بنو هاشم
في وادٍ تُحيط به الجبال ، وتحفّ به التلال ، وفي مجتمع ظلّت الجاهلية بتقاليدها تنخر فيه . . . نشأت قبيلة بني هاشم من نسل إبراهيم الخليل(عليه السلام) ، وراحت من بين ثلاث وعشرين قبيلة شكّلت قريشاً ، تقف بكلّ شموخ وإباء; لتؤدي دورها التوحيدي ولتسطّر أروع الصفحات وأجملها ، وأفضل المواقف وأحسنها ، في تأريخ الإنسانية على الإطلاق . . . بما حملته من أخلاق عالية ، وصفات محمودة ، وخصال نادرة ، ومواقف فريدة ، تميّزت بها على أقرانها قبائل ورجالاً ونساءً...
فبنو هاشم ، سادة قريش بل سادة الدنيا ، فهم كما وصفهم الجاحظ : «ملح الأرض ، وزينة الدنيا ، وحلى العالم ، والسنام الأضخم ، والكاهل الأعظم ، ولباب كلّ كريم ، وسرّ كلّ عنصر شريف ، والطينة البيضاء ، والمغرس المبارك ، والنصاب الوثيق ، والمعدن الفهم ، وينبوع العلم . . .»1 .
فقد كان منهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، الذي ولد على رمال مكّة ، أكرم خلق الله تعالى على الإطلاق وأفضلهم وأشرفهم وأعظمهم من الأوّلين والآخرين ، فبه بزغ نور سرعان ما انتشر في الآفاق ، حتى أضاءت له مشارق الأرض ومغاربها ، فغدت الدنيا نيّرة بآيات الله تعالى ، التي حملها ، رحمةً للعالمين ـ داعياً الى الله ، بشيراً ونذيراً ـ شاخصةً بالعزّ والشموخ ، نابضةً بالحياة ، التي غدت تضجّ بين جنبات ذلك المجتمع السادر في غيّه وشركه ، الضال عن الصراط ، الغارق في آلامه ومشاكله ، وعدوانيته وغزواته ، وظلمه وطغيانه ، ولهوه وترفه . . . فوردت كلّ مفاصله ونواحيها; لتقلبه رأساً على عقب ، وتخلق منه أمّةً تأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر ، وزخرت بعطاء دائم وخير عميم ، ما انفكّت الأجيال المتعاقبة تنتفع منه وتقتطف ثماره ما دام ليل وبقي نهار ، لا يعرف النضوب أبداً ، ولا يحدّه شيء ، ولا ينتهي بأمد ، ظلّ معينها يتجدّد وعطاؤها يتّسع ، وكيف لا يكون كذلك وهو عطاء السماء ، الذي منّ الله به على رسوله(صلى الله عليه وآله); لتباركه على يديه ، فينضج كلّ ما بذره ، ويدوم طويلاً ، ويخلد ما شاء الله له الخلود والبقاء . . .
أبو طالب والنوراليتيم
هذا النور العظيم اليتيم منذ ولادته ، راحت قلوب طيبة تحتضنه ، وأيدٍ مباركة ترعاه ، يد جدّه عبدالمطلب الذي تشرّفت برعايته واحتضانه ، ثمّ كانت يد عمّه (أبو طالب) شيبة بني هاشم ، شيخ قريش وزعيمها ، وسيّد قومه ، الذي انطوت نفسه على خصال كريمة كلّها شموخ وإباء وشهامة وعزّة . . .
فكان الكافل المدافع الذابّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، والذي أحاطه بعناية عظيمة ورعاية قلّ نظيرها ، خاصة إذا عرفنا مكانته في قبائل قريش وبين زعمائها ، وما سبّبه ذلك من إحراج له ، وضيق وأذًى . . . ومع هذا كلّه ، فقد صبر أيما صبر دفاعاً عن محمّد ورسالته ، حتى أنّ قريشاً لم تكن قادرةً على أذى رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع عظيم رغبتها في ذلك ، وكانت تتحين الفرص للإيقاع به ، لكنها لم تستطع حتى توفي أبو طالب ، فراحت تكيد له . . .
يقول رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «والله ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب » . ولم يهاجر إلى المدينة ، إلاّ بعد وفاة عمّه رضوان الله عليه .
* * *
فالحديث عن «أبو طالب» حديث عن الصمود والإباء ، حديث عن الإيمان الواعي ، والموقف الحكيم ونكران الذّات ، حديث عن الظلامة التي تلاحقه ، وما زالت إلى يومنا هذا .
ولا يضرّ ولا يفتّ في مواقفه ما يُقال هنا وهناك ، من أنّ أبا طالب لم يكن مؤمناً وقد مات كافراً ، إنّه نتيجة من نتائج الصراع والنزاع الطويل والعميق في تاريخ كلا الأُسرتين : أُسرة الخير والعطاء أُسرة بني هاشم ، وأُسرة بني أُمية المعروفة بالكيد والشرّ ، وتأريخ الأُسرتين واضح بيّن لمن أراد الاطلاع عليه ، إنّه نزاع بين الخير والشرّ ، بين الفضيلة والرذيلة ، بين المعروف والمُنكر ، وقد تمخّض هذا الاختلاف ، بل الصراع عن أُمور كثيرة ، كان منها إتهام شيخ الأُسرة وعميدها ، بل عميد قريش وزعيمها وحليمها وحكيمها بالكفر ، مع تاريخه الناصع ، وذبّه العنيد عن الرسالة والرسول ومواقفه الجليلة ، التي ملأت عصر الرسالة الأوّل عصر التأسيس قوّةً وثباتاً .
لقد حفل تأريخ الرسالة في صدر الإسلام بمواقف عظيمة وأقوال جليلة لشيخ قريش وسيّدها بلا منازع ، أثّرت أثرها وتركت بصماتها على مسيرة الرسالة ، فقد راحت مواقفه تتصدّر أولى مراحل الرسالة ، تضحيةً وصبراً وثباتاً ، وبما تحمله بين طيّاتها من آلام ومأساة تعرّض لها شيخ قريش وسيّدها ، فكان الملاذ الأوّل لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وكان الحضن الأوّل لدعوة السماء ، حيث كانت الدعوة تأخذ مسارها بفضل ما قيّضه الله لها من رجال يحمونها ويضحون في سبيلها وكان أبو طالب أوّلهم ، فحمايته لابن أخيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، والدفاع عنه وعن رسالته ، أمر لا يرتاب فيه أحدٌ ، ولا ينكره منكِرٌ ، وهذا ما يراه كلّ باحث في حوادث العصر الأوّل للإسلام ، وما سنلخصه في مقالتنا هذه...
أبواب الكتاب :
■ بنو هاشم
■ أبو طالب والنوراليتيم
■ اسمه
■ ألقابه
■ صفاته
■ أبوه
■ أُمّه
■ زوجته
■ أولاده
■ أبو طالب ورسول الله(ص)
■ الكفالة المُباركة
■ وصحبه
■ إظهار الدين الجديد
■ وفود قريش
■ أبو طالب والموقف القرشي
■ أبو طالب والحصار في الشعب
■ الصحيفة وما آلت إليه
■ أبو طالب يستحث قومه
■ الوصية الأخيرة
■ وفاة أبي طالب
■ ومما قيل عنه
■ أبو طالب ضحيّة مؤامرة قذرة
■ إذ يتنازعون بينهم أمرهم
■ أين تقف رواية ابن سعد؟
■ وختاماً