صلاة الجماعة

ويليها صلاة المسافر

 

تأليف آية الله المحقق الشيخ محمد حسين النجفي

قدس سره

 

قدم له

السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

«من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»

«نبوي شريف»

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المهتدين المنتجبين، والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين:

وبعد، فهذه سطور بين رسالتين من آثار علم من أعلامنا الماضين، لم يكتب لهما النشر قبل اليوم.

ـ وما أكثر أمثالهما من النفائس التي تزخر بها الخزائن والمكتبات ـ .

وقد اعتزمت (دار العلم) أن تكلل بهما نشاطها الثقافي، فجعلتها في قائمة ما تنوي نشره من الآثار العلمية، نظراً لما لمؤلفهما وهو سماحة آية الله العظمى الشيخ محمّد حسين الغروي(قدس سره) المتوفى سنة 1361 هجرية من حق الأستاذية على منشىء (دار العلم) وبانيها سماحة آية الله العظمى الإمام السيّد أبو القاسم الخوئي دام ظله.

فمن أولى منه برعاية آثار أستاذه التي لم يكتب لها أن ترى نور النشر قبل اليوم؟

ولمّا كان المؤلف(رحمه الله) من نوابغ عصره الّذي تميزوا بعبقرية نادرة، فإنّ الحديث عنه قد يكون من الصعوبة بمكان، لأنّ التوفيق بين أداء حقّ المؤلف بملاحظة ما كان عنده من ملكات وما تيسّر له من مؤهلات تستدعي دراسة تامة، وبين المناسبة التي نحن بصددها وهي تقديم رسالتين صغيرتين حجماً وقد نجز طبعهما فذلك صعب جداً فلو حاولنا تأدية حق المؤلف كما يجب وينبغي من خلال عصره وشخصيته وآثاره، لطال بنا الحديث عنه بما يفوق حجم الرسالتين معاً وذاك من غير المستساغ في مثل هذا المقام.

إذن لابدّ لنا أن نحاول قدر المستطاع أن نقف وقفة صغيرة عند جوانب تلك الشخصية الفذة، والتي كانت موفقة في حياتها منذ نعومة أظفارها ومراحل دراستها واستقلالها وما تميزت به، كما حالفها التوفيق حتّى بعد وفاتها من خلال آثارها سواء في آراءها أو في مؤلفاتها.

وحيث أن حياته قد تناولها قبلنا كثير من الكتّاب فيهم جماعة من العلماء الذين عاصروه معايشةً وصحبةً، كما أنّ منهم من شاركوه دراسةً وتحصيلا، وثمة فريق ثالث هم الذين سعدوا بالتلمذة عليه، فأخذوا منه واستفادوا منه، وكلّ هؤلاء هم أعرف بشخصيته ومقامها العلمي ومركزها الديني من غيرهم ممّن لم يتوفر لهم عنصر المشاهدة عن كثب والّذي له أثر كبير في العرض والتقييم.

وليس لنا من ملاحظة فيما كتبه تلاميذه بدقة، وإن كانت مخيلة التلمذة ـ بصفة عامة ـ قد تنسج رداء المناقبية استجابة لرغبة دفينة في اللاوعي الطلابي، وهي رغبة التباهي بشخص الاُستاذ، غير أنّ الحقيقة ستبقى حية مهما تكدست ألفاظ الإطراء، ومهما رأينا فيهم من انسياق مع العاطفة.

ونظراً لاتفاق مترجميه على الخطوط العريضة العامة، وحتّى بعض الخصوصيات التي تحدث عنها تلاميذه فقد تحدث عنه أقرانه وأخدانه أيضاً.

ففي ظل ذلك الاتفاق يتكون الاطار الّذي تصور فيه شخصية المترجم له، مضافاً إلى ما تشعه آثاره الباقية على تلك الصورة.

وبالتالي فلا ضير علينا لو استفدنا في حديثنا هذا منهم وروينا عنهم، وهم حسب سني وفياتهم:

1 ـ حجة الإسلام والمسلمين المرحوم الشيخ محمّد حرز الدين المتوفى سنة 1365 هـ في كتابه معارف الرجال.

2 ـ حجة الإسلام والمسلمين المرحوم الشيخ محمّد رضا المظفر المتوفى سنة 1383 هـ في مقدّمة حاشية المترجم له على المكاسب المطبوعة سنة 1363 هـ وعنها اقتبست في مقدّمة كتاب الإجارة للمترجم له.

3 ـ حجة الإسلام والمسلمين المرحوم الشيخ محمّد محسن الشهير (بأغا بزرك) المتوفى 1389 هـ في كتابه نقباء البشر، وموسوعته الذريعة.

4 ـ حجة الإسلام والمسلمين المرحوم الشيخ محمّد عليّ الأوردبادي المتوفى سنة 1380 هـ في مقدّمة كتاب الأنوار القدسية للمترجم له.

5 ـ الكاتب البحاثة المرحوم الشيخ عليّ الخاقاني المتوفى سنة 1400 هـ في موسوعته (شعراء الغري).

 

من هو المترجم له؟

هو الشيخ محمّد حسين بن الحاج محمّد حسن بن عليّ الغروي.

وقد رفع نسبه بعض مترجميه إلى سبعة آباء، والملاحظ فيهم لم يكونوا من رجال العلم، فإذن المترجم له عصامي لا عظامي. (نفس عصام سوّدت عصاماً).

ولد في اليوم الثاني من محرم الحرام سنة 1296 هـ في النجف الأشرف وكان أبوه من مشاهير تجار الكاظمية، وذوي الجاه العريض، معروفاً بالتقى والصلاح، وموصوفاً بحب العلم والعلماء، ولعل حسبه ذلك دفعه لأن يعنى بتربية ولده ـ المترجم له ـ تربية علمية صالحة فمهد له السبيل إلى تحصيل العلم.

قال المرحوم الحجة المظفر: فعاش شيخنا المترجم له في كنف أبيه عيشة ترف ونعمة... ولذا نشأ نشأة المعتز بنفسه، المترفع عمّا في أيدي الناس، وهذا ما زاده عزاً واباءاً... .

وقال أيضاً: وانتقل ـ شيخنا ـ إلى النجف الأشرف جامعة العلم وعاصمة الدين في أخريات العقد الثاني من عمره، بعد أن قضى حداثته وشطراً من شبابه في الكاظمية مشتغلا في العلوم الدينية(1).

وقبل أن نسترسل في الحديث عن مراحل تحصيله، نودّ أن نلفت النظر إلى أن شيخنا الحجة المظفر(رحمه الله) ذكر أنّ ولادته في النجف الأشرف، وهذا ما ذكره غيره أيضاً من مترجمي الشيخ المترجم له، ونظراً إلى أنّ والد المترجم له كان ساكناً في الكاظمية ومن تجارها وأتقيائها المعروفين، ثمّ ذكر المظفر بعد ذلك أنّ المترجم له انتقل إلى النجف الأشرف في أخريات العقد الثاني من عمره بعد أن قضى حداثته وشطراً من شبابه في الكاظمية.

فهل ثمة سبق من القلم في ذكر محل ولادته فذكر النجف بدل الكاظمية؟

أو أنّ ولادته كانت واقعة في النجف بافتراض مجيئ أبيه واُمّه إلى النجف للزيارة فصادفت ولادته هناك؟

وهذا ممّا لم ينبه عليه في مصادر ترجمته، ومهما يكن أمر ذلك، فانّا لا نريد أن نناقش شيخنا المظفر(رحمه الله) ولا غيره فيه، فإنّه أمر غير ذي بال، ولكن نود أن نعقب على أمر قد يكون أهم من ذلك وهو قول المظفر: فعاش عيشة ترف ونعمة... ولذا نشأ نشأة المعتز بنفسه المترفع عمّا في أيدي الناس وهذا ما زاده عزّاً وإباءً... .

ولا نريد أن نكشف سرّاً أو نزف جديداً حين نقول إنّ عزة النفس والترفع عمّا في أيدي الناس ليست منوطة بمن عاش في ترف ونعمة، فكم من غنيّ مليّ، ولكنه دنيّ النفس، وكم من فقير معدم وهو أبيّ النفس، على أنّ حياة الترف والرفاهية غالباً ما تكون مدعاة للبطالة والكسل وعدم النضج الفكري، بخلاف حياة العوز فإنّها تكون أبعد أثراً في صقل المواهب وتمنيتها.

ولو رجعنا إلى تاريخ العظماء من ذوي الإبداع الفكري والاختراع العلمي لوجدنا كلّهم ـ إلاّ ما ندر ـ ممّن ذاق مس الجوع، وعانى مرارة الفاقة والحرمان، ولئلاّ نوسع دائرة البحث فلنا في علمائنا المراجع أصدق شاهد على ذلك.

ولنضرب مثلا بعلمين معاصرين كانا من فحول العلماء ومراجع الاُمّة قريبين من عصرنا، ولا يزالا حيين كلٌّ في أثر من آثاره، إذ يعرفهما كل رجال العلم في الحوزة العلمية وهما:

1 ـ المرحوم آية الله السيّد محمّد كاظم اليزدي(قدس سره).

2 ـ المرحوم آية الله الشيخ محمّد كاظم الآخوند(قدس سره).

وهذان العلمان كما اشتركا إسماً وكانا متعاصرين زمناً، فقد كانا متماثلين زعامة، ومتشابهين عصامية، وقد عانى كل منهما في بدء حياته العلمية مرارة البؤس والفقر، كما هو معروف من تاريخهما، ولكن إشراق نور العلم في قلبيهما ـ والعلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ـ أورثهما مثابرة ومصابرة حتّى بلغا ذروة في العلم، ومرجعية في التقليد والزعامة، وخلقا أثرين لا يزالان هما مدار البحث والتدريس في مختلف الحوزات العلمية منذ أكثر من نصف قرن وحتّى يومنا الحاضر.

وهما كتاب العروة الوثقى في الفقه لآية الله السيّد كاظم اليزدي، وكتاب كفاية الاُصول لآية الله الشيخ الآخوند.

وجل نوابغ العلم على ذلك في أولى مراحل تحصيلهم وكأن في سيرتهم عند مضمون المأثور (جعل العلم في الجوع والغربة)، حيث يكون مناخ العلم في الغربة أكثر ازدهاراً وأنضج ثماراً لقلة الضرائب الاجتماعية فيه، كما انّ قلة ذات اليد أخف مؤنة على صاحبها في جميع مراحل التحصيل.

 

دراساته:

ذكر مترجموه أ نّه تعلم القراءة والكتابة وشيئاً من مقدّماته الأولية في الكاظمية، حيث عني به أبوه، فوفر له أسباب التعلم، وقد بدت عليه معالم النبوغ الفطري مبكرة، ولنقرأ ما يقوله عنه المرحوم المظفر في هذا المقام.

قال: فظهرت معالم النبوغ الفطري مبكرة في طفولته الوادعة حين تعلم الخط، فأظهر في جميع أصنافه براعة فائقة، وأصبح من مشاهير ذوي الخطوط الجميلة، وللخط قيمته الفنية ـ لاسيما في ذلك العهد ـ ولكلّ فن وعلم موهبة خاصة يودعها الله من يشاء من عباده.

كما انكبّ شيخنا المؤلف على طلب العلم في سنّه المبكرة، وانتقل إلى النجف الأشرف جامعة العلم وعاصمة الدين في اُخريات العقد الثاني من عمره، وبعد أن قضى حداثته، وشطراً من شبابه في الكاظمية مشتغلا في مقدّمات العلوم الدينية... اهـ(2).

أمّا عن مراحل دراسته في النجف الأشرف، فقد تتلمذ بادئ أمره على العلاّمة الشيخ حسن التويسركاني(3) ونظرائه من الأجلاء حيث حضر عليهم في السطوح(4) وحضر في الفقه والاُصول قليلا بحث العلاّمة المحقق الشهير السيّد محمّد الفشاركي المتوفى سنة 1316 هجرية(5) ويكون عمره يوم وفاة اُستاذه هنا عشرين عاماً، وحضر في الفقه والاُصول على العلاّمة المحقق الفقيه آية الله الشيخ أغا رضا صاحب كتاب مصباح الفقيه(6).

وقد أدرك برهة لا يستهان بها من أيامه فحضر فيها مجلس درسه فقد كان عمره يوم وفاة اُستاذه ستاً وعشرون سنة وكانت وفاة اُستاذه سنة 1322 هجرية(7).

وحضر في الفقه والاُصول على مربي العلماء المدرّس الأوّل والمجاهد الأكبر الشيخ محمّد كاظم المعروف (بالآخوند) المتوفى سنة 1325 هجرية(8) واختص به ولازم أبحاثه طيلة ثلاث عشرة سنة حتّى حصل على قسط وافر وعلوم جمة، وقد كتب أكثر حاشيته على كفاية الاُصول لاُستاذه في خلال تلك المدة(9).

وقال الحجة المرحوم المظفر ـ وكان تلميذ المترجم له البار ـ في حديثه عن تلك الفترة من تحصيل اُستاذه:

ومن غريب ما ينقل عنه أ نّه لم يترك درس اُستاذه هذه المدة إلاّ يومين، يوم اُصيب فيه برمد شديد عاقه عن الحضور، ويوم آخر هطلت فيه الأمطار بغزارة، فظن أنّ ذلك سيعوق اُستاذه وتلاميذه عن الحضور، فظهر بعد ذلك انّ اُستاذه حضر وألقى درسه على شرذمة قليلة منهم(10).

وقال المرحوم الحجة الأوردبادي وهو من تلاميذ المترجم له أيضاً: وانتماء شيخنا المترجم له إلى اُستاذه هذا أكثر وأشهر لأنّه طالت مدته، فدأب على التلمذة عليه ثلاثة عشر عاماً فقهاً واُصولا حتّى قضى نحبه فاستقل شيخنا بالتدريس(11).

هاتان شهادتان من تلميذين من تلامذته الأوفياء وثمة ثالثة نقرأها في ترجمته بقلم معاصره ومشاركه في الحضور على اُستاذه الآخوند وهو سماحة شيخنا الحجة البحاثة الكبير المرحوم الشيخ محمّد محسن أغا بزرك فيقول في موسوعته طبقات أعلام الشيعة وهو يتحدث عن هذه الفترة بالخصوص:

ولم يكن في أيام حضوره بحث اُستاذه من متوسطي طلاب العلم، بل كان مبرزاً في الفضل، مشاراً إليه بالنبل، معروفاً باتقان الفلسفة، كما كان نظمه لأرجوزته في الفلسفة العالية قبل ذلك أيضاً(12).

والآن وقد ورد ذكر إتقانه للفلسفة حتّى نظم فيها، فلنعرف عند من درسها، يقول مترجموه انّه تلمّذ عند الحكيم المتأله الميرزا محمّد باقر المتوفى سنة 1326 هجرية(13).

وهنا ينبغي التنبيه على أمر بالغ الأهمية، إذ يعكس لنا مدى استعداده وجدّه في التحصيل وذلك هو أنّ الحكيم الاصطهباناتي كان من تلاميذ السيّد المجدد في سامراء، وبعد وفاة اُستاذه في سنة 1312 هجرية انتقل إلى النجف الأشرف وبقي فيها إلى حدود سنة 1319 هجرية.

وإذا استذكرنا ما مرّ آنفاً من هجرة المترجم له وانّها كانت في اُخريات العقد الثاني من عمره ويعني ذلك في حدود سنة 1315 هجرية فنخرج بالنتيجة التالية وهي أ نّه برع في الفلسفة وأتقنها حتّى تمكن من النظم فيها وهو في أوائل العقد الثالث من عمره.

وكانت تلمذته على هؤلاء الأعلام في ظروف لا تقل عن ربع قرن تجلى بين أخدانه، وبرز عليهم في ذكاء وفطنة عجيبين(14).

هذا استعراض لمراحل تحصيله، والآن إلى عرض موجز عن جوانب شخصيته، وإن كانت فيما يقول شيخنا المرحوم الأوردبادي:

لا عتب على اليراع إن وقف عن الإفاضة في تحديد هذه الشخصية الفذة المستعصية على البيان(15).

فإنّ شيخنا المترجم له ـ والحديث لا يزال للأوردبادي ـ فذ في كل نواحيه، ونسبة الفضائل إليه كأسنان المشط، لا تفاضل بينهما، لأنّه واقع في نقطة المركز من الدائرة فالخطوط إليه متساوية، فتدخله في أيّ من العلوم من حكمة وكلام وفقه واُصول وتفسير وحديث وشعر وأدب وتاريخ ومعارف وأخلاق وعرفان، وفي أيّ من الملكات الفاضلة والنفسيات الكريمة والمآثر الجمة والفواضل الموصوفة من دؤب على العبادة، وتهالك في الزهد، وقيام بالليل وسجدات طويلة ورياضة وتهذيب ومحاسبة، فتدخله في أيّ منها شرع سواء على الضد ممّا هو مطرّد بين المشاركين في العلوم والمناقب غالباً من تقاعس درجاتهم في كل منها عمّن هو متخصّص به (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ)(16).

غير أنّ في فجوات الدهر معاجز، وللمولى سبحانه بين الفترات مواهب يخص بها أفذاذاً حقت لهم العبقرية والنبوغ.

ومن اُولئك شيخنا المترجم له فهو حين تراه فيلسوفاً يعرفك حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، تبصر به متكلماً يفيض البرهنة كالسبيل الآتي فيدع معاقد الشبه كالريشة في مهب الريح.

وبينما هو فقيه متبحر يرد الفرع إلى الأصل فلا يدع في قرار عبابه الخضم ثمينة إلاّ استخرجها، فإذا هو في اُصوله محقق مسائله يأتي بما تركته له الأوائل وقصرت عن مثله الأواخر، فتعرف منه نظرياً يميز من أجزاء العلوم الذرة من الذرة، ويفرق بين الشعرة والشعرة.

وعلى حين أ نّه كأحد الحفّاظ في دراسة الحديث ودرايته، يألفه الباحث النيقد الفذ في تطبيقها على النواميس المطردة، والحكم الفاصل في القبول والرد.

وربّما عطف على آي من الكتاب الحكيم نظرة عميقة فتحسب أ نّه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق.

ومتى تنازل إلى نضد الشعر أو سرد القريض فلا يعلم الشاهد أهو وحيٌ يوحى أو سحر يؤثر، نعم (انّ من الشعر لحكمة وانّ من البيان لسحر)(17).

وما دمنا قد عرفنا شخصية المترجم له حتّى نهاية مراحل تحصيله، وأ نّه ممتاز من بين أقرانه بميزات خاصة ذكرها مترجموه، فلنتعرف على شخصيته في دور:

 

استقلاله:

وليس لنا أن نتخرص في تصوير ذلك الدور ما دام أمامنا مجموعة من أقوال معاصريه، ومن خلالها يمكننا أن نقرأ الصفحات المشرقة عن ذلك الدور، وسنقتصر على أقوال ثلاثة من الأعلام وهم صاحبٌ ومشاركٌ وتلميذٌ، ولكلّ منهم رأيه وميزانه في التقييم ولنقرأ ما يقولون:

1 ـ يقول صاحبه المرحوم الحجة الشيخ محمّد حرز الدين:

كان عالماً محققاً فيلسوفاً ماهراً في علمي الكلام والحكمة، وله الباع الطويل في الأدب العربي والفارسي والتاريخ والعرفان، وأجاد في شاعريته، ونظم عدة قصائد وأراجيز ملأها المعاني الجسيمة والإبداع والرقة والإنسجام.

وكان مدرّساً بارعاً في علمي الفقه والاُصول، وآخر أيامه صار مرجعاً للتقليد، رجع إليه بعض الخواص والتجار في بغداد وأفراد من بعض المدن العراقية، وسمعت هكذا أيضاً في طهران، والشيخ من خلّص أصحابنا في النجف... وكان مدرّساً قديراً أجاز كثيراً من أهل الفضل إجازة اجتهاد(18).

2 ـ ويقول مشاركه المرحوم الحجة شيخنا الشيخ أغا برزك صاحب الذريعة:

ولمّا توفي شيخنا الخراساني (الآخوند) برز بشكل خاص وحف به جمع من الطلاب، واستقل بالتدريس في الفقه والاُصول، وكان جامعاً متفنناً شارك بالاضافة إلى ما ذكر في الكلام والتفسير والحكمة والتاريخ والعرفان والأدب إلى ما هنالك من العلوم، وكان متضلعاً فيها وله في الأدب العربي أشواطاً بعيدة، وكان له القدح المعلى في النظم والنثر، امتاز ببراعة وسلاسة ودقة وانسجام، وأكثر نظمه أراجيز، بالجملة فهو من نوابغ الدهر الذين امتازوا بالعبقرية وبالملكات والمؤهلات وغرقوا في المواهب، كان محترم الجانب موقراً من قبل علماء عصره مرموقاً في الجامعة النجفية.

اشتغل بالتدريس في الفقه والاُصول والعلوم العقلية زمناً طويلا، وكان مدرسه مجمع أهل الفضل والكمال، وقد تخرج عليه جمع من أفاضل الطلاب، كانت له قدم راسخة في الفقه وباع طويل في الاُصول، وآثاره في ذلك تدل على أنظاره العميقة وآرائه الناضجة، لكنه غلبت عليه الشهرة في تدريس الفلسفة لإتقانه هذا الفن، بل وتفوّقه فيه على أهله من معاصريه، استمر على نشر العلم ونهض بالأعباء الثقيلة، فكان العلم الماثل والمؤمل المقصود الّذي تتهافت عليه الطلاب زرافات ووحداناً وقديماً قيل (والمنهل العذب كثير الزحام)(19).

3 ـ ويقول تلميذه المرحوم الحجة شيخنا المظفر، وهو أوفى بياناً عن هذا الدور ـ الاستقلال ـ وعن غيره أيضاً لأنّه عاشه عن كثب ووعاه عن خبرة وهو أكثر لصوقاً وأدنى قرباً ممّن سبق فيقول:

وبعد وفاة اُستاذه المحقق الآخوند استقل بالبحث والتدريس وحضر عليه كثير من مشاهير علماء العصر الذين استقلوا بعده بالتدريس.

وأنهى عدة دورات في الاُصول والفقه، وآخر دورة كاملة له في الاُصول شرع بها في شوال سنة 1324 هـ وأنهاها سنة 1359 هـ وهي أطول دورة له حقق فيها كثيراً من المباحث الغامضة وكتب فيها جملة من التعليقات النافعة على حاشيته لا سيما على الجزء الأوّل المطبوع.

ولا يستغنى بهذا المطبوع من هذه التعليقات، كما كتب خلالها جملة من الرسائل الصغيرة في عدة مسائل منها (رسالة أخذ الاُجرة على الواجبات) التي لم يكتب مثلها في هذا الموضوع استيفاءاً وتحقيقاً.

وقد توفقت بحمد الله للحضور عليه في هذه الدورة ابتداءاً من سنة 1345 هجرية.

وبعد هذه الدورة شرع في دورة جديدة على أسلوب جديد اعتزم فيها تهذيب الاُصول واختصاره وتنظيم أبوابه تنظيماً فنياً لم يسبق إليه، فوضع في المبادئ ما كان يظن أ نّه من المسائل ووضع في المسائل ما كان يحرر في المبادئ كمسألة المشتق.

وقسّم الاُصول إلى أربعة مباحث على غير المألوف، فأماط اللثام عمّا كان يقع من الخلط بين المباحث، والمباحث الأربعة التي وضعها لأبواب الاُصول هي: المباحث اللفظية، ومباحث الملازمات العقلية، ومباحث الحجة، ومباحث الاُصول العملية(20).

وقد شرع(رحمه الله) في تأليف كتاب مختصر مهذب على هذا الأسلوب في علم الاُصول، فاستبشر أهل العلم بهذا العمل الجليل الّذي كان منتظراً من مثله وكان اُمنية الجميع، لولا أنّ المرض لم يمهله أن يتم تأليفه هذا بعد سنة من شروعه حتّى فاجأته المنية (فجر الخامس من شهر ذي الحجة عام 1361) مأسوفاً على تلك الشعلة الإلهية الوهاجة أن تنطفئ في وقت الحاجة إليها، فأحبط ذلك المشروع الخطير الّذي كان ينويه في تأليفه الجديد، الّذي لو قدّر له أن يتم لوفّر على طلاب العلم كثيراً من وقتهم ولفتح لهم أبواباً ملذة جديدة في البحث العالي والتفكير المستقيم(21).

وهذه احدى أفكاره الإصلاحية التي كانت تجول في خاطره، وكان يحرّق الإرم لأجلها حينما يجد أنّ الوقت لم يحن لتنفيذها أو لابرازها على الأقل، وكثيراً ما كان يوحي إلينا في خلواته بخواطره في سبيل اصلاح الحوزة العلمية والوضع الديني السائد، ولم يكن الزمن يؤاتيه يومئذ ان ينهض بواحدة منها، حتّى خسره العلم والدين(22).

وإذا صح أن يقال في أحد انّه جاء بما لم يجئ به الأوائل فهو هذا العمود لفجر الإسلام، ما سلك طريقاً في بحث مسألة إلاّ وتطاير فضول ما علق بها من الأوهام هباءً، وما جرّت بيراعته بحثاً إلاّ وحيرت العقول كيف تذهب آراء الباحثين جفاءً.

هكذا قال عنه العليم الخبير بحاله، ولعله لما حدث عنه أوعى، وفيما حدّث به أوفى، فهو تلميذه طيلة ستة عشر عاماً.

ولنمرّ على جانب من آثاره الفكرية لنرى صحة ما قاله عنه مترجموه بأ نّه(قدس سره)كانت له اليد الطولى في ميادين الفضل والمعرفة، حيث أكدوا على مشاركته في أكثر من فن من العلم، فهو فقيه بارع وهو اُصولي محقق وهو فيلسوف إلهي، وهو أديب شاعر وهو وهو...

والّذي يدلنا على براعته في الفقه ما وصف بحثه فيه وتمكنه حين القاء محاضراته على تلامذته من حيث البيان والعمق والشمول وما بقي من آثاره ممّا خرج من قلمه الشريف ينبئ عن قوّة فقاهته فدقة في الاستنباط وقوّة في الاجتهاد ووضوح في العرض ورصانة في البيان، وحسب القارئ مراجعة ما طبع من آثاره الفقهية، وما لم يطبع منها فهو صنو ذلك.

فله رسالة في الطهارة واُخرى في صلاة الجماعة(23) وثالثة في صلاة المسافر(24) ورابعة في صلاة الجمعة وخامسة في الإجارة(25) وسادسة في أخذ الاُجرة على الواجبات (مطبوعة في آخر حاشية المكاسب) وتعليقة على كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري(قدس سره) وهي مطبوعة أيضاً، كما انّ له منظومة في الصوم وثانية في الاعتكاف سوى رسائله العملية لمقلديه.

أمّا آثاره في الاُصول ففي مقدمتها كتابه (نهاية الدراية) وهو تعليقته على كفاية الاُصول لاُستاذه الشيخ الآخوند(قدس سره) وقد طبع الجزء الأوّل في حياته، وأضاف إليه تعليقات نفيسة لا يستغنى عنها كما يقول تلميذه المرحوم المظفر، وطبع الجزء الثاني بعد وفاته، وله تعليقة على رسالة القطع للشيخ الأنصاري(قدس سره)، ورسالتان في بحث المشتق، ورسالة في تحقيق الحقّ والحكم، وأدرجت في أوّل كتاب البيع من حاشيته على المكاسب المطبوعة، ورسالة بحث فيها عن قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ وأصالة الصحة وغيرها، ورسالة في الصحيح والأعم ورسالة في المشترك ورسالة في موضوع العلم.

وله في الفلسفة الإلهية العالية منظومة (تحفة الحكيم).

أمّا آثاره الأدبية وخصوصاً الجانب الشعري فهو بالرغم من غزارة علمه في الفقه والاُصول والفلسفة لم يكن في شعره كغيره من العلماء الذين مارسوا النظم وكان شعرهم يغلب عليه الأدب اللفظي، بل كان في شعره دقيق الفكرة يمتاز بحسن الديباجة ورقة الوصف وسمو المعنى تشرق المعاني الفلسفية في أبياته، ولا بدع فقد كان محلقاً في الفلسفة العالية فهو يمتار من معانيها ما يصلح لنظمه، ويقتبس من دقتها ما يلائم أغراضه، وهذه ظاهرة يطفح بها شعره.

وممّا امتاز به(رحمه الله) انّه كان موفقاً في اختيار مقاصده السامية فهو حين يطرق باب المديح والرثاء، لا ينظم إلاّ في النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين الأصفياء، وما منظومته المسماة (الأنوار القدسية) إلاّ خير دليل على ذلك.

كما أ نّه حين يطرق باب الغزل حين ترق عاطفته فينظم في الغزل العرفاني الرمزي، وله فيه ديوان أودع فيه من المعاني الفلسفية ما يبهر المتأدبين.

وختاماً نزف إلى روح ذلك الحكيم المتأله والفقيه النبيه والعابد الزاهد بعض ثمار غرسه الّذي قد بسق فضله وأورف ظله بشخص سماحة سيّدنا الاُستاذ الإمام السيّد أبو القاسم الخوئي دام ظله العالي، فقد تعاهد آثار اُستاذه فرعاها وأمر بنشرها تعميماً لفائدتها، ولم يرض إلاّ بإدامة برّها لروح شيخه المترجم له فأوقف هذين الأثرين الجليلين على المستفيدين منهما من رواد العلم وطلابه، إمعاناً في تحصيل ثوابه.

فجزاه الله عن العلم وأهله خيراً، وأبقاه للاُمة مرجعاً وذخراً، وللحوزة عزاً وفخراً انّه سميع مجيب...

 

ادارة

مدرسة دار العلم

كاتبها محمّد مهدي السيّد حسن

الموسوي الخرسان

سنة 1404 هـ

(1) مقدّمة كتاب الإجارة: 3 ـ 4.

(2) مقدّمة حاشية المكاسب وكتاب الإجارة.

(3) الشيخ التويسركاني كان له مجلس تدريس في مقبرة المرحوم السيّد المجدد الشيرازي (بقرب الصحن الشريف من جهة باب الطوسي) يحضره زهاء أربعين نفراً من الطلاب، يدرّس المكاسب (في الفقه) والرسائل (في الاُصول) وكلاهما للشيخ الأنصاري وغيرهما، توفي الشيخ التويسركاني نحو سنة 1320 هجرية (عن نقباء البشر 1: 366).

(4) تنقسم مراحل الدراسة الحرة في كتب السطوح في الحوزة العلمية إلى ثلاث مراحل:

أ ـ الاُولى: مرحلة المقدّمات، وفيها يقرأ الطالب بعض المتون المختصرة في النحو والصرف والفقه، وربّما شيئاً من الأدب لحفظ بعض النصوص.

ب ـ الثانية: المرحلة المتوسطة في السطوح، ويقرأ فيها الطالب متوناً أكثر عمقاً وبسطاً في العلوم السابقة، ويضاف إليها المنطق وعلوم البلاغة وأُصول الفقه، وبنهاية هذه المرحلة يكون مؤهلا لحضور المرحلة الثالثة، حيث يكون قد أتم دراسته في النحو والصرف والمنطق ونحوها.

جـ ـ الثالثة: وفيها يقرأ الطالب علمي الفقه والاُصول باُفق أوسع كما في دراسة كتابي المكاسب والرسائل مثلا، وهذه هي المرحلة التي حضر فيها المترجم له عند اُستاذه التويسركاني ونظرائه.

نقباء البشر 1: 560، معارف الرجال 2: 264.

(5) هو العلاّمة الجليل صاحب الأنظار العالية والأفكار المستقيمة والثروة العلمية الطائلة والتآليف القيمة الجمة (مقدّمة الأنوار القدسية ز).

(6) كان من أجلة الفقهاء وأفاضل الأعلام، ذا اطلاع واسع في الفقه واُصوله، وخبرة وتضلع فيهما، شهد له بذلك جمع من معاصريه وكثير من المتأخرين عنه، وقبلهم جميعاً ما خرج من مجلدات كتابه مصباح الفقيه، كما كان على جانب عظيم من طهارة القلب وسلامة الذات، والبعد عن زخارف الدنيا، تخرّج عليه كثير من العلماء، ذكر بعضهم في نقباء البشر في ضمن ترجمته، راجع نقباء البشر 1: 776 ـ 778.

(7) مقدّمة الأنوار القدسية / ز.

(8) هو المصلح المجاهد مربي العلماء والمجاهدين الشيخ محمّد كاظم الهروي المعروف بالآخوند وعرف بأبي الأحرار في جملة من كلمات مترجميه وصدرت عنه دراسة مستوعبة بقلم المرحوم عبدالرحيم محمّد عليّ وهي مطبوعة يحسن الرجوع إليها.

(9) وهي مطبوعة باسم نهاية الدراية في جزئين، وسيأتي الحديث عنهما في ثبت مؤلفاته.

(10) مقدّمة كتاب الإجارة: 4.

(11) مقدّمة الأنوار القدسية: 7.

(12) نقباء البشر 1: 560.

(13) كان عالماً كبيراً وحكيماً جليلا من تلاميذ العلاّمة الشيخ محمّد باقر ابن محشي المعالم وقد أجازه، وصار مرجعاً في التدريس وجميع الاُمور في شيراز، ولمّا حدثت نفرة بينه وبين حاكمها هاجر إلى سامراء مستفيداً من بحث المجدد الشيرازي، وبعد وفاته انتقل إلى النجف واستقل بالتدريس وإمامة الجماعة إلى حدود سنة 1319 هـ فرجع إلى شيراز فعلا أمره وأصبح زعيماً للدين ورئيساً للدنيا إلى أن اُستشهد سنة 1326 هـ ـ باختصار عن نقباء البشر 1: 212.

(14) شعراء الغري للخاقاني 8: 184.

(15) مقدّمة الأنوار القدسية: 1.

(16) الأحزاب: 4.

(17) مقدّمة الأنوار القدسية: 2.

(18) معارف الرجال 2: 263.

(19) نقباء البشر 1: 560 ـ 561.

(20) وعلى هذا التبويب وضعت كتابي في الاُصول للتدريس في كلية منتدى النشر.

(21) مقدّمة كتاب الإجارة: 4 ـ 5.

(22) مقدّمة كتاب الإجارة: 4 ـ 5.

(23 و 24) وهما اللتان نقدم لهما بين يدي القارئ.

(25) طبعت في النجف الأشرف سنة 1375 هجرية.