجالس الوعظ والإرشاد، أما اليوم فان تلك الحجر فاغلبها فتحت لخدمة العتبة من صيانة أو حماية أو إعلام أو مركز طبي أو خدمي أو مكتبة أو حوزة علمية أو متحف أو غيرها .

وقد جعلت للحدود حرمة تدور حول معنيين:

أولاً: ما لا يحل التجاوز عليه وانتهاكه: وهو الواجب فعله .

ثانياً: بمعنى الاحترام والتقديس والمهابة: وهو المستحب فعله .

وينبغي بيان تلك الأحكام وما تطرق إليه الفقهاء من حيث:

1 ـ الحرمة أو الكراهة أو عدمهما بالنسبة إلى دخول الجنب والحائض، أو الكتابيين إلى المشاهد المشرفة .

2 ـ تخيير الصلاة لمن كان مسافراً بين القصر والتمام كما لو كان في حرم النبي(ص) أو حرم الحسين (ع) وربما تعدّى بها إلى جميع المشاهد .

3 ـ مصرف النذور والهبات والأوقاف والوصية .

كل هذه الأمور وغيرها تفعيلها وتطبيقها مرتبط بضبط حدود العتبة، فهل هي مرتبطة بحدود ما تحت القبة الشريفة، أو الصحن القديم، أو ما دار عليه سور الصحن الحالي ؟ أو ما سيؤول اليه وفق التوسعات اللاحقة، أو أوسع من ذلك اي شمول المدينة كاملة بتلك الأحكام من دون النظر إلى حدود العتبة أو سورها كما في مدينة الرسول (ص) فإنها حرم كلها وكما سيأتي بيان ذلك .

فالغرض أن تحديد العتبة مكانيا مهم في بيان تلك الأحكام وسيأتي التعرض لهذه الأحكام ونحن نواكب السير ضمن فصول هذه الرسالة .

 

***

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لسان العرب: ابن منظور، مجلد 2: مادة (حدد).

(2) سورة البقرة: 187.

(3) سورة البقرة: 229.

(4) الكشاف: الزمخشري، ج1: 340.

(5) ظ: موسوعة العتبات المقدسة بجميع أجزائها: جعفر الخليلي، موسوعة المصطفى والعترة (ع): حسين الشاكري وغيرها.

(6) جريدة الوقائع العراقية: قانون إدارة العتبات المقدسة والمزارات الشيعية الشريفة العدد: 4013 صادرة في 28 كانون الأول 2005م.

(7) النظام الداخلي للعتبة العلوية المقدسة: المقر بتاريخ 9: 6: 2006م، بمباركة مكتب آية الله العظمى السيد علي السيستاني: 8.

(8) ظ: تاج العروس: الزبيدي، ج5: 38 .

(9) من لا يحضره الفقيه: الصدوق، محمد بن علي، مؤسسة البعثة: قم المقدسة، الطبعة الاولى: 1417هـ، ج3: حديث 4749 .

(10) ظ: الأمالي: الصدوق: 444 .

(11) معجم ألفاظ الفقه الجعفري، فتح الله، د. أحمد، الطبعة الأولى 1415هـ: 213 .

(12) الوسائل: الحر العاملي، ج14: أبواب المزار باب 7: حديث .

(13) كامل الزيارات: ابن قولويه، باب زيارة قبر رسول الله: حديث: 2 .

(14) ظ: من لا يحضره الفقيه: الصدوق، محمد بن علي، ج2: 340، والوسائل: ج14، أبواب المزار، ب 18: حديث 4 .

(15) مصباح المتهجد: الطوسي: بيروت، الطبعة الأولى: 1991، 711 .

(16) الكافي: الكليني، ج4: باب المنبر والروضة ومقام النبي (ص)، حديث: 4 .

(17) ظ: المهذب: ابن البراج، جامعة المدرسين: قم، 1406هـ، ج1: 277 .

(18) الكافي: الكليني، ج4: باب المنبر والروضة ومقام النبي (ص)، حديث: 5.

(19) الفتاوى الواضحة: الصدر، محمد باقر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، الطبعة الاولى: 1412هـ: 471 .

(20) العروة الوثقى: اليزدي، محمد كاظم، مؤسسة النشر الإسلامي: قم المقدسة، الطبعة الاولى: 1420هـ، ج3: 517 .

(21) الوسائل: الحر العاملي، ج10، باب 67، حد حرم الحسين (ع)، حديث: 6 .

(22) الكافي: الكليني، ج4، باب النوادر من أبواب الزيارات، حديث: 6 .

(23) ظ: لسان العرب: ابن منظور، ج10: مادة (روق) .

(24) ظ: فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين: ابن طاووس: 67: تحقيق تحسين الموسوي، مطبعة محمد: 1998م: 170.

(25) البحار: المجلسي، ج10 .

(26) ظ: الفوائد الرجالية: بحر العلوم محمد مهدي، مطبعة الآداب: النجف الاشرف، الطبعة الاولى: 1386هـ، ج1: 438 .

(27) ظ: مسائل الناصريات: المرتضى، مؤسسة الهدى: طهران 1417هـ، 11 .

(28) ظ: قواعد الأحكام: العلامة الحلي: تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاولى 1413هـ: 158.

(29) ظ: لسان العرب: ابن منظور، ج13: مادة (صحن) .

(30) ظ: ماضي النجف وحاضرها: محبوبة، جعفر ج1: 218.

(31) ظ: تاريخ المشهد الحسيني: الشهرستاني، هبة الدين الحسيني: 145 .