طب الإمام الرضا (عليه السلام)

المسماة بالرسالة الذهبية

(التي بعث بها الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام)

إلى الخليفة عبدالله المأمون العباسي

 

وضع المقدمة

العلامة السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

روح طيبة تحب الخير وتسعى من أجله، فهي تحدو بصاحبها نحو الفضيلة، تلكم هي روح الاُستاذ محمّد كاظم الكتبي سلّمه الله، فقد عرفته في حدود عمله الوحيد الّذي يواصل جهاده المشكور في خدمة الدين والعلم واتحاف القرّاء بألوان شتى من كتبه الّتي يقوم بطبعها ويعنى بنشرها.

وله وفقّه الله لفتات طيبة في حسن اختيار ما ينشره ممّا يقوّم النفس ويهذّب الأخلاق ويعالج الروح، أمّا اليوم فقد عزم على اصدار مجموعة طبية طيبة تعالج جسم الإنسان كما تهذّب روحه وانّها لفتة طيبة خيرة.

فطلب إليَّ أن اُصدّرها بتعريف مؤلّفيها تعريفاً يتناسب وحجم الكتاب، يكون تقديماً بين يدي القارئ، وكان الأحرى به ـ والحقّ يقال ـ أن يتولى ذلك شخص له خبرة تامة بالطبّ وفروعه ليتولى كشف ما اشتملت عليه تلكم الرسائل من أسرار طبّية في التشريح والأحياء والأجنة والفسلجة ـ وظائف الأعضاء ـ والأمراض وحفظ الصحّة والوقاية والغذاء وغير ذلك، ولكنّه سلّمه الله رغب إليَّ أن اُقدّم كلّ رسالة بما يتيسر لي، فاقتصرت على تعريف مؤلّفيها تاركاً ما ليس من اختصاصي ـ من كشف أسرار طبية ـ عسى أن يوفّق الله بعض أطبائنا المؤمنين فيكشفوا لنا غوامض تلكم الرسائل على ضوء الإكتشافات العلمية الحديثة، وأكبر الظن أ نّهم سيقفون على أسرار ربّما كانت فتحاً جديداً في عالم الطب اليوم.

والآن ونحن على أعتاب رسالة كتبها إمام جليل من أئمّة التشريع الإسلامي إلى أعلم خليفة امتاز بلاطه بجمهرة من العلماء ذوي الإختصاص إزدان بهم عصره حتّى فضل عصور الخلافة الإسلامية.

وتلك الرسالة هي الرسالة الذهبية، وهي بحقّ ذهبية، الّتي كتبها الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) بطلب من الخليفة عبدالله المأمون العبّاسي، تناول فيها جوانباً من الطب على ضوء ما استفاده(عليه السلام) شخصياً من مسموعاته وتجاربه (في الأطعمة والأشربة وأخذ الأدوية والفصد والحجامة والحمّام والنورة والباه وغير ذلك ممّا يدبّر استقامة أمر الجسد)(1).

ولمّا كانت طبيعة التقديم تقضي بتعريف المؤلّف والمؤلّف وأسلفت عذري عن تعريف المؤلَّف بما يحق وينبغي، فلا مناص من تعريف المؤلِّف باستجلاء شخصيته للقارئ الكريم.

ولمّا كانت شخصية الإمام الرضا(عليه السلام) متشعبة الجوانب أسمى من أن يحيط بها بياني، وواضحة نيّرة أجل من أن يكشفها قلمي، فقد وقفت حائراً أمام عظمته صلوات الله عليه، فأي نواحي عظمته أختار عرضها وكلّها عظيمة، وأي جانب منها فيه غموض حتّى يحسن بمثلي أن يكشفه، وحياته كلّها لا غموض فيها ولا تعقيد.

ففكرت واستعرضت فلم أر في تاريخه سلام الله عليه حَدَثاً خطيراً قد اكتنفته بعض سحب الصيف السريعة الزوال، فاضطربت الآراء في معرفة كنهه، وعملت الأهواء على إخفاء شأنه، إلاّ أمر ولاية العهد، فاخترت ـ ولي رأيي ـ أن أتناول هذا الجانب من حياته(عليه السلام) عسى أن اُوفق إلى أن اُلمس القارئ أسباباً دعت إليها لعلّه يستبين له واقع الأمر جلياً من وراء ذلك، فيجد في البحث إجابة على بعض علائم الإستفهام الّتي تلي كثيراً من النقاط ذات الصلة بالموضوع.

وقبل الخوض في ذلك لابدّ من معرفة شيء باختصار من تاريخ حياة الإمام(عليه السلام).

 

الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام):

هو ثامن أئمّة المسلمين، وخلفاء الله في العالمين، ولد يوم الجمعة 11 ذي القعدة سنة (148 هـ) بالمدينة المنورة، اُمّه اُم ولد، إسمها نجمة، عاش مع أبيه 29 سنة وأشهراً، قام بالأمر ـ الإمامة ـ بعد أبيه فكانت مدّة إمامته 20 سنة وسبعة أشهر.

عاصر من الخلفاء العبّاسيين المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، والأمين، والمأمون وهو الّذي اختاره لولاية العهد، وسيأتي الحديث عنها.

كان(عليه السلام) أفضل أهل زمانه وأعلمهم، وقد ظهر من علمه بمحضر المأمون في مجالس المناظرة ما أفحم علماء الملل ومتكلّميهم، وحيّر جهابذة الفنون والعلوم، توفى بالسم يوم 17 صفر سنة (203 هـ).

أعقب من ولده أبي جعفر الجواد، واختلف المؤرّخون والنسّابون في أنّ له أولاداً غير الجواد، أم لا؟

وأهم حدث سياسي خطير في تاريخ حياته(عليه السلام) هو ولاية العهد، ولابدّ من البحث عن ذلك الحدث ـ بإختصار طبعاً ـ وكشف بعض النقاط والحوادث الّتي سبقته، فانّها تسلط الأضواء على الدواعي الّتي اضطرت المأمون العبّاسي إلى إسناد ولاية العهد إليه(عليه السلام).

 

ولاية العهد:

كان المأمون العبّاسي يعيش في خضمّ الأحداث السياسية، فهو بين نقمة العبّاسيين الحانقة لخلعه ابن اُختهم محمّد الأمين، وأخيراً قتله، وبين ثورات العلويين المتتابعة، فاُولئك يحنقون عليه ويكيدون له، وهؤلاء ما برح الثائر منهم يدعو الناس إلى الرضا من آل محمّد، وهي نغمة وإن سبقت عصر المأمون وآبائه، بل كانت من أيّام بني مروان، فإنّها السلاح الّذي يشدّ به عضد الثائر، ويفتك بالحكم القائم أياً كان صاحبه.

فهذا عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر نهض بالكوفة أيّام يزيد الناقص، ودعا الناس إلى البيعة للرضا من آل محمّد، واستجاب له الناس حتّى قاتلوا معه، ولمّا ظن نجاح دعوته عدل عن الدعوة إلى الرضا من آل محمّد ودعا إلى نفسه، فتخاذل عنه الكثير من الناس حتّى اضطر إلى مغادرة الكوفة ـ مهد الدعوة ـ فارّاً بنفسه إلى إصفهان والري وقومس وهمدان(2).

وأدرك العبّاسيون أنفسهم مدى تأثير الدعوة إلى الرضا من آل محمّد وضمان نجاحها، فكانوا في بدء أمرهم يدعون إلى الرضا من آل محمّد(3).

وحتّى أنّ مؤتمر الأبواء للهاشميين تمخض عن البيعة لمحمّد بن عبدالله النفس الزكية ـ قتيل أحجار الزيت ـ باعتبار أ نّه المهدي من آل محمّد، ولمّا بث العبّاسيون دعاتهم في الأمصار كان شعارهم الدعوة إلى الرضا من آل محمّد، الطابع المحبوب لدى عموم المسلمين.

فكان وسام الإنتساب إلى آل محمّد هو الدافع والوازع، أوّلا وأخيراً لجمع الأنصار وإلتفافهم حول الدعوة الجديدة، فأبو سلمة الخلاّل الداعي بالكوفة تلقّب بوزير آل محمّد، وأبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة بخراسان يدعو الناس إلى الرضا من آل محمّد(4).

وهكذا تمّت الدعوة وقضي على دولة بني مروان وطويت صفحة تاريخهم الأسود بسيوف أنصار آل محمّد، استجابة لداعي آل محمّد، وتدبير وزير آل محمّد، وكلّهم يريدون بيعة الرضا من آل محمّد.

فالرضا من آل محمّد هو الشخص المحبب إلى الناس وله يستجيبون ويبايعون.

ولمّا اختلس بنو العبّاس الأمر من أبناء عمّهم العلويين، أَحفظَ ذلك غير واحد من ساداتهم، فكانت ثوراتهم متوالية ودعوة جلهم إلى الرضا من آل محمّد.

فهذا الحسين بن عليّ صاحب فخ كان عنوان دعوته البيعة إلى الرضا من آل محمّد(5).

وهذا محمّد بن إبراهيم صاحب أبي السرايا، نهض بالكوفة سنة (199 هـ) ودعا إلى الرضا من آل محمّد(6)، ولقّب نفسه بالرضا من آل محمّد.

وهذا محمّد بن محمّد بن زيد الشهيد القائم بالأمر بعد مقتل محمّد بن إبراهيم المذكور، ووارث لقبه الرضا من آل محمّد(7).

وهذا الحسن بن هرش نهض بخراسان سنة (198 هـ) ودعا إلى الرضا من آل محمّد(8).

وهكذا غيرهم، فالدعوة إلى الرضا من آل محمّد هي النغمة الّتي يردّدها ثوار العلويين ودعاتهم، ويسعى الناس على إيقاعها.

وتتابعت ثورات العلويين في أنحاء البلاد الإسلامية، وكتب النجاح لبعضها فاستولت على بعض البلدان، فكان المغرب الأقصى وجزء كبير من الأدنى تحت حكم الأدارسة من أيّام الرشيد، وكانت حكومة اليمن علوية مستقلة عن حكومة المأمون العبّاسية، وكانت البصرة في وقت تحت حكم زيد بن موسى بن جعفر الملقّب بزيد النار، وكانت مكّة والمدينة انفصلت عن حكومة المأمون أيّام ثورة محمّد الديباج وكانت الكوفة كسابقتها وكانت...

فهذه الدعوة وهذا الشعار ـ الرضا من آل محمّد ـ ممّا يلفت نظر سائر الناس، فكيف بالمأمون العبّاسي وهو هو في حنكته وسياسته ودهائه وتدبيره.

فهو كان يتتبع هذه الأحداث كلّها بدقة تامّة ويستجلي بواعثها وينظر في عواقبها، فرأى أنّ خير ما يقطع به دابر الثوار ويخمد به مشاعرهم الملتهبة، ويقبر دعواتهم في أمهادها، هو أن ينظر رجلا من العلويين من آل محمّد، ممّن يفوقهم في علمه ودينه وشرفه وفضله فيلقّبه بالرضا، ويجعله ولي عهده، ويخطب باسمه على المنابر، حتّى لا يطمع أحد من العلويين بعد ذلك بالثورة والدعوة إلى الرضا من آل محمّد، هذا من جهة فتح ونجاح سيظفر بعده بموالاة شيعة أهل البيت وإخلاصهم وهو كسب وفوز يحتاج إليه المأمون، وهو يتبوأ مركزاً حساساً تجتاحه العواصف بين حين وآخر.

ولكن ابن مراجل لم يكن سطحياً في تفكيره، ولا ساذجاً في حسابه، فوراء ذلك نقمة ثلاثة وثلاثين ألفاً من العبّاسيين ببغداد، سوى من يتشيّع لهم، ووراء ذلك هنات وهنات، فلابدّ إذن من التفكير في كسب الجانب الآخر، وغسل درن صدورهم عن فعلته بابن اُختهم العبّاسي الصميم، ويزيد ذلك شرّاً تقريب العلويين واتخاذ ولي عهد منهم.

فدبّر لنجاح خطّته الثانية هي التخلص من ذلك العلوي بسلاح لا يريق به دماً ولا يعلن به قتلا، وهو سلاح فاتك استعمله ويستعمله حكّام الجور بمن يريدون الفتك به والتخلص منه، مع أمن المغبة وأمان من العاقبة، وذلك هو (السم).

فقد استعمله الحكّام باسم الإسلام من أيّام معاوية فقد سم اُناساً منهم: مالك الأشتر وعبدالرحمن بن خالد، وأخيراً سم الإمام الحسن الزكي، واستعمله بعده القائمون على عرشه، وحذا حذوهم العبّاسيون آباء المأمون، فلا قلق في نفسه لو استعمله مع من يريد التخلص منه، وكيف يقلق وقد استعمله هو مع طاهر بن الحسين الخزاعي، مع ما لطاهر من أياد بيضاء عليه، كان على ابن مراجل شكرها، فقد سعى بسمه حين ولاّه خراسان(9).

وفكر المأمون وقدّر ـ قتل كيف قدّر ـ أنّ أوّل رجل ينفذ فيه خطته هو الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) لأسباب أهمّها:

1 ـ قول شطر كبير من المسلمين بإمامته.

2 ـ فضله وعلمه ودينه، فلا يوازيه أحد من الطالبيين في موكب ولا منكب.

3 ـ تلقيبه بـ (الرضا) من زمن بعيد، ربّما يرجع تاريخه إلى أيّام النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في بعض الأحاديث.

وهذه الأسباب الثلاثة تكفي المأمون حاجته، وتدفعه لأن يسعى بجهده لتحقيق رغبته، وفعلا صمم على عزمه، وأعد المقدّمات حتّى استخلص النتيجة، وهي حمل الإمام عليّ بن موسى مع جماعة من العلويين، فحملهم مخفورين على طريق البصرة فالأهواز، وهنا تبدو علامات الإستفهام لماذا حملهم مخفورين؟ ولماذا كان طريقهم على البصرة والأهواز؟ دون الكوفة وقم؟!

وللإجابة عليهما معاً يحسن بنا تنبيه القارئ إلى انّ المأمون مرّت به تجربة شبيهة بهذه الحادثة ـ وهو امرؤ استفاد من التجارب كثيراً ـ وذلك انّه أمر بحمل جماعة من الطالبيين فيهم محمّد بن جعفر الديباج، فلمّا مروا بزبالة خرج عليهم الغاضريون فاستنقذوهم من الجلودي ـ آمر الخفارة ـ بعد حروب طويلة صعبة، فمضى العلويون بأنفسهم إلى الحسن بن سهل ـ وزير المأمون ببغداد ـ فأنفذهم إلى خراسان إلى المأمون(10) فأكبر الظن أ نّه احتاط للأمر، فحملهم على طريق البصرة والأهواز، إذ بات من المعلوم لديه أنّ الكوفة وقم مهبط التشيّع، وما يؤمّنه من ثورة أهلها لو رأوا الإمام وأبناء عمّه مخفورين.

وأياً ما كان فقد تم للمأمون تدبيره، وتم اعلان ولاية العهد سنة (201 هـ)(11) بعد أن اُكره الإمام على قبولها بشروط اشترطها، أخفق معها المأمون في مسعاه ذلك، فلم يدرك حاجته كما يريد رغم أ نّه زوّج الإمام بابنته اُم حبيب توكيداً لأمره.

روى معمّر بن خلاّد قال: قال لي أبو الحسن الرضا(عليه السلام): قال لي المأمون: يا أبا الحسن، لو كتبت إلى بعض من يطعك في هذه النواحي الّتي قد فسدت علينا.

قال: قلت يا أميرالمؤمنين، إن وفيت لي، وفيت لك، إنّما دخلت في هذا الأمر الّذي دخلت فيه، على أن لا آمر ولا أنهى ولا اُولي ولا أعزل، وما زاد في هذا الأمر الّذي دخلت فيه في النعمة عندي شيئاً، ولقد كنت في المدينة وكتابي ينفذ في المشرق والمغرب، ولقد كنت أركب حماري وأمر في سكك المدينة، وما بها أعز منّي، وما كان بها أحد منهم يسألني حاجة يمكنني قضاؤها له إلاّ قضيتها له.

قال: فقال لي: أفي لك(12).

لاحظ هذه الرواية وتأمّلها، نجد أنّ المأمون يطلب من الإمام أن يكتب إلى من يطيعه من الثوار في أنحاء البلاد، فيجيبه الإمام بالشروط الّتي دخل عليها، ثمّ يشرح له واقعه الّذي كان يعيش به في المدينة، ويلمس المأمون في جواب الإمام انذاراً خفياً، يهدد عرشه المكين وسلطانه الجبّار.

وللإمام كلمة نصّت عليها وثيقة العهد، ينفذ منها النور إلى أسرار تلك البيعة، وتسلط الضوء فتكشف نوايا المأمون السيّئة، وتلك الكلمة هي قوله: (والجفر والجامعة تدلاّن على خلاف ذلك)(13).

وبعد هذا كلّه اتضح للقارئ ـ فيما أعتقد ـ سر ولاية العهد، فقد قدّمنا نصوصاً تاريخية لمسنا فيها واقعاً لا لبس فيه ساعدتنا تلكم النصوص على كشف لعبة المأمون، وأخيراً دلّتنا على سياسته الميكافيلية الّتي شعارها ـ الغاية تبرر الوسيلة ـ ولمزيد الإيضاح فلنعرف المأمون، ثمّ نعود لنثبت ما قلناه عن سوء نيّته أوّل الأمر، وسوء فعله آخره.

 

المأمون:

عبدالله بن هارون الرشيد، اُمه باذغشية اسمها مراجل، ولد ليلة 14 ربيع الأوّل سنة (170 هـ) قبل مولد أخيه الأمين بستّة أشهر.

كان ذكياً ثاقب الفطنة، بعيد النظر، على جانب من العلم، وصفه الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) ـ في خطبته الّتي يصف فيها ملوك بني العبّاس ـ بأ نّه أعلمهم(14).

ولولا نفوذ أخوال الأمين في بلاط هارون لمكان زبيدة بنت أبي جعفر المنصور اُمّ الأمين، لكان المأمون هو ولي عهد أبيه، لتقدّمه في السن والفضل على أخيه الأمين، لكن تأثير اُولئك هو الّذي حمل الرشيد على إسناد ولاية العهد لابنه محمّد الأمين في سنة (175 هـ)، وفي سنة (183 هـ) جعل الرشيد ولي العهد من بعد الأمين أخاه المأمون، وخطب لوليي العهد معاً من تلك السنة على منابر المسلمين.

وقسّم الرشيد بينهما البلاد الخاضعة له، وحجّ في سنة (186 هـ)، وكتب عهداً بوفاء كلّ من ولديه لأخيه وأشهد عليهما وزراءه وولاته وقضاته ووجوه العبّاسيين، وعلّق ذلك العهد في الكعبة إبراماً له.

مات الرشيد سنة (193 هـ) بطوس، فنقض الأمين ببغداد ذلك العهد المبرم، وكتب إلى المأمون في سنة (194 هـ) أن يتنازل لابنه موسى بن محمّد عن ولاية العهد فأبى، وفي سنة (195 هـ) دعا الأمين لابنه موسى وأسقط اسم المأمون من الخطبة، وجرت خطوب كان ضحيتها الأمين فقد قتل سنة (198 هـ) ببغداد، حين دخلها طاهر بن الحسين الخزاعي قائد جيش المأمون، فاتحاً فجددت البيعة بها وباقي الأمصار للمأمون.

ونقم العبّاسيون فعل المأمون بابن اُختهم الأمين، وزاد في غيظهم توليته العهد بعد ذلك للإمام الرضا(عليه السلام) سيّد العلويين، فأعلنوا سخطهم فخلعوه وبايعوا سنة (202 هـ) إبراهيم بن المهدي(15) ـ شيخ المغنين ـ بالرغم من وجود الحسن بن سهل خليفة المأمون ببغداد، واضطرب أمر بغداد وكثر الشغب بها حتّى كادت أن تسقط من قائمة حساب المأمون(16) وهو لا يعلم بذلك كلّه، حيث كان وزيره الفضل بن سهل يكتم الأخبار عنه، حفاظاً على مكانة أخيه الحسن، وتسربت الأخبار إلى خراسان حتّى علم الناس بها فاضطر الإمام الرضا(عليه السلام) شأنه في النصح لعامّة المسلمين فكيف بمن التزم بالنصيحة له، فأخبر المأمون بخبر بغداد وشأنها(17).

وهنا يبدأ المأمون في التفكير فيما يصنعه لاسترجاع بغداد إلى حكمه، واقناع العبّاسيين بأمره، وذلك لا يتم إلاّ بانهاء المشهد الأخير من رواية ولاية العهد، وبعد اسدال الستار على آخر فصل منها، وإبادة عناصر اُخرى انتهى دورها، فعليه أن ينهي أمرها، فكان منهم وزيره الفضل بن سهل حقد عليه كتمان أمر بغداد، فأمر نفراً فاغتالوه بسرخس في حمّام بدار المأمون فقتلوه، ثمّ عطف عليهم المأمون فقبضهم وآخرين معهم ممّن لا يرغب بهم، بتهمة اغتيال الفضل بن سهل والتحريض على قتله، وصارحه بعض القائلين بأ نّه هو الّذي أمرهم، فلم يسمع لهم استغاثة وقتلهم جميعاً، وبعث برؤوسهم إلى بغداد إلى الحسن بن سهل ليطيّب قلبه عن قتل أخيه، ويدفع عن نفسه تهمة الإغتيال، وكان ممّن أخذه بتلك التهمة عليّ ابن سعيد ذا العلمين ـ ابن خالة الفضل ـ وآخرين ذكرهم التاريخ، وأقصى جماعة من قوّاده سمّاهم الشامتة، وبهذه الفعلة رمى بحجر واحد سرباً من العصافير(18).

أمّا تدبيره بالنسبة إلى أقوى عنصر في دولته، له من المكانة في النفوس ما تهدد المأمون بانهيار حكمه لو اغتاله قتلا كما صنع مع الفضل، وربّما تكشفت لعبته مع الفضل والمأخوذين به، فلم يكن له إلاّ السم، وهو سلاح سري يعطي نفس النتيجة المطلوبة دون إثارة شكوك فيما ظنه، وأكبر الظن أ نّه اضطر إلى سمه دون قتله غيلة، تجنباً للخطأ الّذي مرّ به في تجربته مع الفضل، يوم صارحه القاتلون بأ نّه هو الّذي أمرهم، والمأمون ذكي استفاد من التجارب كثيراً، فاحتاط للأمر وسمه بالعنب.

ورغم احتياطه الشديد في إخفاء الأمر، فقد شاع بين الناس أمر سمه منذ اللحظة الاُولى الّتي احتجب بها الإمام الرضا(عليه السلام) في بيته، وحاول المأمون ـ فاشلا ـ أن يبرء نفسه من إدانة الناس له، فقد اهتم اهتماماً بالغاً بالأمر وأظهر الجزع لمرض الإمام وعيّن له الأطباء، وكان يعوده ويظهر توجعه له ثمّ يقول: وأغلظ عليَّ من ذلك وأشدّ أنّ الناس يقولون إنّي سقيتك سماً، وأنا إلى الله بريء(19).

ومات الإمام(عليه السلام) في مرضه ذلك، وأظهر المأمون عليه الجزع، واحتاط في إخفاء الجريمة، فأدخل جماعة الطالبيين وفيهم عمّ الإمام ـ محمّد بن جعفر ـ فأراهم إيّاه صحيح الجسد لا أثر به، ثمّ بكى، ورغم حيطته، فقد اشتهر أمر السم، حتّى نظمه دعبل الخزاعي وغيره ممّن رثى الإمام، واستوحش العلويون من المأمون، وقرأ هو في وجوههم النقمة والثورة، فحاول إعادة الرواية بحذافيرها مع سيّد علوي آخر كان قد اختفى مدّة حكومته، وهو عبدالله بن موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، فكتب إليه بعد وفاة الرضا(عليه السلام) يدعوه إلى الظهور ليجعله مكان الرضا، ويبايع له بولاية العهد، وأطمعه بالعفو والصلات، فأجابه بكتاب طويل جاء فيه: (فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الّذي أطعمته إيّاه فقتلته)، وفي رواية: (أم في العنب المسموم الّذي قتلت به الرضا)(20).

ففشل في محاولته تلك، فعليه أن يسير إلى بغداد ليشهد وضعها فيعالجه بما تقتضيه الحنكة والتدبير، فهناك في بغداد شيخ عبّاسي ينازعه الخلافة، وفي بغداد وزير موتور بأخيه لا يؤمن جانبه، وفي بغداد وغيرها كثير من العلوية تغلي مراجلهم على ابن مراجل، فجاء إلى بغداد، وفاوض العبّاسيين وأزال ما في نفوسهم عليه من أمر ولاية العهد وعودتها إلى حظيرتهم المقدّسة؟ بين الناي والعود.

وداوى صدر الحسن بن سهل، فغسل درنه بمصاهرته حيث تزوج بنته بوران، ولزواجه بها وما صرف فيه من الأموال ما جاز حد الإسراف والتبذير، حديث يوحي بالعبرة والتفكير(21).

أمّا العلويون فلم يكن يأمن جانبهم، فحاول إرضاءهم وإبعاد التهمة عن نفسه، فأرسل إلى المدينة فأحضر منها محمّد الجواد ابن الإمام الرضا(عليه السلام) وبالغ في إكرامه، وأخيراً عقد له على ابنته اُم الفضل وزوّجه بها، وتزويجه هذا أيضاً من مكائده الّتي لم يظهر أثرها السيّئ إلاّ بعد حين.

هذه سلسلة حوادث تاريخية مترابطة، ذات علاقة وشأن بولاية العهد ذلك الحدث السياسي الخطير، فإن وفقت في عرضها أمام القارئ وألمسته من خلالها الواقع فذلك حسبي، وإن تكن الاُخرى فهذا رأيي وما توفيقي إلاّ بالله.

 

أعلام الطب في الرسالة:

1 ـ جبرئيل بن بختيشوع الطبيب النصراني الجنديسابوري، كان حاذقاً في فنّه مبرزاً على أقرانه، له تأليف في الطب، خدم الرشيد فكان طبيبه الخاص، حل محل أبيه عند الخلفاء، صحب الرشيد إلى طوس، وهناك تغير عليه الرشيد بسبب بعض الوشايات، ولمّا مات الرشيد وافى بغداد فقبله الأمين وأحسن إليه واختصه لنفسه، فكان لا يأكل ولا يشرب إلاّ بإذنه، ولمّا قتل الأمين سنة (198 هـ) كتب المأمون إلى نائبه الحسن بن سهل بحبس جبرئيل فحبسه، ولم يخرجه من الحبس حتّى سنة (203 هـ) حين احتاجه لمعالجته من مرض عضال ألم به، فعالجه حتّى برىء فكتب الحسن بن سهل إلى المأمون يخبره بأمره ويسأله الصفح عنه شكراً له على صنيعه، ولمّا ورد المأمون إلى بغداد سنة (205 هـ) أمر بحسبه في منزله، وأن لا يخدم فبقي حتّى سنة (210 هـ) اضطر المأمون إلى إطلاق سراحه والعفو عنه لأ نّه احتاجه لمعالجته من مرض أعيى نطس الأطباء، فعالجه حتّى عوفي فأكرمه وبالغ في إكرامه.

ونجد في تاريخ الحكماء للقفطي ثبتاً بما كان لجبرئيل من الرزق والرسوم والصلات وفيه أرقاماً تشبه الخيال، فراجع ذلك فانّه لا يخلو من طرافة واعتبار(22).

2 ـ يوحنا بن ماسويه الطبيب النصراني السرياني: كان الرشيد قد ولاه ترجمة الكتب الطبية القديمة، قال القفطي: وكان ملوك بني هاشم ـ العبّاسيون ـ لا يتناولون شيئاً من أطعمتهم إلاّ بحضرته، وكان يقف على رؤوسهم ومعه البراني بالجوارشات الهاضمة المسخنة الطابخة المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء، وفي الصيف بالأشربة الباردة الطابخة المقوية والمعاجين، وترجمه في كتابه ترجمة مطوّلة.

3 ـ صالح بن بهلة الهندي: قال القفطي في تاريخه: طبيب مذكور أيّام الرشيد، هندي الطب حسن الإصابة فيما يعانيه، وأسهب في ترجمته.

 

سبب التسمية بالذهبية:

ذكر النوفلي ـ أحد رواة الرسالة ـ إنّ المأمون العبّاسي لمّا وصلت إليه الرسالة ـ وهو يومئذ ببلخ ـ قرأها وفرح بها فرحاً شديداً، وأمر أن تكتب بالذهب، وأمر أن تترجم بالمذهبة، ودفعت إلى أولاده وأولياء دولته وبني عمه نسخته.

ومهما يكن نصيب هذه الرواية من الصحّة، فهي لا تعدو ذكر سبب معقول يمكن الجزم بصحته، خصوصاً بعد أن نعرف مدى اشتهارها بهذه التسمية، ولابدّ أن تكون عن كتابتها بالذهب، ولم يكن ذلك عزيزاً على المأمون ولا بدعاً في تلك العصور.

وسيأتي التصريح بكتابتها بالذهب في رسالة المأمون الّتي كتبها تقريضاً للرسالة الذهبية.

 

سند الرسالة الذهبية:

لم تكن الرسالة مجهولة تحتاج إلى إطالة البحث في سندها وصحّة نسبتها إلى الإمام(عليه السلام)، فاشتهارها بين أصحابنا يغنينا عناء البحث في ذلك، بل بلغ من شهرتها أنّ بعض مؤلّفي المعاجم من غيرنا ذكرها في كتابه، فهذا الحاج خليفة ـ كاتب جلبي ـ قال: وكتب أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا، للمأمون رسالة مشتملة عليه ـ الطب النبوي ـ (23).

وأشار إسماعيل باشا في هدية العارفين في ترجمة الإمام عليّ الرضا(عليه السلام)إليها وقال: صنّف رسالة في الطب(24).

أمّا ما نقل من أسانيدها المذكورة في بعض نسخها الموجودة اليوم فهي كما يلي:

أوّلا: إسناد ينتهي إلى محمّد بن الحسن بن جمهور العمي البصري، وقد ترجمه النجاشي في كتابه وذكر طريقه إلى رواية كتبه(25)، وذكره الشيخ الطوسي في الفهرست وقال: له كتب ذكر جماعة منها: كتاب الملاحم، وكتاب الواحدة، وكتاب صاحب الزمان(عليه السلام)، وله الرسالة الذهبية عن الرضا(عليه السلام)، وله كتاب وقت خروج القائم (عجل الله تعالى فرجه) ثمّ ذكر سنده المنتهي إلى العمركي بن عليّ، عن ابن جمهور المذكور(26).

وذكر الحافظ السروي في معالم العلماء نحواً من ذلك من ترجمته وكتبه ومنها: الرسالة المذهبة عن الرضا صلوات الله عليه في الطب(27).

وذكر الشيخ منتجب الدين ـ ابن بابويه ـ في الفهرست في ترجمة السيّد فضل الله بن عليّ الراوندي، جملة من تآليف السيّد المذكور وعدّ منها (ترجمة العلوي للطب الرضوي)(28).

وقال الشيخ المجلسي في بحاره بعد ما ذكرناه: فظهر أنّ هذه الرسالة كانت من المشهورات بين علمائنا ولهم إليها طرق وأسانيد، لكن كان في نسخها الّتي وصلت إلينا اختلاف فاحش، أشرنا إلى بعضها ـ كذا ـ...(29).

وقال أيضاً: ووجدت في تأليف بعض الأفاضل بهذين السندين:

(أوّلا): قال موسى بن عليّ بن جابر السلامي: أخبرني الشيخ الأجل العالم الأوحد سديد الدين يحيى بن محمّد بن عليان الخازن أدام الله توفيقه، قال: أخبرني أبو محمّد الحسن بن محمّد بن جمهور.

(ثانياً): وقال هارون بن موسى التلعكبري(رضي الله عنه): حدّثنا محمّد بن هشام بن سهل(رحمه الله) قال: حدّثنا الحسن بن محمّد بن جمهور... وقال ـ الحسن بن محمّد بن جمهور ـ حدّثني أبي وكان عالماً بأبي الحسن عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام)، خاصة به، ملازماً لخدمته، وكان معه حين حمل من المدينة إلى أن سار إلى خراسان واستشهد(عليه السلام) بطوس وهو ابن تسع وأربعين سنة، وكان المأمون بنيسابور، وفي مجلسه سيّدي أبو الحسن الرضا(عليه السلام) وجماعة من المتطببين والفلاسفة مثل يوحنا ابن ماسويه، وجبرئيل بن بختيشوع، وصالح بن سلهمة ـ كذا والصواب ابن بهلة ـ الهندي وغيرهم من منتحلي العلوم وذوي البحث والنظر، فجرى ذكر الطب وما فيه صلاح الأجسام وقوامها، فأغرق المأمون ومن بحضرته في الكلام، وتغلغلوا في علم ذلك، وكيف ركّب الله تعالى هذا الجسد، وجميع ما فيه من هذه الأشياء المتضادّة من الطبائع الأربع، ومضار الأغذية ومنافعها، وما يلحق الأجسام من مضارها من العلل، قال ـ العمي ـ : وأبو الحسن ساكت لا يتكلّم في شيء من ذلك، فقال له المأمون: ما تقول يا أبا الحسن في هذا الأمر الّذي نحن فيه اليوم، والّذي لابدّ من معرفة هذه الأشياء والأغذية النافع منها والضارّ وتدبير الجسد؟

فقال أبو الحسن: عندي من ذلك ما جرّبته وعرفت صحته بالإختبار ومرور الأيّام، مع ما وقفني عليه من مضى من السلف، ممّا لا يسع الإنسان جهله ولا يعذر في تركه، فأنا أجمع ذلك مع ما يقاربه ممّا يحتاج إلى معرفته.

قال ـ العمي ـ : وعاجل المأمون الخروج إلى بلخ وتخلّف عنه أبو الحسن(عليه السلام)، وكتب المأمون إليه كتاباً يتنجزه ما كان ذكره ممّا يحتاج إلى معرفته من جهته، على ما سمعه منه وجربه من الأطعمة والأشربة، وأخذ الأدوية، والفصد، والحجامة، والسواك، والحمّام، والنورة، والتدبير في ذلك، فكتب الرضا(عليه السلام) إليه كتاباً نسخته...

ثانياً: ما وجد في نسخة المرحوم الحجّة العسكري بسامراء، وسندها ينتهي إلى أبي محمّد الحسن بن محمّد النوفلي، وقد ترجمه النجاشي في رجاله وقال: أبو محمّد ثقة جليل القدر، روى عن الرضا(عليه السلام) نسخة، ثمّ ذكر تآليفه وسنده إليها وينتهي إلى الحسن بن محمّد بن جمهور عنه(30).

ووجدت الرسالة بخطّ الشيخ المحقق الثاني الكركي المسموم سنة (945 هـ) وقد وصلت النسخة إلى شيخنا المجلسي(رحمه الله) فأثبتها في بحاره وقال عنها: وجدت بخطّ الشيخ الأجل الأفضل العلاّمة الكامل في فنون العلوم والأدب، ومروّج الملّة والدين والمذهب، نور الدين عليّ بن عبد العالي الكركي جزاه الله سبحانه عن الإيمان وأهله الجزاء السني، ما هذا لفظه:

(الرسالة الذهبية في الطب الّتي بعث بها الإمام عليّ بن موسى الرضا(عليه السلام) إلى المأمون العبّاسي في حفظ صحّة المزاج، وتدبيره بالأغذية والأشربة والأدوية... الخ)(31).

 

تقريض المأمون العبّاسي للرسالة:

قال النوفلي: فلمّا وصلت هذه الرسالة إلى المأمون وهو يومئذ ببلخ وقرأها فرح بها فرحاً شديداً، وأمر فكتبت بالذهب، وأمر أن تترجم بالمذهبة، ودفعت إلى أولاده وأولياء دولته وبني عمه نسخته.

وذكر عن أبي الحسن صالح بن عبدالله الهاشمي عن أبيه خازن بيوت الحكمة استنساخ الرسالة من خزانة المأمون بعد وفاته ومعها رسالة ألّفها المأمون وكان حسن الخطّ نسختها:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله أهل الحمد ووليه، وله آخره وبدؤه، ذي النعم والافضال والإحسان والإجمال، أحمده على نعمه المتظاهرة، وفواضله وآياديه المتكاثرة المتواترة، وأشكره على منحه ومواهبه، شكراً يوجب زيادته ويقرب زلفى، أشهد أن لا إله إلاّ الله شهادة مخلص له بالإيمان، غير جاحد ولا منكر له بربوبيته ووحدانيته، بل شهادة تصدق نسبته لنفسه وأ نّه كما قال عز وجل: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اللّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد)(32) وكذلك ربّنا عز وجل، وصلّى الله على سيّد الأوّلين والآخرين محمّد بن عبدالله خاتم النبيين.

أمّا بعد فانّي نظرت في رسالة ابن عمي العلوي الأديب، والفاضل الحبيب، والمنطقي الطبيب، في اصلاح الأجسام، وتدبير الحمّام، وتعديل الطعام، فرأيتها في أحسن التمام، ووجدتها في أفضل الإنعام، ودرستها متدبراً، ورددت نظري فيها متفكراً، فكلّما أعدت قراءتها فوعيتها حفظاً، وتدبرتها فهماً، إذ رأيتها من أنفس العلائق، وأعظم الذخائر، وأنفع الفوائد، فأمرت أن تكتب بالذهب لنفاستها، وحسن موقعها، وعظم نفعها وكثرة بركتها، وسمّيتها (المذهبة) وخزنتها في خزانة الحكمة وذلك بعد أن نسخها آل هاشم فتيان الدولة، لأنّ بتدبير الأغذية تصلح الأبدان، وبصحّة الأبدان تدفع الأمراض، وبدفع الأمراض تكون الحياة، وبالحياة تنال الحكمة، وبالحكمة تنال الجنّة.

وكانت أهلا للصيانة والادخار، وموضعاً للتأهيل والاعتبار، وحكيماً يعوّل عليه، ومشيراً يرجع إليه، ومن معادن العلم آمراً وناهياً ينقاد له، ولأ نّها خرجت من بيوت الّذين يوردون حكم الرسول المصطفى وبلاغات الأنبياء، ودلائل الأوصياء، وآداب العلماء، وشفاء الصدور والمرضى من أهل الجهل والعمى، رضوان الله عليهم ورحمته وبركاته أوّلهم وآخرهم وصغيرهم وكبيرهم.

فعرضتها على خاصتي، وصفوتي من أهل الحكمة والطب، وأصحاب التأليف والكتب، المعدودين في أهل الدراية، والمذكورين بالحكمة، وكلٌ مدحها وأعلاها، ورفع قدرها وأطراها، انصافاً لمصنّفها، واذعاناً لمؤلّفها، وتصديقاً له في ما حكاه فيها، فمن وقعت إليه هذه الرسالة من بعدنا من أبنائنا وأبناء دولتنا ورعايانا وسائر الناس على طبقاتهم، فليعرف قدرها، والموهبة له، وتمام النعمة عليه، وليأخذها بشكر، فإنّها أنفس من العقيان، وأعظم خطراً من الدرّ والمرجان، وليستعمل حفظها وعرضها على همته وفكره ليلا ونهاراً، فإنّها عائدة إليه بالنفع والسلامة من جميع الأمراض والأعراض إن شاء الله تعالى، وصلّى الله على رسوله محمّد وأولاده الطيبين الطاهرين أجمعين، حسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله ربّ العالمين).

 

شرح الرسالة:

لقد تناول الأعلام بيد الإكبار هذه الرسالة، وتلقوها بالقبول فأقبلوا عليها يتدارسونها، وينهلون من معينها، فشرحها منهم جمع كثير وعمم نفعها آخرون بترجمتها إلى بعض اللغات الحيّة، كلّ ذلك اهتماماً منهم بأمرها، وتعميماً لفضلها بنشرها، وإلى القارئ بعض اُولئك الأعلام:

1 ـ السيّد الإمام ضياء الدين أبي الرضا فضل الله بن عليّ الراوندي (ت 548 هـ)، له شرح إسمه (ترجمة العلوي للطب الرضوي) ذكره أصحابنا في ترجمته، وغيرهم كإسماعيل باشا في ايضاح المكنون(33).

2 ـ المولى فيض الله عصارة التستري وكان في عصر فتحعلي خان وحكومته بتستر حوالي سنة (1078 هـ) له ترجمة الذهبية بالفارسية.

3 ـ المولى محمّد باقر المجلسي (ت 1111 هـ) له ترجمة الذهبية، وقد شرح الرسالة في كتابه الجامع (بحار الأنوار).

4 ـ ابن محمّد هاشم الطبيب له شرح على الذهبية ألّفه باسم الشاه سليمان الصفوي، بالفارسية.

5 ـ محمّد شريف بن محمّد صادق الخاتون آبادي، له شرح على الذهبية ذكره في كتابه (حافظ الأبدان).

6 ـ المولى السيّد عبدالله شبّر (ت 1242 هـ)، له شرح على الذهبية، توجد نسخته.

7 ـ ميرزا محمّد هادي بن ميرزا محمّد صالح الشيرازي له (عافية البرية في شرح الذهبية) ألّفه في عصر السلطان حسين الصفوي.

8 ـ المولى محمّد بن الحاج محمّد حسن المشهدي المدرّس بها (ت 1257 هـ) له شرح الذهبية، أورده بتمامه تلميذه نوروز عليّ البسطامي في كتابه (فردوس التواريخ) وقد طبع سنة (1315 هـ) باسم (الفوائد الرضوية).

9 ـ السيّد شمس الدين محمّد بن محمّد بديع الرضوي المشهدي، له شرح الذهبية فرغ من تأليفه سنة (1125 هـ).

10 ـ المولى محمّد بن يحيى له شرح الذهبية بالفارسية.

11 ـ المولى نوروز عليّ البسطامي، له شرح على الذهبية، أشار إليه في كتابه (فردوس التواريخ).

12 ـ الحاج ميرزا كاظم الموسوي الزنجاني (ت 1292 هـ) له شرح على الذهبية، اسمه (المحمودية).

13 ـ السيّد نصر الله الموسوي الأرومي، له شرح بالفارسية سمّاه بـ (الطب الرضوي).

14 ـ المولوي مقبول أحمد، له شرح اسمه (الذهبية في أسرار العلوم الطبيعية) بالأوردية طبع بحيدر آباد.

15 ـ السيّد محمود الده سرخي، له مفاتيح الصحّة جمع فيه طب النبيّ وطب الأئمّة والرسالة الذهبية مع شرح يسير بالفارسية طبع سنة (1379 هـ) بالنجف الأشرف.

16 ـ السيّد ميرزا عليّ إمام جمعة التفرشي، له شرح الرسالة الذهبية بالفارسية.

17 ـ السيّد حسين بن نصر الله بن صادق الأرومي الموسوي عرب باغي له (ترجمة الموسوي في الطب الرضوي).

18 ـ المرحوم صديقنا الاُستاذ أبو القاسم سحاب، له شرح على الرسالة بالفارسية باسم (بهداشت رضوي). وقد طبعه آخر الجزء الأوّل من كتابه زندگاني حضرت إمام رضا(عليه السلام)(34).

19 ـ الدكتور السيّد صاحب زيني، له شرح على الرسالة، تناول فيها جوانباً على ضوء العلم الحديث، وقد طبع ببغداد في سلسلة ملتقى العصرين.

هذا ما تيسر لي الاطلاع عليه عاجلا، والحمد لله ربّ العالمين بدءاً وختاماً.

محمّد مهدي السيّد حسن الموسوي الخرسان

1 ربيع الثاني 1385 هـ

النجف الأشرف

(1) مقدّمة الرسالة الذهبية للإمام الرضا(عليه السلام).

(2) مقاتل الطالبيين: 161 ـ 169.

(3) تاريخ اليعقوبي 3: 83 الطبعة الثانية بالمطبعة الحيدرية في النجف الأشرف.

(4) تاريخ ابن الأثير: حوادث سنة (129 هـ) وقد ذكر نصّ البيعة في حوادث سنة (130).

(5) مقاتل الطالبيين: 450.

(6) مقاتل الطالبيين: 523.

(7) مقاتل الطالبيين: 533.

(8) ابن كثير 10: 247.

(9) عصر المأمون 1: 271.

(10) مقاتل الطالبيين: 541.

(11) تاريخ الطبري 10: 243.

(12) الكافي 8: 151.

(13) بحار الأنوار 12: 34 ـ 35.

(14) سفينة البحار 2: 332 (غيب).

(15) تاريخ الطبري 10: 244.

(16) تاريخ الطبري 10: 249، وابن الأثير 6: 110.

(17) تاريخ الطبري 10: 249، وابن الأثير 6: 118، والآداب السلطانية «الفخري»: 163.

(18) راجع الفخري: 173، واليعقوبي 3: 186.

(19) مقاتل الطالبيين: 572.

(20) مقاتل الطالبيين: 628 ـ 630.

(21) لاحظ ثمار القلوب: 130 ـ 131 تجد وصفاً شاملا للدعوة الّتي سمّاها دعوة الإسلام والوليمة الّتي أولمها الحسن بن سهل حين بنى المأمون ببنته بوران.

(22) تاريخ الحكماء للقفطي: 142 ط ليپزيك.

(23) كشف الظنون 2: 1095.

(24) هدية العارفين 1: 668.

(25) رجال النجاشي: 238.

(26) الفهرست: 172.

(27) معالم العلماء: 103.

(28) الفهرست المطبوع في آخر مجلدات البحار: 10

(29) بحار الأنوار 14: 555.

(30) رجال النجاشي: 38.

(31) بحار الأنوار 14: 554.

(32) التوحيد: 1 ـ 4.

(33) ايضاح المكنون 1: 281.

(34) زندگاني حضرت إمام رضا (عليه السلام): 301 ـ 350.