اُسرته:

آل المطهّر أُسرة عربية عريقة من بني أسد، أكثر القبائل العربية في الحلة عدّة وعدداً، وفيهم الإمارة ولهم السيادة، وقد نبغ من هذه القبيلة رجال لهم شأن في مجالات الحياة العلمية والعملية، وحسبك أنّ منهم الاُمراء المزيديون وهم مؤسسوا الحلة الفيحاء، على أنقاض بابل مهد الحضارات ذات الشأن في تاريخ الإنسان.

كما أنّ منهم الوزير مؤيد الدين محمّد بن العلقمي، الّذي لمع نجمه في أوائل القرن السابع، فتولّى عدّة مناصب آخرها اُستاذية الدار، وبعدها تولى الوزارة في سنة 643 فكان آخر الوزراء لأخير الخلفاء العبّاسيين، إلى غير هؤلاء من الاُمراء والعلماء وذوي النباهة والشأن، أمّا صحّة هذه النسبة لآل المطهّر، فذلك ما نذهب إليه استناداً إلى ما ذكره جمع ممّن عاصر العلاّمة جمال الدين وابنه، فإنّهم أرسلوا ذلك إرسال المسلمات كنسبتهم إلى الحلية.

ولكن الأمر الّذي يلفت النظر في المقام انّ هذه الظاهرة ملحوظة في كتب السنّة أكثر منها في كتب الشيعة، ولعلّ إغفال المصادر الشيعية لها هو عدم إهتمامهم بالإنتساب لغير النسب الهاشمي، لأ نّه أشرف الأنساب ولما يترتب عليه من أحكام وآثار مفروضة كانوا ملزمين بها مأمورين برعايتها.

أمّا العناية بالنسبة إلى سائر القبائل العربية فلم تكن مورد إهتمامهم بقدر ما يهتمون بتحصيل الفضائل المكتسبة، ولعلّهم يرون في مزيد عنايتهم بها ما يغني عن التعويل على شرف النسبة والإعتزاز به، الأمر الّذي قد يدعو إلى الخمول والإتكالية، وربّما جر إلى العظامية المقيتة، فهم عند حد قول الشاعر:

كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك محموده عن النسب

وأياً ما كان وجه إغفال تلك المصادر، فإنّا نكتفي بما ورد في القسم الآخر الّذي دوّنه الآخرون، وفيهم من عاصر العلاّمة وابنه، كإبن الفوطي (ت 723 هـ) في معجمه، والصفدي (ت 764 هـ) في كتابيه أعيان العصر والوافي، إلى غيرهما ممّن قارب عصرهما كإبن حجر (ت 854 هـ) في كتابيه الدرر الكامنة ولسان الميزان.

أمّا والده، فهو الإمام سديد الدين يوسف بن عليّ بن المطهّر، كان من أعاظم الأعلام الّذين خدموا الإسلام بمواقفه وآثاره، وحسب القارئ ما يجده من أقوال المترجمين له: من أ نّه كان فقيهاً محققاً مدرّساً عظيم الشأن(1)، وأ نّه فاضل فقيه متبحر، نقل ولده العلاّمة أقواله في كتبه(2).

كما وقد كان مفزعاً للمسلمين في واقعة التتار، فإنّه لمّا انتشر مسير المغول وسلطانهم إلى بلاد الإسلام، وأرجف الناس بهم، وكانوا كلما اقتربوا من بلد فرّ من سمع بهم عن بلاده، إلى أن حاصر هولاكو بغداد سنة 656، واستدام الحصار، وانتشر خبره في البلدان، وسمع أهل الحلة بذلك، فهرب أكثرهم إلى البطائح، ولم يبق بها إلاّ القليل، فكان من اُولئك الباقين هو الإمام سديد الدين، فتشاور مع السيّد مجد الدين محمّد بن الحسن ابن طاووس، والفقيه ابن أبي العز، فأجمع رأيهم على مكاتبة هولاكو بأ نّهم مطيعون، دفعاً لمعرّته وعبث جنوده، فكتبوا في ذلك، وأنفذوا به شخصاً أعجمياً، فأنفذ لهم فرماناً مع شخصين أحدهما يقال له تكلة والآخر يقال له علاء الدين وقال هولاكو لهما: قولا لهم:

إن كانت قلوبكم كما وردت كتبكم تحضرون إلينا، فجاء الأميران وبلّغا مقالة هولاكو، فخاف الجماعة لعدم معرفتهم بما ينتهي إليه الحال، ولكن حرصهم على سلامة المشهدين، مشهد عليّ والحسين(عليهما السلام) وبلدهم ـ الحلة ـ دعاهم إلى تأليف وفد من العلويين والفقهاء يذهب لمواجهة السلطان، وفي هذه الحال قال الإمام سديد الدين: إن جئت وحدي كفى؟ فقال الأميران: نعم، فأصعد معهما فلمّا حضر عند السلطان، وكان ذلك قبل فتح بغداد، فقال هولاكو: كيف قدمتم على مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا ما يؤول إليه أمري وأمر صاحبكم؟ وكيف تأمنون إذا صالحني ورجعت عنه؟

فقال الشيخ سديد الدين: إنّما أقدمنا على ذلك ما رويناه عن عليّ(عليه السلام) في خطبة الزوراء قال(عليه السلام):

«الزوراء وما أدراك ما الزوراء، أرض ذات أثل يشيد فيها البنيان، ويكثر فيها السكان ويكون فيها مهازم وخزان، يتخذها ولد العبّاس موطناً ولزخرفهم مسكناً، تكون لهم دار لهو ولعب، ويكون بها الجور الجائر والخوف المخيف، والأئمّة الفجرة والاُمراء الفسقة والوزراء الخونة، تخدمهم أبناء فارس والروم، لا يأتمرون بمعروف إذا عرفوه، ولا يتناهون عن منكر إذا أنكروه، يكتفي منهم الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فعند ذلك الغم العميم، والبكاء الطويل، والويل والعويل لأهل الزوراء من سطوات الترك، وهم قوم صغار الحدق، وجوههم كالمجان المطرقة، لباسهم الحديد، جرد مرد، يقدمهم ملك ـ يأتي من حيث بدأ ملكهم ـ جهوري الصوت قوي الصولة، عالي الهمة، لا يمر بمدينة إلاّ فتحها، ولا ترفع عليه راية إلاّ نكسها، الويل لمن ناواه فلا يزال كذلك يظفر».

فلمّا وصف لنا ذلك ووجدنا الصفات فيكم، رجوناك فقصدناك.

فطمّنه هولاكو وطيّب قلبه، وكتب فرماناً باسم الشيخ سديد الدين يطيّب فيه قلوب أهل الحلة وأعمالها(3).

وبفضل تدبير هذا الشيخ وحزمه كانت سلامة الحلة والكوفة والمشهدين من هوج المغول وفتكهم، وإكمالا لهذه الخطوة المباركة من الشيخ سديد الدين كانت خطوة السيّد مجد الدين محمّد بن الحسن بن موسى بن جعفر بن طاووس حيث صنّف كتاب البشارة وأهداه إلى هولاكو، فردَّ إليه شؤون النقابة في البلاد الفراتية، وأمر بسلامة المشهدين والحلة والنيل(4).

ومهما اختلفت تفاسير هاتين الخطوتين فإنّهما كانتا مثمرتين بنتائج حسنة، ولم يكن علماء الحلة ولا غيرهم من سائر فقهاء الشيعة من المساومين للأجنبي الفاتح، إذ لم يختلج في ذهن أحدهم أياً كان تسليط كافر على مسلم، مضافاً إلى ما كانوا عليه من إستقامة وورع وصلابة إيمان تحوطهم من الظنون وتمنع عنهم التهم الباطلة.

فكلّ ما في الأمر أ نّهم طلبوا لأنفسهم الأمان حفظاً لدمائهم وصوناً لأعراضهم وحياطة لبلادهم من فتك المغول، بعد أن رأوا بغداد عاصمة الخلافة محاصرة، والخليفة المستعصم بعد مشغول لا يفكر بمصيره فضلا عن مصير غيره(5).

وإلى هذا الشيخ تنتهي جلّ أسانيد ما يرويه ولده الإمام جمال الدين وإبنه الآخر الشيخ رضي الدين عليّ ـ صاحب العدد القوية ـ .

أمّا هو فروايته عن الشريف فخّار بن معد الموسوي، والسيّد أحمد العريضي، والشيخ حسين بن بردة النيلي، والشيخ عليّ بن ثابت السوراوي، والمحقق النصير الطوسي، والنجيب ابن نما، والشيخ راشد بن إبراهيم البحراني، والسيّد رضي الدين ابن طاووس، والشيخ سالم بن محفوظ، والسيّد محمّد بن معد، والشيخ يحيى بن محمّد بن يحيى السوراوي، والسيّد عزّالدين بن أبي الحارث محمّد الحسيني(6).

وقد ذكر له حفيده الفخر في بعض إجازاته (الخلاصة) في الاُصول كما أنّ له مصنّفات اُخرى.

هذه نبذة يسيرة عن حياة والده نستشف منها مكانته العلمية والإجتماعية وقد بلغ الغاية فيما حدّث به ولده الإمام جمال الدين في إجازته الكبيرة لآل زهرة قال: وكان الشيخ الأعظم خواجة نصيرالدين محمّد بن الحسن الطوسي قدّس الله روحه... فحضر الحلة فاجتمع عنده فقهاء الحلة فأشار إلى الفقيه نجم الدين جعفر ابن سعيد وقال: من أعلم هؤلاء الجماعة؟ فقال: كلّهم فاضلون علماء، إن كان واحد منهم مبرزاً في فنّ كان الآخر مبرزاً في فنّ آخر، فقال: من أعلمهم بالاُصولين؟ ـ اُصول العقائد واُصول الفقه ـ فأشار إلى والدي سديد الدين يوسف بن المطهّر وإلى الفقيه مفيد الدين محمّد بن الجهم فقال: هذان أعلم الجماعة بعلم الكلام واُصول الفقه.

وهذه شهادة من الفقيه نجم الدين جعفر بن سعيد المحقق الحلي في حقّ ذينك العلمين لها قيمتها، خصوصاً والحلة يومئذ مركز الثقل، ومهبط العلماء الأفذاذ تعج بأكثر من خمسمائة مجتهد فيما قيل.

 

اُمّه:

من اُسرة عربية أيضاً ترجع إلى هذيل في إنتسابها، حازت من المفاخر أكثر ممّا حازته اُسر اُخرى علمية، لقوّة نفوذها الروحي ومكانتها في عالم التأليف والتدريس، وتلك هي أُسرة بني سعيد، ولعلّ أوّل من لمع نجمه هو الشيخ السعيد نجيب الدين أبو زكريا يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي، وهذا الرجل كان رئيس المذهب في زمانه.

ثمّ ابنه الفقيه أبو يحيى الحسن، والد المحقق الحلي الشهير، وقد صاهره الشيخ سديد الدين ابن المطهّر على كريمته فأولدها شيخنا الإمام جمال الدين، فما ظنّك بامرأة تربت في حجور علماء أفذاذ كيف تكون سيرتها؟

 

أخوه:

الشيخ رضي الدين عليّ بن الإمام سديد الدين، كان فقيهاً عالماً فاضلا شارك أخاه المترجم له في الدراسة على خالهما المحقق ووالدهما سديد الدين ويروي عنهما وعن آخرين، كما يروي عنه ابن أخيه فخر المحققين ابن العلاّمة وابن اُخته السيّد عميد الدين والشيخ زين الدين عليّ بن الحسين بن القاسم بن النرسي الأسترابادي، ورواية الثاني بالإجازة في سنة 703 وله من المصنّفات (العدد القوية لدفع المخاوف اليومية) وهو من مصادر بحار الأنوار الموسوعة الإسلامية الشهيرة.

وكان له ولد واحد اسمه قوام الدين محمّد وهو من أهل العلم والفضل والصلاح، كان يروي عن ابن عمّه الفخر، كما أ نّه كان من مشايخ السيّد تاج الدين محمّد بن القاسم بن معية.

 

اُخته:

لم أقف على شيء من تاريخها، وكلّ ما عثرت عليه أ نّها كانت عقيلة الشريف السيّد مجد الدين أبي الفوارس محمّد بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن عليّ الحسيني العبيدلي الأعرجي، فأنجبت منه خمسة بنين وهم(7):

1 ـ النقيب الجليل جلال الدين عليّ.

2 ـ السيّد الفقيه عميد الدين عبدالمطلب، قدوة السادات بالعراق، تلميذ خاله وشارح بعض كتبه.

3 ـ الفاضل العلاّمة ضياء الدين عبدالله تلميذ خاله وشارح بعض كتبه.

4 ـ السيّد الفاضل العلاّمة نظام الدين عبدالحميد تلميذ خاله وشارح بعض كتبه.

5 ـ السيّد غياث الدين عبدالكريم.

وإذا صحّ أنّ كنية أبيهم أبو الفوارس من أجلهم، فاُمّهم تستحق أن ندعوها أيضاً اُمّ الفوارس.

 

ولادته:

في بلد الحلة الّذي امتاز بطيب مناخه واعتدال جوّه، كما عرف بمظاهر جمال الطبيعة الخلاّبة.

وفي بيئة صالحة امتازت بالذكاء الفطري والنبوغ المبكر، تعج بأكثر من خمسمائة مجتهد، ولا بدع فإنّها وريثة الحضارات الثلاث البابلية والكلدانية والسومرية.

وفي بيت رست قواعده على التقوى، وشيّدت دعائمه بالعلم والمعرفة.

ومن أبوين صالحين كالشيخ سديد الدين ابن المطهّر وعقيلته كريمة الشيخ أبي يحيى الحسن بن يحيى صاحب الجامع ابن الحسن بن سعيد الهذلي واُخت المحقق جعفر بن الحسن صاحب الشرائع.

ولد شيخنا الإمام ابن المطهّر، ومهما اختلف مؤرّخوه في تعيين تاريخ مولده فلا أقرب إلى الصواب ممّا سجّله أبوه سديد الدين، فإنّه تسجيل يحكي عن دقة كاتبه وعنايته في تحديد الواقع، وقد حكى تسجيله ذلك شيخنا جمال الدين في جوابه للسيّد المهنا بن سنان المدني وقد سأله ـ فيما سأله ـ عن مولده فقال: وأمّا مولد العبد فالّذي وجدته بخطّ والدي ـ قدّس الله روحه ـ ما صورته:

(ولد ولدي المبارك أبو منصور الحسن بن يوسف بن مطهّر ليلة الجمعة في الثلث الأخير من الليل 27 رمضان من سنة 648 هـ).

 

اسمه:

سمّاه أبوه في تسجيله بالحسن وهو اسم حسن، وبه عرف واشتهر وذلك ممّا لا شك فيه، ولعلّ القارئ يستغرب منّي هذا، ولكنّه سيعذرني إن عرّفته أنّ جماعة من المؤرّخين ذكروا أنّ اسمه الحسين (مصغراً) ونظراً لتشابه الاسمين خطاً فقد كنا نحتمل ذلك من تصحيف النسّاخ، لكن الغريب في الباب أنّ بعضهم أصرَّ على أنّ اسمه الحسين، بدليل ترتيب الأسماء في كتابه فمثلا انّ الصلاح الصفدي ذكره في كتابيه أعيان العصر والوافي بالوفيات في باب من اسمه الحسين ومثله ابن حجر في موضع من لسان الميزان(8) وموضع من الدرر الكامنة(9) وذكره في موضع سابق(10) باسم الحسن إلاّ أ نّه أحال على باب من اسمه الحسين فلاحظ.

وورد كذلك في النجوم الزاهرة فقد أثبت في الأصل (الحسين) وفي الهامش (الحسن) وذكر المعلق، أ نّه كان في الأصلين وحكاه عن السلوك والدرر والمنهل الصافي وأغرب من هذا وذاك كما يقولون، أنّ بعضهم قال أنّ اسمه يوسف وقد حكاه الصفدي عن شيخه شمس الدين، وذكره ابن حجر أيضاً في موضع من لسان الميزان(11) وترجمه هناك، فلماذا كلّ هذا اللغط من هؤلاء الشيوخ حول الإسم وهم يقولون عن صاحبه انّه مشتهر الذكر!!؟

 

كنيته:

لقد سبق أن قرأنا فيما كتبه أبوه الشيخ سديد الدين في تاريخ ولادته أ نّه كنّاه بأبي منصور، وانّها كنية مباركة تدلّ على تفاؤل عظيم من الشيخ بانتصار مولوده في ميادين الحياة، وقد ذكرها الإمام جمال الدين لنفسه في الخلاصة، وبها كان يكنّى في غالب المصادر الشيعية كمعاجم التراجم والإجازات ونحوها.

وله كنية اُخرى اشتهر بها أيضاً في المعاجم وهي (ابن المطهّر) نسبة إلى جدّه الأعلى، وهي كنية لا تخلو من حسن نغمة وطيب إشارة، وهي أكثر شيوعاً في المصادر السنّية منها في المصادر الشيعية.

 

لقبه:

ذكرت المعاجم الرجالية لشيخنا المترجم له عدة ألقاب أشهرها:

1 ـ آية الله على الإطلاق، وإضفاء هذا اللقب عليه وتخصيصه به دليل الإعجاب به والإكبار له، وإلاّ فما أكثر آيات الله سبحانه، وهو الّذي له في كلّ شيء آية، وهذا اللقب لم أجده في غير المصادر الشيعية.

2 ـ جمال الدين: وهو اللقب الّذي كان مشهوراً به عند الفريقين، وربّما خفّفه بعض العامة فقال الجمال، وميّزه عن غيره باضافته إلى أشهر كنيتيه (ابن المطهّر) رفعاً للإيهام، ولقبه هذا أكثر شهرة عند المتكلّمين والمؤرّخين.

3 ـ العلاّمة: وهو اللقب الّذي خصّ به وعليه وقف، حتّى أصبح علماً وحقيقة ثابتة، فلا يتبادر إلى الذهن عند سماعه مطلقاً إلاّ إليه خصوصاً في محيط الفقهاء.

4 ـ الإمام: وهو كسابقيه في إطلاقه في كتب الفريقين ممّا يظهر تسالمهم عليه، ومن المعلوم أنّ الشيعة خاصة من أورع الناس في إطلاق هذا اللقب السامي.

ولشيخنا آية الله الإمام العلاّمة جمال الدين ألقاب اُخرى دون ما سبق في الشهرة، هي في الواقع نعوت، ساقها مترجموه تنبئ عن رفعة شأنه وسمو مقامه أضربنا عنها صفحاً.

 

نشأته:

تربى في حجر تلك الحرّة المصونة، والبرّة الطاهرة، ربيبة بيت المجد والسؤدد، وهي اُمّه، وتحت رعاية أبيه ذلك الشيخ العطوف الّذي حدب عليه بجنانه، وأحاطه بحنانه، ولم تقتصر تربيته على هذين الأبوين، بل شاركهما في الرعاية وحسن العناية خاله المحقق، الّذي كان يغمره بلطف خاص.

فكانت تربيتهم له نموذجاً صالحاً للمربين، فقد أحضروا له معلماً خاصاً اسمه (محرم) وعهدوا إليه بتعليمه القرآن والكتابة، فقرأ القرآن على ذلك الاُستاذ الخاص وعنده تعلم الكتابة، وما ظن القارئ بصبيّ ينشأ بين أحضان الفضيلة، ويتربى في حجور الاُسرتين الكريمتين بني سعيد وبني المطهّر، وكلّ منهما اُسرة ضربت على الفضل أطنابها، وغذّت بلباناته طلابها.

وإنّ أهم حدث خطير يمر به الصبيّ، وهو بعد لم يكمل العقد الأوّل من عمره، هو حدث الفتح المغولي، الّذي طرق البلاد وشتت العباد.

فقد كان ولا شكّ يطرق سَمعه، وهو في أوّل صباه حديث الناس عن ذلك الغزو التتري، الّذي باتت جيوشه محاصرة لبغداد ـ عاصمة الخلافة الإسلامية ـ وقد دهم الناس خوف ورعب من شرّ الجيوش المغولية الكافرة.

كما عاين ولاشكّ نزوح كثير من أهل بلده مع أطفالهم وأثقالهم إلى البطائح، ليكونوا بمنأى عن معرّة ذلك الكافر أو بالصحيح أبعد خطوة، فإنّ الحلة أقرب إلى بغداد من البطائح إليها، كما أ نّه سمع ولاشكّ بما اشتور الرأي عليه بين البقية الباقية من أهل الحلة، وفي مقدّمتهم أبوه الشيخ سديد الدين، وما استقر عليه رأيهم في الخلاص من تلك الغمّة الّتي أظلتهم والمسلمين عامة، وذلك بمكاتبة سلطان المغول بطلب الأمان لهم فكتبوا.

كما أ نّه رأى أباه مصعداً إلى الدرگاه المغولي مع الرسولين المغوليين، ليفاوض السلطان في شأن مقدّساته وبلاده، وضمان سلامة الجميع على أن يضمن هو للسلطان الطاعة والتسليم، ويعود الشيخ وبيده عهد الأمان المطلوب، قد أمر السلطان أن يكتب باسمه ويضمن فيه سلامة المشهدين والكوفة والحلة والنيل.

كلّ هذا ممّا مرّ على شيخنا المترجم له ووعاه وهو في سنّ الثامنة من عمره.

ولا شكّ أ نّه سمع أنباء الواقعة ببغداد، وقد أتت على الأخضر واليابس حيث جاست جيوش التتار خلال الديار فكان ما كان ممّا لست أذكره، وجرى أمر الله في خلقه ولا رادّ لأمره، واصطلى بنار تلك الواقعة جماعة من أبناء وطنه وفيهم بعض العلويين.

هذا بعض ما مرّ عليه ولا شكّ أ نّه قد سجلته خواطره في ذاكرته، وبقى أليم وقعها في نفسه، وإن لم تظهر آثاره فيما ظهر من آثاره، وكيف له باظهار ذلك وهو يعايش أحفاد هولاكو الفاتح الجبّار، وهم حكّام البلاد.

 

دراساته:

قلت فيما سبق أ نّه تولى تربيته والده الإمام سديد الدين، وكان ذلك الشيخ محققاً فقيهاً مدرّساً عظيم الشأن، واشترك مع أبيه في توجيهه العلمي خاله الشيخ نجيب الدين جعفر بن الحسن، الّذي اشتهر بدقة النظر وبعد الغور وقوّة العارضة حتّى عرف بالمحقق.

وساعدهما على بدو الثمرة وصلاحها هو باستعداده الفطري ونضوجه الفكري، حتّى قيل عن ذكائه المفرط ونبوغه في سنّ مبكرة، أ نّه طوى مراحل الدراسة وهو دون العشرين.

ولقد قطع تلك الأشواط بالتلمذة على هذين العلمين حتّى تخرج عليهما في العلوم العربية بسائر فنونها، وعلم الفقه واُصوله، والحديث وكتبه، وعلم الكلام وقواعده، وأتم عندهما سائر العلوم الشرعية، أمّا دراساته على غير هذين العلمين فتكاد تكون مقتصرة في العلوم العقلية وعلى أساتذة هم أئمّة تلك الفنون.

فقد قرأ على المحقق النصير الطوسي(رحمه الله) وحدّث عن تلمّذه عليه في الحكمة والهيئة بقوله: قرأت عليه إلهيات الشفاء لأبي عليّ سينا وبعض التذكرة في الهيئة تصنيف الخواجة ثمّ أدركه الموت المحتوم قدّس الله روحه(12).

ومن هذه الرواية نعلم أ نّه اجتاز المراحل المشار إليها آنفاً واستعد لأخذ الحكمة والهيئة وهو في الرابعة والعشرين من عمره، المدة الّتي بين ولادة العلاّمة 648 وبين وفاة المحقق الطوسي سنة 672، وقرأ على الشيخ شمس الدين محمّد ابن محمّد الكشي في العلوم العقلية أيضاً، وقد كان يعترض عليه أحياناً فيحير الشيخ عن جواب تلميذه ويعترف له بالعجز(13).

وقرأ على المنطقي الشيخ نجم الدين عليّ بن عمر الكاتبي القزويني المعروف بدبيران شرح الكشف إلاّ ما شذَّ(14)، والكشف هو كشف الأسرار من غوامض الأفكار في المنطق، للقاضي أفضل الدين الخونجي (ت 649 هـ) وقد شرحه الكاتبي دبيران، فقرأ شيخنا عليه الشرح إلاّ ما شذّ.

وقرأ على الشيخ برهان الدين النسفي وأطراه التلميذ بقوله: كان عظيم الشأن زاهداً منصفاً في الجدل، استخرج مسائل مشكلة، قرأت عليه بعض مصنّفاته في الجدل، وله مصنّفات متعددة(15).

هذا ما عثرت عليه ممّا يتعلق بدراسته وشيوخه في القراءة والعلوم الّتي قرأها فبرع فيها، أمّا سائر مشايخه الّذين روى عنهم فإنّهم يشتركون وهؤلاء في أ نّهم جميعاً مشايخه في الرواية، وإليك أسماءهم مع شيء من تعريف تلميذهم لكلّ واحد منهم.

 

مشايخه:

لقد قرأ على جم غفير من علماء عصره من العامّة والخاصّة، كما يقول مترجموه، وإلى القارئ ثبتاً بأسماء من وقفت على التصريح بروايته عنهم إمّا قراءة أو سماعاً أو إجازة وهم:

1 ـ الشيخ المفسّر عزّ الدين أحمد بن عبدالله الفاروثي الواسطي (ت 694 هـ) وهذا الشيخ كان رجلا صالحاً من فقهاء السنّة وعلمائهم(16).

2 ـ السيّد الأجل جمال الدين أحمد بن موسى بن جعفر الطاووسي الحسني (ت 673 هـ) وصفه وأخاه السيّد رضي الدين عليّ الآتي ذكره بقوله: وهذان السيّدان زاهدان عابدان ورعان(17).

3 ـ الشيخ الفقيه نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن سعيد المحقق صاحب الشرائع (ت 676 هـ) ـ خال المترجم ـ وكان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في الفقه(18).

4 ـ الشيخ السعيد نجم الدين جعفر بن محمّد بن جعفر بن نما الحلي(19).

5 ـ الشيخ الجليل جمال الدين الحسين بن أبان النحوي، وهذا الشيخ كان أعلم أهل زمانه بالنحو والتصريف له تصانيف حسنة في الأدب(20).

6 ـ الشيخ كمال الدين الحسين بن عليّ بن سليمان البحراني(21).

7 ـ الشيخ عزّالدين عبدالحميد بن أبي الحديد شارح نهج البلاغة (ت655 هـ)(22).

8 ـ السيّد الأجل غياث الدين عبدالكريم ابن طاووس (ت 693 هـ)(23).

9 ـ الشيخ تقي الدين عبدالله بن جعفر بن عليّ الصبّاغ الحنفي الكرخي، وهذا الشيخ كان صالحاً من فقهاء الحنفية بالكوفة(24).

10 ـ الشيخ السعيد نجم الدين عليّ بن عمر الكاتبي القزويني ويعرف بدبيران (ت 675 هـ) كان من فضلاء العصر وأعلمهم بالمنطق وله تصانيف كثيرة، وكان له خلق حسن ومناظرات جيّدة، وكان من أفضل علماء الشافعية عارفاً بالحكمة(25).

11 ـ الشيخ المؤرّخ بهاءالدين عليّ بن عيسى الاربلي صاحب كشف الغمّة كان حياً إلى سنة 687(26).

12 ـ السيّد الجليل النقيب رضي الدين عليّ بن موسى الطاووسي الحسني (ت 664 هـ) ومرّ انّه وأخاه زاهدان عابدان ورعان(27).

13 ـ الشيخ المفسّر جمال الدين محمّد بن سليمان البلخي صاحب التفسير الكبير (ت 698 هـ)(28).

14 ـ الشيخ الفقيه مفيد الدين محمّد بن عليّ بن محمّد بن الجهم الحلي الأسدي، وكان فقيهاً عارفاً بالاُصولين(29).

15 ـ الشيخ نصير الدين أبو جعفر محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسي (ت 672 هـ) وقد أثنى عليه تلميذه الشيخ ابن المطهّر كثيراً.

16 ـ الشيخ المعظّم شمس الدين محمّد بن محمّد بن أحمد الكيشي، هذا الشيخ كان من أفضل علماء الشافعية، وكان من أنصف الناس في البحث كنت أقرأ عليه اعتراضات في بعض الأوقات، فيفكر ثمّ يجيب تارة وتارة اُخرى يقول حتّى نفكر في هذا عاودني هذا السؤال، فأعاوده يوماً ويومين وثلاثة فتارة يجيب وتارة يقول هذا عجزت عن جوابه(30).

17 ـ شيخ الفلسفة ببغداد برهان محمّد بن محمّد النسفي (ت 687 هـ) وهذا الشيخ كان عظيم الشأن زاهداً منصفاً في الجدل إستخرج مسائل مشكلة(31).

18 ـ الشيخ الحكيم كمال الدين ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني صاحب شروح نهج البلاغة (ت 679 هـ)(32).

19 ـ الشيخ السعيد نجيب الدين يحيى بن سعيد الحلي صاحب الجامع في الفقه (ت 690 هـ) وهذا الشيخ كان زاهداً ورعاً(33) وهو ابن عم والدة شيخنا الإمام جمال الدين.

20 ـ الشيخ الإمام سديد الدين يوسف بن عليّ بن المطهّر صاحب التصانيف الكثيرة ومنها الخلاصة في الاُصول، والد شيخنا المترجم له، وعليه كانت تربيته ودراساته في العلوم العربية والشرعية كما سبق(34).

 

جهود وجهاد:

يجدر بي وأنا أهدف إلى إعطاء صورة صادقة عن شيخنا العلاّمة ابن المطهّر(رحمه الله) أن أختار بعض الجوانب من حياته، لتكون فيها دلالة للقارئ على ما سواها من جوانب اُخرى يتسع الحديث عنها في دراسة تامة شاملة، أمّا أنا فلا يسعني ذلك لأ نّي بصدد تقديم كتاب من كتبه وأثر من آثاره، ولو أردت الإلمام بجميع ما لشيخنا(رحمه الله) من مجالات الجهاد والجهود لطال الحديث وربّما عدّ ذلك خروجاً عن الموضوع في نظر بعض القرّاء، وفي نظري هو من صميم الموضوع إذ هو حديث عن جهاد مستمر طويل وجهود نافعة معطاءة.

ومهما يكن فانّي سأختار للتحدّث بعض الجوانب من تلك الجوانب الكثيرة وإن لم يكونا أهم جوانب حياة شيخنا(رحمه الله)، فإنّ جانب جهاده العقائدي ومواقفه في نصرة المذهب والدفاع عن الإسلام والعقيدة أهم منهما، إلاّ أ نّه جانب متشعب الأطراف فسيح الجوانب لا تسعه هذه السطور خصوصاً وهو يستلزم البحث بدقة واهتمام بالغين مع تحفظ في النتيجة لئلاّ تكون مرتجلة وتحت تأثير العاطفة.

فإنّ بحث ذلك الجانب يقتضي الإلمام أوّلا بمبدأ إسلام المغول وأوّل من أسلم من سلاطينهم، وثانياً روابط التعارف بين شيخنا(رحمه الله) والبلاط المغولي، وثالثاً العوامل الّتي دفعت بسلطان المغول إلى إعلان التشيّع، وكلّ تلك النواحي تقتضي البحث بإسهاب كما تستلزم أن تكون بدقة وتحقيق.

وقد كتبت في ذلك عشر صحائف باقتضاب، ولا أزال أرى أنّ الموضوع يحتاج إلى بحث أوفى، ومتسع من الوقت، لذلك رأيت تجميده فعلا إلى مناسبة اُخرى، والاُمور مرهونة بأوقاتها.

أمّا الجوانب الّتي أختارهما فعلا للحديث عن جهاد شيخنا(رحمه الله) وجهوده فهي:

1 ـ مواقفه في نصرة المذهب والدفاع عن العقيدة.

2 ـ مدرسته العلمية وثمارها الجنية.

3 ـ تصانيفه وآثاره.

 

1 ـ مواقفه في نصرة المذهب والدفاع عن العقيدة:

وهذه الناحية يجب أن تبحث بدقة وإهتمام بالغين، حتّى لا تكون نتيجة البحث مرتجلة وتحت تأثير العاطفة، فإنّها الجانب المهم الّذي نلمس فيه شعور علمائنا الماضين بالمسؤولية وتفانيهم في سبيل خدمة العقيدة والتبشير بمبدئهم، وان أدى ذلك إلى تحمّل المشاق وركوب الصعاب.

وحيث أ نّي الآن في بحث هذا الجانب من شيخنا الإمام ابن المطهّر فلابدّ لي أن أقول بصراحة ليس في هذا الجانب أهم من موضوع تشيّع الشاه خدابنده على يديه، وبالتالي أمر الشاه بتغيير السكة والخطبة والإقتصار على ذكر الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) وأبنائه الطاهرين(عليهم السلام) وإلغاء ذكر غيرهم وتعميم المنشور بذلك إلى جميع أطراف ممالكه ممّا حدا بكثير من المؤرّخين أن عدّوا عمله ذلك حدثاً تاريخياً مهماً فضبطوا عامه متفقين وإن إختلفوا في أسبابه.

ويجدر بي أن أحيط القارئ علماً بأمر ذي بال وهو مبدأ معرفة السلاطين المغول واُمرائهم بشيخنا ابن المطهّر توطئة لما سيأتي من الحديث عن ذلك الحدث التاريخي الّذي ظهر في البلاط المغولي ومنه إلى جميع الممالك التابعة له فأقول:

لا يمكن وأنا بهذه العجالة تحديد مبدأ التعارف بين البلاط وحكّامه وبين شيخنا جمال الدين ابن المطهّر، ولكنّه كان قبل سنة 672 قطعاً، وذلك فإنّ الواسطة في التعريف كان هو النصير الطوسي العالم الشيعي الكبير النافذ الكلمة عند سلاطين المغول من أيّام هولاكو فاتح بغداد 656 إلى أيّام أباقا المتوفّى سنة 680 وكانت وفاة النصير في أيّامه.

وممّا لا شكّ فيه اتصال شيخنا ابن المطهّر بالنصير الطوسي وتلمّذه عليه، وقد قرأ عليه إلهيات الشفا لابن سينا وبعض التذكرة النصيرية في الهيئة من تصانيف النصير نفسه ولم يتم قراءتها لأنّ المنية عاجلت اُستاذه النصير في سنة 672 في بغداد حيث قدمها مع أباقا تلك السنة، وسافر أباقا وخلفه للنظر في شؤون البلاد، ولشدّة اختصاص شيخنا ابن المطهّر باُستاذه وملازمته له عرف بأ نّه تلميذ النصير الطوسي(35).

وقد ذكر غير واحد أنّ شيخنا ابن المطهّر كتب أبياتاً في صدر كتاب أرسله إلى النصير، وهو في عسكر السلطان خدابنده مسترخصاً للسفر إلى العراق من السلطانية والأبيات:

محبتي تقتضي المقام *** وحالتي تقتضي الرحيلا

هذان خصمان لست أقضي *** بينهما خوف أن أميلا

ولا يزالان في اختصام *** حتّى نرى رأيك الجميلا

وأنا لا أصادق على صحة هذه الرواية على علاتها وإختلالها الواضح، ومن الغريب غفلة أصحاب المصادر الّذين ذكروها عن العلّة الظاهرة فيها.

ولا يخفى أنّ الأصل في الرواية هو صاحب الرياض، فإنّه ذكر في كتابه رياض العلماء، أ نّه وجد في مجموعة بأردبيل أبياتاً تنسب إلى العلاّمة الحلي وذكر الأبيات مع مقدّمتها وتبع الرجل على روايته صاحب الروضات فيها(36)وسيّد الأعيان فيه(37) ومؤلّف تحفة العالم فيها(38).

وهكذا كلّ من تأخّر عنهم وحتّى الدكتور محمّد رشاد سالم في مقدّمة منهاج السنّة، ومقدّم كتاب الخلاصة للعلاّمة، ومقدّم إثبات الوصية المنسوب خطأً إلى العلاّمة وغيرهم وغيرهم، فإنّ جميع هؤلاء لم يتنبهوا إلى خلل الرواية من جهة وفاة النصير الطوسي وانّه توفي قبل أن تنشأ السلطانية على وجه الأرض، لا بل قبل أن يولد بانيها في الدنيا، فانّ السلطانية من بناء السلطان أولجايتو خدابنده، وهذا الرجل ولد سنة 680 وتولى الحكم سنة 703 وأمر ببناء السلطانية في سنة 705 فكيف يصح أن يكون المكتوب من السلطانية المنشأة في سنة 705 إلى النصير (ت 672 هـ) وهو في عسكر السلطان خدابنده المولود سنة 680 ؟

أليس من الواضح الجلي أنّ المكتوب إليه هو غير النصير لأ نّه مات قبل مولد أولجايتو باني السلطانية بثماني سنين؟ ومن المحتمل أن يكون المكتوب إليه هو ابن النصير الطوسي، وله عدّة أبناء ولهم مكانة في البلاط المغولي، وأكبر الظن إن صح ما احتملناه انّ المكتوب إليه هو أصيل الدين الحسن بن النصير، وقد تولى بعد أبيه برهة شأن الرصد بمراغة وإدارة بعض الشؤون وورد بغداد صحبة الحضرة السلطانية، ومعه كان صفي الدين محمّد بن عليّ الطقطقي مؤلّف الفخري في الآداب السلطانية، ولأجله وباسمه ألّف كتابه الآخر (الأصيلي في النسب) الّذي نسخ بعضه ونشر باسم غاية الإختصار، كما نبهّت على ذلك في مقدّمة كتاب منتقلة الطالبية، وقد توفي أصيل الدين المذكور سنة 715 قبل وفاة أولجايتو بسنة.

لقد طال الحديث عن رواية الأبيات المذكورة، ومهما يكن من أمر صحتها وعدمه فلا شكّ أنّ معرفة اُمراء المغول لشخصية الشيخ العلاّمة ابن المطهّر كانت قبل السلطان خدابنده، وربّما كانت معرفة بعضهم به منذ عهد غازان أو قبله حينما كانوا يردون إلى بغداد ويطوفون في العراق أيّام كان النصير الطوسي حيّاً، وقد ذكر أ نّه ورد الحلة وزار المشهدين وتعرّف على علماء البلاد وفي مقدّمتهم الشيخ المحقق صاحب الشرائع وهو رئيسهم يومئذ، وتعرّف في مجلسه على جماعة من العلماء كمفيد الدين ابن الجهم الحلي، ونجيب الدين يحيى بن سعيد، وشيخنا ابن المطهّر ووالده سديد الدين، وإن كنا نرجع معرفته بوالده إلى يوم رآه في معسكر هولاكو قبل فتح بغداد.

والّذي يؤكّد معرفة الاُمراء المغول بشيخنا إمّا سماعاً من أفواه الذاكرين فضله والمعجبين به كاُستاذه النصير، وقد سُئل بعد زيارته الحلة عمّا شاهده فيها قال: رأيت خريتاً ماهراً وعالماً إذا جاهد فاق، وعنى بالخريت المحقق وبالعالم شيخنا العلاّمة ابن المطهّر(39)، أو إجتماعاً بشخصه أيّام تلمذه على النصير وفي قصّة الأمير طرمطاي الآتية خير دليل وهذا ما لا شكّ فيه، إنّما المهم في المقام هو البحث عن تعرف خدابنده على شخصية شيخنا ابن المطهّر ومنه إلى اعتناق مذهب التشيّع، وهذه الناحية لم تعالج كما ينبغي فيما رأيت من المصادر بل كلّ واحد يذكر جانباً منها، ويبقى الفراغ بين الحلقات بيناً ومُلفتاً للنظر.

وعلينا أن نعرف شيئاً عن خدابنده وتديّنه على العموم في مراحل حياته:

 

(1) نشأته النصرانية:

ولد خدابنده ـ كما سبق ـ في سنة 680 وهي سنة وفاة جدّه أباقا، ويروي المستشرق بروان انّه نشأ مسيحياً إذ عُمّد بأمر اُمه أروك خاتون وسمّي نيقولا(40)، ويؤكّد هذه الناحية الدكتور رضا پازوكي(41) ما ترجمته: كان أولجايتو ـ وهو الاسم المغولي لخدابنده ـ مدّة حياة اُمّه تابعاً لمذهب النصارى.

 

(2) إسلامه واتباعه المذهب الحنفي:

ولكنه بمجرد موتها تزوج امرأة مسلمة وبناءاً على رغبتها ورهن إشارتها إعتنق الإسلام(42) وتبع المذهب الحنفي(43).

 

(3) انتقاله إلى الشافعية:

كان وزيره الخواجه رشيد الدين فضل الله شافعياً، ولمّا قدم القاضي نظام الدين عبدالملك المراغي من مراغة حبذ الوزير لمخدومه أن يجعل القاضي برتبة قاضي القضاة فلبى طلبه وعيّنه في ذلك المنصب، ونظراً للتنافس بين الاُمراء في البلاط المغولي على التقدم عند الشاه وكانوا مختلفي المذاهب، فكلّ أمير يحاول أن يكون الشاه من أهل مذهبه، فهو يستند على طائفة من القضاة والعلماء في تأييد مذاهبهم لتلك الغاية، ولمّا عين نظام الدين بمنصب قاضي القضاة شرع في مناظرة علماء الحنفية في مجلس الشاه خدابنده فأفلجهم، ونتيجة ترغيب الوزير الخواجه رشيد الدين فقد عدل الشاه عن مذهبه الحنفي وتمذهب بالشافعية(44).

 

(4) فترة الحيرة وأسبابها:

وهنا تقوم قائمة الأحناف ويضيقون ذرعاً بهذه الخطوة إلى أن ورد عليهم ابن صدر جهان الحنفي من بخارا وذلك في سنة 709، فشكت إليه الحنفية عداء القاضي نظام الدين، فلاطفهم وطيب قلوبهم ووعدهم الوقيعة بالقاضي المذكور وبمذهبه بحضور خدابنده، فجرت بينهما محادثات أوجبت حيرة السلطان وامراؤه المغول وندموا على اعتناقهم لدين الإسلام وسخروا بالعلماء والحاضرين وارتد كثير من الاُمراء من الإسلام نتيجة ذلك المجلس، وبقي السلطان أولجايتو محتاراً في أمره، واشتور مع بعض امرائه في الرجوع إلى دين المغولية والعمل بألياته الكبرى (وهي مجموعة قوانين نظمها وسنها جنكيزخان الجد الأعلى لسلاطين المغول)(45).

 

(5) مدّة الحيرة:

واستدامت الحيرة ثلاثة أشهر والسلطان لا يدرك وجه الحيلة في الخلاص من هذا المأزق، وأكبر الظن انّ ما يروى من قصة طلاق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد وانّها كانت سبب تشيّعة، كان في هذه الفترة كما احتمل أن تكون الزوجة الّتي غضب عليها ـ كما يقولون ـ وطلقها هي تلك الّتي أشارت عليه باعتناق الإسلام.

وفي دوامة ذلك الإضطراب والتبلبل العقائدي يتقدم منه أمير مغولي كان قد أسلم وحسن إسلامه واسمه طرمطاش (تيموَرتاش) بن چوبان ـ وهذا الأمير وأبوه كانا من المقدّمين عند غازان السلطان السابق وأخي أولجايتو ـ فيقول له إنّ غازان الّذي كان يعد من أعقل أهل عصره كان قد اختار من المذاهب الإسلامية مذهب التشيّع(46)، يريد بذلك إنقاذه من الحيرة، ولكن السلطان وهو الّذي ساءت عقيدته في بعض المذاهب الّتي كانت أكثر رواجاً من التشيّع كيف يقتنع بهذا الرأي فأغلظ لوزيره وقال له: ويلك تريد منّي أن أكون رافضياً(47) وبالتالي يذكر له وزيره من محسنات مذهب الشيعة انّهم يقولون بالنص والوراثة في الحكم، وتخالج السلطان فكرة قبول رأي الوزير، ولكنها فكرة لمّا تختمر في نفسه، وإن قيل عنه انّه قبلها.

وكيف ما كان تضطره الظروف إلى أن يبحث بنفسه عن هذا المذهب المشار به، وذلك عندما غضب على احدى زوجاته فقال لها أنت طالق ثلاثاً، ثمّ ندم فسأل العلماء فقالوا: لابدّ من المحلل، فقال: انّ لكم في كلّ مسألة أقوالا، فهل يوجد هنا إختلاف؟ فقالوا: لا، فقال أحد وزرائه ـ ولعلّه كان الأمير طرمطاش كما في المصادر العربية أو ترمتاش كما في غيرها ـ : في الحلة عالم يفتي ببطلان هذا الطلاق.

فقال العلماء: إنّ مذهبه باطل ولا عقل له ولا لأصحابه ولا يليق بالسلطان أن يبعث إلى مثله. ولكن السلطان وهو في دوامة الحيرة، يحتاج إلى أن يكشف هذا المذهب الجديد، فيقول له: امهلوا حتّى يحضر ونرى كلامه.

ويستدعي العلاّمة من الحلة، ونظراً لما كان يحسّه شيخنا الإمام ابن المطهّر من شعور بالمسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه ـ هي الأمانة الّتي حملها الله تعالى عليه وعلى العلماء في كلّ عصر واُمناء الشريعة في كلّ مصر ـ ونظراً لمكانته الدينية السامية، إذ كان هو الزعيم المشار إليه بالبنان في عصره ومصره من بين علماء الشيعة وفيهم الكثرة والبركة، لذلك كلّه فقد رأى واجبه الديني يحتم عليه إجابة الدعوة وفيها خير سبيل إلى نهضة دينية مثلى سيجني ثمرتها الطيبة في تبشيره بمذهبه، كما أ نّه ستصيبه أشواك الطريق إلى الهدف من مغرضين وحاقدين لا يخلو منهم مكان ولا زمان.

فصمم على تحمّل العناء في ذلك والسفر إلى الحضرة السلطانية، وقد كتب له التوفيق في ذلك فكان في سفره ودعوته موفقاً للغاية.

وكان معه في سفره ذلك جمع من الأعلام منهم ولده فخر الدين محمّد المعروف بفخر المحققين والسيّد تاج الدين الآوي.

ولمّا حضروا عند السلطان أولجايتو، جمع له جميع علماء المذاهب(48)، هكذا يروى وليس ذلك ببعيد فإنّ في نفس السلطان من بقية المذاهب وحشة، كما سبق بيانه، وإن اجتماع العلماء ومحاججاتهم عنده بمحضره يكشف له حال المذهب الجديد وعلمائه المبشّرين به، وتذكر هنا نادرة لشيخنا ابن المطهّر لا أعلم مدى صحّتها تاريخياً وهي:

انّه لمّا دخل على السلطان أخذ نعله بيده ودخل وسلّم وجلس إلى جانب الملك، فقال العلماء للملك: ألم نقل لك إنّهم ضعفاء العقول؟ فقال: إسألوه عن كلّ ما فعل، فقالوا: لماذا لم تخضع للملك بهيئة الركوع؟ فقال: لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يركع له وكان يسلّم عليه، وقال الله تعالى: (فَإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبَارَكَةً)(49) ولا يجوز الركوع والسجود لغير الله، قالوا: فلِمَ جلست بجنب الملك؟ قال: لأ نّه لم يكن خال غيره، قالوا: فلِمَ أخذت نعليك بيدك وهو مناف للأدب؟ قال: خفت أن يسرقه بعض أهل المذاهب كما سرقوا نعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا: إنّ أهل المذاهب لم يكونوا في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بل ولدوا بعد المائة فما فوق من وفاته.

كلّ هذا والترجمان يترجم للملك كلّ ما يقوله العلاّمة.

فقال العلاّمة للملك: قد سمعت إعترافهم هذا، فمن أين حصروا الاجتهاد فيهم ولم يجوزوا الأخذ من غيرهم ولو فرض أ نّه أعلم؟

فقال الملك: ألم يكن أحد من أصحاب المذاهب في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)والصحابة؟ قالوا: لا.

قال شيخنا العلاّمة ابن المطهّر: ونحن نأخذ مذهبنا عن عليّ بن أبي طالب نفس رسول الله وأخيه وابن عمّه ووصيّه، وعن أولاده من بعده، فسأله الملك عن الطلاق؟ فقال: باطل لعدم الشهود العدول(50).

ثمّ دارت المحاورات والمحاججات بين شيخنا العلاّمة وبين علماء المذاهب، وكان يمثلهم في الإحتجاج القاضي نظام الدين عبدالملك المراغي، الّذي كان السبب في إنتقال السلطان من الحنفية إلى الشافعية.

قال الحافظ أبرو الشافعي في تاريخه ذيل جامع التواريخ:

حيث وقع في نفس أولجايتو محمّد خربندا إتباع مذهب الإمامية أمر باحضار علمائهم، فلمّا حضر العلاّمة ـ ابن المطهّر ـ وغيره من علماء هذه الطائفة تقرر أن يحضر من قبل علماء السنّة الخواجه نظام الدين عبدالملك المراغي الّذي هو أفضل علماء الشافعية بل أفضل علماء السنّة مطلقاً فحضر، وتناظر مع العلاّمة في الإمامة، فأثبت العلاّمة مدّعاه بالبراهين والأدلّة القاطعة، وظهر ذلك للحاضرين بحيث لم يبق لأحد من جميع اُولئك شبهة فيما ذكره العلاّمة ابن المطهّر(رحمه الله) .

قال الحافظ ابرو الشافعي في تاريخه:

ولمّا رأى الشيخ نظام الدين ذلك بهت نفسه ـ كذا ـ وخجل وأخذ في محاسن استدلال الشيخ ابن المطهّر ومحامده وقال: قوّة أدلّة حضرة هذا الشيخ في غاية الظهور، إلاّ أنّ السلف منّا سلكوا طريقاً، والخلف لإلجام العوام ودفع تفرقة الإسلام سكتوا عن زلل أقدامهم، فبالحري أن لا نهتك أسرارهم ولا يتظاهر باللعن عليهم.

وذكر الحافظ أبرو: أنّ نظام الدين المراغي كان يبالغ بعد ذلك في تعظيم الشيخ جمال الدين ويحترمه كثيراً، وجرت بينهما مباحثات على جهة الاستفادة والإفادة لا على سبيل الجدل والعناء، وكذلك الشيخ جمال الدين حسن بن المطهّر لم يكن في أبحاثه متعصباً بل كان يوقر الصحابة ويمنع من تناولهم والتطاول عليهم(51).

وذكر القاضي نور الله في مقدّمة كتابه احقاق الحق(52) أسماء جماعة من العلماء الّذين حضروا عند السلطان وقت المناظرة مع العلاّمة الحلي منهم:

المولى قطب الدين الشيرازي، وعمر بن عليّ الكاتبي دبيران، وأحمد بن محمّد الكبشي، ورشيد الدين(53) السيّد الموصلي، والمولى نظام الدين عبدالملك المراغي.

 

(6) اعلان التشيّع:

ولما تمت المناظرات وحصلت القناعة الكافية للسلطان خدابنده وقرر إتباع مذهب التشيّع نهض شيخنا ابن المطهّر(رحمه الله) ليخطب خطبة برسم الشكر:

فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وآله، فاعترضه السيّد ركن الدين الموصلي ـ وكان قد أسكته العلاّمة في المناظرة وانقطعت به الحجّة ـ في أثناء الصلاة على الآل، وقال: ما الدليل على جواز الصلاة على غير الأنبياء؟

فقال شيخنا(رحمه الله): الدليل قوله تعالى: (الَّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ_156_ƒ_ اُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(54).

فقال السيّد الموصلي: أيّ مصيبة أصابت عليّاً وأولاده ليستوجبوا بها الصلاة؟

فذكر له الإمام ابن المطهّر(رحمه الله) مصائبهم المشهورة ثمّ قال:

وأيّ مصيبة أعظم عليهم من كونك ـ وأنت من أبنائهم ـ تفضل عليهم من لا يستحق التفضيل.

فضحك الحاضرون وخجل السيّد، وفي ذلك أنشد قول القائل:

إذا العلوي تابع ناصبياً *** لمذهبه فما هو من أبيه

وكان الكلب خيراً منه طبعاً *** لأنّ الكلب طبع أبيه فيه

وهكذا تم المجلس وانفض عن اتباع السلطان أولجايتو محمّد خدابنده للحقّ واعتناقه المذهب الشيعي، وصدر الأمر بإعلان ذلك في الممالك التابعة لحكمه.

وجاء في دائرة المعارف الإسلامية(55):

وقد مثل ـ العلاّمة الحلي ـ الشيعة تمثيلا موفقاً في مناقشته مع أهل السنّة جرت في بلاط السلطان غياث الدين الجايتو خدابنده محمّد (703 ـ 716) فتأثر السلطان بحججه تأثراً حدا به إلى إعتناق مذاهب ـ كذا ـ الشيعة في كثير المسائل. وورد في حبيب السير(56) نحو ذلك.

وحدد المحامي عباس العزاوي(57) تاريخ اعلان التشيّع رسماً في ايران بأ نّه كان في سنة 707 فقال: في هذه السنة أظهر السلطان خدابنده شعار الشيعة وذلك بسعي ابن المطهّر.

لكن المؤرّخين الّذين هم أقدم زمناً وأثبت قدماً ذكروا أنّ ذلك كان في سنة 709، قال اليافعي في مرآة الجنان(58) في حوادث سنة 709:

وأظهر خربنده بمملكته الرفض وغيّر الخطبة وشمخت الشيعة وجرت فتن كبار.

وقال ابن تغري بردي في النجوم(59): وفيها ـ أي سنة 709 ـ أظهر خربندا ملك التتار الرفض في بلاده وأمر الخطباء ألا يذكروا في خطبهم إلاّ عليّ بن أبي طالب وولديه وأهل البيت.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية(60): وفيها ـ سنة 709 ـ أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده وأمر الخطباء أوّلا أن لا يذكروا في خطبتهم إلاّ عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه) وأهل بيته، ولمّا وصل خطيب باب الأزج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءاً شديداً وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من اتمام الخطبة، فاُقيم من أتمها عنه .

وبهذه اللهجة الحزينة يذكر مؤرّخوا السنّة هذا الحدث التاريخي، وكأنّ السلطان أعلن الكفر وارتد عن الإسلام، والّذي يؤخذ عليهم، أ نّهم لم يذكروا شيئاً عن ارتداد اُمراء المغول إلى دينهم الأوّل ونتيجة ما وقع من المهاترات بين القاضي نظام الدين المراغي وابن صدر جهان وقد أشرنا إليها آنفاً.

وهنا قامت قيامتهم يذرفون دموع التماسيح على الإسلام وكيف ما تفسر لهجاتهم، فإنا نعتبر الحدث حدثاً ميموناً ونصرة للإسلام، فإنّ شيخنا لو لم ينهض بإجابة الدعوة والحضور في ذلك البلاط المتأرجح بين الوثنية والإسلام، لكان إرتداد المغول إلى دين إلياسة الكبرى من النتائج المحتومة لهم، وبذلك تنكسر شوكة الإسلام مضافاً إلى ما أصاب المسلمين من وهن في الواقعة العظمى سنة 656 عند فتح هولاكو لبغداد.

ولكنّه الشيخ المحنّك والقائد المظفّر، فقد أوضح لسلطان المغول واُمرائه ووزراء البلاط وعلماء المسلمين وجميع الحاضرين مبادئ التشيّع وانّها عين مبادئ الإسلام الصحيحة، كما أنقذ بنفس الوقت سلطان المغول من ورطة ارتطم بها وبلبلة لم يدرك وجه الصواب فيها.

لذلك فإنّا نعتبر نهضة ابن المطهّر مباركة وسفرته ميمونة نجحت فيها الدعوة ولمّ بها الشعث، وفي خلال مدّة قصيرة ـ إلى حد مدهش ـ بدّد الظلام السائد على البلاط، وأنقذ السائرين في الحيرة من محنة الإضطراب العقائدي الّتي عاشوها طيلة ثلاثة شهور، كادت تهوي بهم إلى هوّة سحيقة ـ هوّة الكفر والضلال ـ .

لهذا نعتبره كان موفقاً إلى أقصى حد في نهضته تلك الّتي كان فيها خير قائد وأفضل مجاهد، أرضى ربّه وخدم دينه وبشّر بمبدئه وحظي بالمكانة اللائقة بشخصه، حتّى قال معاصره الصفدي عن ذلك في كتابه الوافي: تقدّم في دولة خربندا تقدّماً زايداً وكان له مماليك وإدارات كثيرة وأملاك جيدة.

وقال في أعيان العصر: تقدّم في آخر أيام خربندا تقدّماً زاد حدّه، وفاض على الفرات مدّه، وكان له إدرارت عظيمة، وأملاك لها في تلك البلاد قدر جليل وقيمة، ومماليك أتراك، وحفدة يقع الشرّ معهم في أمر اشراك...

وقال ابن كثير في البداية والنهاية(61): وحظى عنده ـ أي عند السلطان أولجايتو ـ الشيخ جمال الدين ابن المطهّر الحلي تلميذ نصير الدين الطوسي وأقطعه عدة بلاد(62).

وقال ابن تغري بردي: وله وجاهة عند خربندا ملك التتار.

إلى أمثال هذه العبائر الّتي تدلّ على عظيم مقامه عند السلطان، وتنم عن حسد الخصوم وحقدهم فليقولوا ما شاؤوا، فإنّ الرجل أحسن للإسلام والمسلمين عموماً في موقفه ذلك بقدر ما أساء أصحاب المذاهب الاُخرى إليه، وما على المحسنين من سبيل.

وقد ذكر المؤرّخون انّه قدّم للسلطان في سفره ذلك كتابين ألّفهما باسمه وأهداهما إليه وهما منهاج الكرامة ونهج الحقّ، وقدّمهما له برسم التحفة كما يقول حافظ ابرو في ذيل جامع التواريخ.

وقد كان في أواخر شهر ربيع الأوّل سنة 709 بالبلدة السلطانية كما في تاريخ اجازته لمحمود بن محمّد الرازي، وقد كتبها له على ظهر كتاب الشرايع (63).

ومن الطريف ما ذكره ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة بقوله: «حتّى انّ ابن المظفر شيخ الشيعة كان الشيخ تقي الدين الزيراني البغدادي بيّن له خطأه في نقله لمذهب الشيعة فيذعن له»؟!(64)

وليت ابن رجب ذكر لنا بعض الشواهد على ذلك، وليت غيره من بقية المؤرخين أشار إلى ذلك، ولكن من لا يسمّي يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء، وصدق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

ولمّا تشيّع السلطان محمّد أولجايتو خدابنده بن أرغون بن أباقا بن هولاكو ابن تولي بن چنكيز التتري الايلخاني ملك خراسان وآذربيجان والروم والعراق، مدحه جمال الدين بن الحسام(65) بقصيدة يقول فيها:

أهدي إلى ملك الملوك دعائي *** وأخصّه بمدائحي وثنائي

وإذا الورى والوا ملوكاً غيره *** جهلا ففيه عقيدتي وولائي

هذا خدابندا محمّد الّذي *** ساد الملوك بدولة غراء

ملك البسيطة والّذي دانت له *** أكنافها طوعاً بغير عناء

أغنتك هيبتك الّتي أُعطيتها *** عن صارم أو صعدة سمراء

ولقد لبستَ من الشجاعة حلّة *** تغنيك عن جيش ورفع لواء

ملأ البسيطة رغبة ومهابة *** فالناس بين مخافة ورجاء

مَن حوله عُصب كآساد الشرى *** لا يرهبون الموت يوم لقاء

وإذا ركبت سرى أمامك للعدى *** رعب يقلقل أنفس الأعداء

ولقد نشرت العدل حتّى أ نّه *** قد عمّ في الأموات والأحياء

فليهن ديناً أنت تنصر ملكه *** وطبيبه الداري بحسم الداء

نبهته بعد الخمول فأصبحت *** تعلو مهابته على الجوزاء

وبسطت فيه بذكر آل محمّد *** فوق المنابر ألسن الخطباء

وغدت دراهمك الشريفة نقشها *** باسم النبيّ وسيّد الخلفاء

ولقد حفظت عن النبيّ وصيّةً *** ورفعت قرباه على القرباء

فابشر بها يوم المعاد ذخيرة *** يجزيكها الرحمن خير جزاء

يا ابن الأكاسرة الملوك تقدموا *** وورثت ملكهم وكلّ علاء(66)

(1) رجال ابن داود: 120 طبع ايران سنة 1383.

(2) أمل الآمل 2: 350 طبع النجف سنة 1385.

(3) كشف اليقين للعلاّمة الحلي: 18 طبع ايران سنة 1298.

(4) عمدة الطالب: 190 طبع الحيدرية سنة 1381.

(5) ذكر ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة 7: 48 إنّ تاج الدين بن صلايا نائب الخليفة باربل حذّر الخليفة ـ يعني شرّ المغول ـ وحرّك عزمه، والخليفة لا يتحرّك ولا يستيقظ.

(6) لاحظ عن شيوخه خاتمة المستدرك: 463 ـ 464.

(7) عمدة الطالب: 333، والمشجر الكشّاف: 119.

(8) لسان الميزان 2: 317.

(9) الدرر الكامنة 2: 71.

(10) الدرر الكامنة: 49.

(11) لسان الميزان 6: 319.

(12) الإجازة الكبيرة لبني زهرة في مجلد الإجازات من البحار: 21.

(13) نفس المصدر السابق: 22.

(14) نفس المصدر: 22.

(15) نفس المصدر: 22.

(16) نفس المصدر: 22.

(17) نفس المصدر: 22.

(18) نفس المصدر: 22.

(19) اجازه فخر المحققين لمحمّد بن صدقة (مجلد اجازات البحار) 72.

(20 و 21) الإجازة الكبيرة لبني زهرة (مجلد إجازات البحار): 22.

(22) مواقع النجوم للمحدّث النوري والظاهر انّه وهم من المحدّث فانّ مولد العلاّمة سنة 648 كما سبق ووفاة ابن أبي الحديد سنة 655 فيكون عمر العلاّمة سبع سنين يوم وفاته فلاحظ.

(23) الإجازة الكبيرة (اجازات البحار): 25.

(24) المصدر السابق: 22.

(25) المصدر السابق: 22.

(26) إجازة الحرّ العاملي (مجلد إجازات البحار): 161.

(27) الإجازة الكبيرة لبني زهرة المصدر السابق: 22.

(28) إحقاق الحقّ 1: المقدّمة طبع ايران.

(29 ، 30 ، 31) الإجازة الكبيرة (إجازات البحار): 22.

(32) مقدّمة بحار الأنوار 1: 211، ومقدّمة شرح نهج البلاغة لابن ميثم: 11.

(33) الإجازة الكبيرة: 22.

(34) المصدر السابق: 21.

(35) لاحظ ابن كثير 14: 77 وابن حجر في الدرر 2: 71 وذيل جامع التواريخ : 52 بالفارسية.

(36) روضات الجنّات: 177.

(37) الأعيان 24: 330.

(38) تحفة العالم1:183.

(39) أعيان الشيعة 24: 281.

(40) السلوك (تعليقة الدكتور محمّد زيارة مصطفى) 1: ق 3 ص 927.

(41) تاريخ ايران از مغول تا افشار: 120 طبع ايران سنة 1316 شمسي.

(42) نفس المصدر السابق: 120.

(43) نفس المصدر: 120.

(44 و 45) نفس المصدر: 120، وآثار الشيعة الإمامية: 37 وروضات الجنّات نقلا عن تاريخ حافظ ابرو، ومجالس المؤمنين 2: 357، ولاحظ هامش ص 51 ـ 56 من ذيل جامع التواريخ رشيدي طبع طهران سنة 1317 شمسي.

(46) يروى ذلك عنه انّه اختاره في آخر أيّامه لاحظ أسباب تشيّعه في مجالس المؤمنين 2: 355 وآثار الشيعة الإمامية: 36 نقلا عن تاريخ حافظ ابرو الشافعي وكذا عن التاريخ الغازاني لخواجه رشيد الدين وتاريخ محمّد قاسم فرشته.

(47) تاريخ ايران از مغول تا افشار: 120، ومجالس المؤمنين 2: 358 نقلا عن حافظ أبرو الشافعي.

(48) أعيان الشيعة 24: 291 عن شرح من لا يحضره الفقيه لمحمّد تقي المجلسي والد مؤلّف البحار.

(49) النور: 61.

(50) أعيان الشيعة 24: 291 ـ 292 وقصص العلماء: 356 ـ 357 نقلا عن شرح الفقيه للمولى محمّد تقي المجلسي والد صاحب البحار في باب الطلاق الثلاث في مجلس واحد.

(51) لاحظ هامش ص 52 من ذيل جامع التواريخ رشيدي بالفارسية، وقارن مجالس المؤمنين، وروضات الجنّات: 175. هذا، وقد قال تاج الدين التبريزي الشافعي: وجالست الإمام جمال الدين ابن المطهر الحلي وما أخذت عنه شيئاً لتعصّبه على بعض الصحابة؟! (منتخب المختار من ذيل تاريخ ابن النجار للسلامي، انتخبه التقي الناسي وحققه المحامي عباس العزاوي: 148 ط بغداد).

(52) احقاق الحق: ردّ على كتاب الفضل بن روزبهان الّذي كتبه ردّاً على كتاب منهاج الحق وكشف الصدق للعلاّمة شيخنا ابن المطهّر(رحمه الله).

(53) المعروف في بقية المصادر انّه ركن الدين وقد ورد ذكره في كتاب حفيده بحر الأنساب وانّه توفي سنة 726 وهي سنة وفاة شيخنا العلاّمة فلاحظ (مصور عن نسخة باحدى مكتبات استانبول ورقة 18) وعندي نسخته.

(54) البقرة: 156 و157.

(55) دائرة المعارف الإسلامية 7: 408 (الترجمة العربية).

(56) حبيب السير 3: 197 .

(57) تاريخ العراق بين احتلالين 2: 407.

(58) مرآة الجنان 4: 246.

(59) النجوم 8: 278.

(60) البداية والنهاية 14: 56.

(61) البداية والنهاية 14: 77.

(62) لا يبعد أن يكون ما يذكره المخالفون من ان خربندا أقطعه عدّة بلاد يرومون النيل بذلك من مقام الشيخ(رحمه الله)، أمّا ما كان عنده من أملاك فقد قال الشيخ إبراهيم القطيفي في رسالته الخراجية 2: 100 (كلمات المحققين) فان الّذي كان له من القرى حفر أنهارها بنفسه، وأحياها بماله، لم يكن لأحد فيها من الناس تعلّق أبداً، وهذا مشهور بين الناس، ويدل عليه ويزيده بياناً انّه وقف أكثر قراه في حياته وقفاً مؤبداً. ورأيت خطّه عليه وخطّ الفقهاء المعاصرين له من الشيعة أو السنّة، ومنه إلى الآن ما هو في يد من ينسب إليه يقبضه بسبب الوقف الصحيح. وفي صدر سجل الوقف انّه أحياها وكانت مواتاً، والوقف الّذي عليه خطّه وخط الفقهاء موجود الآن اهـ.

(63) راجع مجلد اجازات البحار: 29.

(64) ذيل طبقات الحنابلة 2: 411.

(65) هو إبراهيم بن أبي الغيث النجّاري المجدلي جمال الدين بن الحسام الفقيه الشيعي من أهل قرية مجدل سلم أو مسلم من بلاد صفد. درس الفقه على ابن العود الفقيه المشهور وابن مقبل الحمصي ورحل إلى العراق ودرس على العلاّمة الحلي وأتقن الفقه حتّى صار إماماً من أئمّة الشيعة، وكان أبوه فقيهاً أيضاً، وكان له مجلسان أحدهما معد للوفود، والآخر لطلبة العلم، وكان يوزع وقته بينهما وكان حيّاً سنة 736.

(66) نقلا عن مستدرك أعيان الشيعة للدكتور مصطفى جواد ـ البلاغ العدد 9 السنة الثانية ص 8 ـ 10. والرجل مترجم أيضاً في أعيان العصر حرف الألف الورقة 13 (للصفدي) وما نقله الدكتور فهو عن الكتاب هذا. وكذلك مترجم في الوافي بالوفيات 6: 79 ترجمة مفصلة فيها بعض أشعاره فراجع. والقصيدة أيضاً مذكورة في الوافي 2: 186 في ترجمة السلطان خدابندا. فراجع.