المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

للنجف مكانة خاصة في قلوب المسلمين لأهميتها المتمثلة بوجود مرقد الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) فيها، لذا تهفو إليها القلوب ويقصدها الزائرون من كلّ البلدان الإسلامية لحصول التكريم والتشريف من ربّ العالمين.

وهي أرض الأنبياء والأولياء والقديسين، اتخذها إبراهيم الخليل(عليه السلام) مسكناً له واشتراها من أربابها(1).

ثمّ اشتراها أميرالمؤمنين(عليه السلام) من أهلها بأربعين ألف درهم، وأشهد على ذلك شهوداً(2).

توفي أميرالمؤمنين(عليه السلام) شهيداً بالكوفة ليلة الجمعة 21 شهر رمضان سنة 40هـ، فحمله ولداه الحسن والحسين(عليهما السلام) إلى ظهر الكوفة سراً، حيث مرقده الشريف الآن بين ربوات ـ تلال ـ ثلاث، وأُخفي قبره(3).

كان الدافع لإخفاء قبره الشريف ـ بوصية منه ـ ما كان يعلمه من أمر أعدائه من الخوارج والأمويين، وما يضمرون له من حقد وضغينة(4).

فكانت هذه الخطوة إحدى الخطوات الغيبية له، وبها حفظ قبره وسلم من عبث العابثين.

وكان أولاده وأحفاده وشيعته يتعاهدون القبر الشريف بالزيارة والصلاة عنده سراً، إلى عهد (هارون الرشيد) واظهار القبر.

كان اظهاره بمثابة ضوء أخضر إذ توافدت الشيعة زرافات ووحداناً لتقبيل تلك الأعتاب الطاهرة، ونقلت جنائز محبيه لدفنها في تلك الأرض.

واتسع الأمر إلى أن صار هناك خدم ومجاورون وكلّ أصناف الناس، واكتملت مدينة وصار لها شأن كبير.

واتسعت أكثر لمّا نزلها الشيخ الطوسي محمّد بن الحسن سنة 448 هـ مع جمع من تلامذته ومريديه، وأصبحت مدرسة فاقت أخواتها في الحواضر الإسلامية، واستمر بها العمران والعلم إلى اليوم(5).

 

أسماؤها:

للنجف أسماء كثيرة عدّدها من كتب عنها، إلاّ أنّ المشهور منها ثلاثة أسماء هي:

1 ـ النجف:

فعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: إنّ النجف كان جبلا وهو الّذي قال ابن نوح: (سَآوِي إلَى جَبَل يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ)(6) ، ولم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه، فأوحى اللهU إليه: يا جبل أيعتصم بك منّي، فتقطع قطعاً قطعاً إلى بلاد الشام وصار رملا دقيقاً، وصار بعد ذلك بحراً عظيماً، وكان يسمّى ذلك البحر بحر (ني)، ثمّ جف وصار بعد ذلك فقيل: (ني جف) فسمّي بنجف، ثمّ صار الناس بعد ذلك يسمّونه (نجف) لأ نّه كان أخف على ألسنتهم(7).

قال الفيروزآبادي: النجف محرّكة والنجفة مكان لا يعلوه الماء مستطيل منقاد... مسناة بظاهر الكوفة تمنع السيل أن يعلو مقابرها ومنازلها(8).

وقال ياقوت: والنجف قشور الصليان، وبالقرب من هذا الموضع قبر أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه)(9).

2 ـ الغري:

الغري نصب كان يذبح عليه العتاير، والغريان طربالان وهما بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة قرب قبر عليّ بن أبي طالب(10)، زعموا أ نّهما بناهما بعض ملوك الحيرة(11).

3 ـ مشهد عليّ:

والمشهد محضر الناس ومنه المشهدان(12): النجف وكربلاء.

وحيث أنّ مراقد الأئمّة(عليهم السلام) كلّها مشاهد إلاّ أنّ المشهور منها (مشهد عليّ)، وهذا الاسم غلب على المدينة مدّة طويلة وإلى الوقت الحاضر، فإنّي كنت أسمع من الشيوخ والعجائز أ نّه (ذاهب للمشهد) ويقصدون به مشهد أميرالمؤمنين(عليه السلام).

 

فضل النجف:

روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: أربع بقع ضجت إلى الله تعالى أيّام الطوفان: البيت المعمور فرفعه الله، والغري، وكربلاء، وطوس(13).

وعنه(عليه السلام) قال: الغري قطعة من طور سيناء، وإنّه الجبل الّذي كلم الله عليه موسى تكليماً، وقدّس عليه عيسى تقديساً، واتخذ عليه إبراهيم خليلا، واتخذ محمّداً حبيباً، وجعله للنبيين مسكناً(14).

وعنه(عليه السلام) قال: نحن نقول بظهر الكوفة قبر ما يلوذ به ذو عاهة إلاّ شافاه الله(15).

 

فضل المجاورة والدفن:

وعقيدة الشيعة في السكن أو المبيت أو في نقل جنائزهم جوار مراقد الأئمّة(عليهم السلام) وبالخصوص مرقد أميرالمؤمنين(عليه السلام); لما ورد في النصوص المأثورة الّتي تحفز على المجاورة، فمنها:

أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) نظر إلى ظهر الكوفة فقال: ما أحسن منظرك، وأطيب قعرك، اللّهمّ اجعل قبري بها(16).

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: ما من مؤمن يموت في شرق الأرض وغربها إلاّ وحشر الله جلّ وعلا روحه إلى وادي السلام.

قيل: وأين وادي السلام؟

قال: بين وادي النجف والكوفة، كأ نّي بهم حلق كثير قعود يتحدّثون على منابر من نور(17).

وهذه المجاورة الكريمة المسقطة لحساب منكر ونكير بحسب الأخبار(18)عناها الشاعر بقوله:

بقبـــــــــرك لذنا والقبـور كثيرة *** ولكن من يحمــــي الجوار قليل

وأوصى آخر حيث قال:

إذا مت فــــادفني مجـــــاور حيـــــــــــدر *** أبــــا شبـــر أعنـــي بـــه وشبـــيــــــــــر

فتى لا يذوق النــــار مــــن كـــــان جاره *** ولا يختشـــــــــي مـــــــــن منكـــر ونكير

وعار على حامي الحمى وهوفي الحمى *** إذا ضـــــــــل في البـــــــــيدا عقـــال بعير

 

  عمارات المرقد الشريف:

طرأت على المرقد الشريف عدّة عمارات من قبل الملوك والسلاطين وغيرهم تيمناً وتبركاً به، أُوجزها للقاري الكريم.

(العمارة الاُولى)

بعد ظهور القبر الشريف على يد (هارون الرشيد) نحو سنة 170 هـ، بنى على القبر قبة، وجعل لها أربعة أبواب من طين أحمر، وطرح على رأسها جرة خضراء، وبني الضريح المطهر بحجارة بيض(19).

(العمارة الثانية)

قامت بمساعي المجاهد الشريف (محمّد بن زيد الداعي الحسني) بعدما خرّب العمارة الاُولى (المتوكّل العبّاسي) ـ مثلما فعل بعمارة الحسين(عليه السلام) ـ سنة 236 هـ .

فإنّه بنى على القبر الشريف قبة وحصناً ـ سوراً ـ فيه سبعون طاقاً ـ إيواناً ـ(20) .

وبعدها بقليل قام (أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان) ببناء حصار ـ سور ـ ، وقبة عظيمة على القبر رفيعة الأركان من كلّ جانب لها أبواب، وسترها بفاخر الستور وفرشها بثمين الحصر الساماني(21).

(العمارة الثالثة)

وهي من أجمل العمارات وأحسن ما وصل إليه فن الهندسة في ذلك العصر.

قام ببنائها (عضد الدولة البويهي ت 372 هـ) سنة 367 هـ ، فقد بذل عليها الأموال الكثيرة، وجلب لها أمهر الفعلة والمهندسين مدّة سنة كاملة، وكان يشرف على البناء بنفسه، حتّى أتم العمل بها، ووزّع الأموال الطائلة على سكان النجف(22).

وقد طرأت على هذه العمارة اصلاحات كثيرة وتحسينات من قبل البويهيين أنفسهم، ووزرائهم، والحمدانيين، ومن بني جنكيزخان وغيرهم حتّى وصلت إلى ذلك الشكل والأثاث والزينة الّتي رآها (ابن بطوطة).

فقد وصفها وصفاً دقيقاً، وذكر ما فيها من فن رفيع، وما حوته من ثمين الفرش والمعلقات، وما يصنعه السدنة وقوام المشهد مع الزائرين في (رحلته)(23).

(العمارة الرابعة)

وهي الّتي حدثت في سنة 760 هـ بعد احتراق العمارة الثالثة، فقد جددت من قبل عدة من المحسنين ولم ينسب بناؤها إلى أحد.

ويعتقد الشيخ جعفر محبوبه أنّ هذه العمارة أقامها الأيلخانيون، ثمّ أصلحها بعدما تضعضعت الشاه (عباس الأوّل) فإنّه عمّر الروضة المطهرة والقبة والصحن(24).

(العمارة الخامسة)

عمارة الشاه (صفي) حفيد الشاه (عباس الأوّل) أحد السلاطين الصفوية وهي العمارة الحاضرة.

فإنّه أمر أنّ يوسّع الصحن الشريف ـ بعدما كان ضيقاً ـ ، ومن ثمّ الحرم المطهر.

وكان المتصدي لهذه المهمّة وزيره (ميرزا تقي المازندراني)، فأقام في هذا العمل ثلاث سنين مع جميع الفعلة والمهندسين حتّى أتمها.

وكان الابتداء بها سنة 1047 هـ إلى وفاة الشاه (صفي) سنة 1052 هـ ، فأتمها ولده الشاه (عباس الثاني)(25).

وهي من أجمل العمارات الإسلامية مع فخامة وهندسة وريازة وفن بديع، بقبة تطاول السماء، ومنارتين كأ نّهما عمودا نور.

لم تزل العمارة المذكورة مرصعة بالحجر القاشاني حتّى زمن السلطان (نادر شاه) سنة 1156 هـ .

فإنّه لمّا ورد النجف زائراً أمر بقلع الحجر القاشاني عن القبة والإيوان والمأذنتين وتذهيبها، وصرف على ذلك أموالا طائلة(26).

 

الصحن الشريف:

يقوم الصحن الشريف على طبقتين، في كلّ طبقة من الأواوين والغرف مثل ما في الطبقة الثانية، وكلّ إيوان منها يحتوي على حجرة أو حجرتين.

وهو مستطيل الشكل يبلغ ارتفاعه 17 متراً، أمّا أبعاده فهي:

من الجنوب إلى الشمال 77 متراً.

من الشرق إلى الغرب 72 متراً.

وله خمسة أبواب:

1 ـ الباب الكبير، من جهة الشرق.

2 ـ باب مسلم بن عقيل، من جهة الشرق.

3 ـ باب القبلة، من جهة الجنوب.

4 ـ باب الفرج أو السلطاني، من جهة الغرب.

5 ـ باب الطوسي، من جهة الشمال.

الدفن في الصحن الشريف:

تحدثنا سابقاً في (فضل المجاورة والدفن) عن عقيدة الشيعة في نقل موتاهم إلى جوار أميرالمؤمنين(عليه السلام)، سواء داخل الصحن الشريف أم خارجه.

وتعد مقبرة (وادي السلام) من أوسع مقابر العالم إذ ينقل إليها ما معدله (100) جنازة يومياً(27) من مختلف مدن العراق والعالم.

وللصحن الشريف نصيب من هذا النقل، فقد امتلأت حجره وأرضه والحرم المطهر بآلاف الموتى من أوّل تأسيسه إلى سنة 1404 هـ ـ 1984 م حيث منعت الحكومة المبادة الدفن فيه إلاّ لبعض الأفراد المخصوصين الّذين لا يتجاوزون العشرة.

وطمست آثار المقابر، وقلعت الصخور الدالة على الاشخاص، ورفعت الصور المعلقة.

وبهذا العمل الخبيث ضاع علينا كثير من الشواخص والآثار النفيسة.

ملحوظة:

أشار كثير من المؤرّخين أمثال (المنذري)(28) و (ابن الفوطي)(29) إلى عدد من وفيات العلماء وغيرهم ونصوا على نقلهم إلى (مشهد عليّ).

وبديهي أنّ المقصود من ذلك هو المدينة لا غير لما عرفت من اسمها، ولا دليل على دفنهم في الصحن الشريف أو خارجه، فلذا أهملت ذكرهم والمسألة تحتاج إلى مزيد من التحقيق.

وأشار ـ أيضاً ـ (ابن حوقل) بقوله: وقد دفن في هذا المكان المذكور ـ يعني الصحن الشريف ـ جلة أولاده ـ يعني أبا الهيجا المذكور سابقاً ـ وسادات آل أبي طالب من خارج هذه القبة، وجعلت الناحية ممّا دون الحصار الكبير ـ السور ـ ترباً ـ مراقد ـ لآل أبي طالب(30).

ولم أتوصل لمعرفة السادات المذكورين مع الأسف.

هذا وقد عملت جاهداً في أن أُعرّف بأعلام من دفن في الصحن الشريف من علماء وفضلاء الحوزة العلمية وأُدباء وشعراء وخطباء وصحفيين وكتّاب، وتعيين قبر كلّ واحد منهم من خلال مصادر تراجمهم أو بإخبار من يخصهم من الأولاد والأحفاد والأقارب وغيرهم.

ولم أذكر من دفن فيه من السلاطين والوزراء والاُمراء والأعيان، وسيكون عملا آخر إن شاء الله.

كما وضعت (خريطة) للصحن الشريف، حتّى يتوصل القاري الكريم إلى موقع الحجرة أو المكان المذكور في ترجمة العَلَم بسهولة.

وقد سعى معي في هذا العمل ودلّني على أكثر القبور كلٌّ من:

1 ـ العالم الكبير والمحقق الثقة السيّد محمّد مهدي الموسوي الخرسان.

2 ـ العلاّمة الخطيب السيّد مهدي الحسيني الشيرازي.

فقد راجعتهما واستفدت منهما لخبرتهما بأحوال النجف، فلهما منّي جزيل الشكر والامتنان.

كما أشكر مساعي (مكتبة الروضة الحيدرية) المتمثلة بمديرها سماحة السيّد هاشم الميلاني، والّذي أشار عليَّ بتأليف الكتاب ليكون مرجعاً مهماً لمن دفن في الصحن الشريف، ومن ثمّ طباعته على نفقة المكتبة، كما أشكر السيّد عبدالرسول حسن الحلو لجهوده في تنضيد واخراج الكتاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين..

كاظم عبود الفتلاوي

النجف الأشرف

***

الهوامش

(1) معجم البلدان 1/331.

(2) فرحة الغري 58.

(3) مقاتل الطالبيين 42، إعلام الورى 154، فرحة الغري 67، إرشاد القلوب 2/233.

(4) فرحة الغري 43، إرشاد القلوب 2/237، عمدة الطالب 47.

(5) اُنظر مقال للمؤلّف بعنوان (قراءة... في أدوار النجف العلمية) نشر في مجلة (ينابيع) العدد صفر سنة 1424 هـ .

(6) هود: 43.

(7) علل الشرايع 31.

(8) تاج العروس 6/250 ـ 251.

(9) معجم البلدان 5/271.

(10) معجم البلدان 4/196.

(11) تاج العروس 10/264.

(12) جمع البحرين 3/82 .

(13) فرحة الغري 99.

(14) إرشاد القلوب 2/237 وفيه عن ابن عباس، ماضي النجف 1/12.

(15) فرحة الغري 117.

(16) فرحة الغري 61، إرشاد القلوب 2/238.

(17) إرشاد القلوب 2/239.

(18) إرشاد القلوب 2/238.

(19) رحة الغري 145، عمدة الطالب 47، إرشاد القلوب 2/234، نزهة أهل الحرمين 45 و53.

(20) فرحة الغري 151، نزهة أهل الحرمين 53.

(21) صورة الأرض 215.

(22) فرحة الغري 151و155، عمدة الطالب48، إرشاد القلوب2/234، نزهة أهل الحرمين53.

(23) رحلة ابن بطوطة 1/109.

(24) نزهة أهل الحرمين 57، ماضي النجف 1/47.

(25) نزهة أهل الحرمين 57.

(26) ماضي النجف 1/64.

(27) بحسب إحصائية من (مكتب استعلامات الدفن في النجف) بتاريخ 27 / 4 / 2006.

(28) في (التكملة لوفيات النقلة) رقم 309، 925، 1294، 1401، 1665، 1876، 2243، 2785، 2832، 2894.

(29) في (مجمع الآداب) رقم 105، 149، 765، 821، 1218، 1292، 2051،2356، 2825، 3284، 3478، 3563، 4110، 4352، 4464، 5208.

(30) صورة الأرض 215.