الفصل الثالث
الموارد المالية للعتبات
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التكييف الفقهي لأموال العتبات المقدسة
المبحث الثاني: الإنفاق الشرعي لأموال العتبات
« توطئة »
لأسباب دينية، تاريخية ارتبطت ملايين المسلمين بهذه المشاهد المشرفة وتعلقت بها قلوب المؤمنين من شتى بقاع الأرض، وحملت لمن ثوى بجسده منها كل معاني الولاء والمودة ولا غرابة فقد أوجب الله لقربى الرسول كل المودة .
لأجل ذلك فان الإشعاع الولائي لابد أن يستمر، لان الله سبحانه أذن في رفعة بيوتهم وجعلها محلاً لذكره، ومكاناً لتعلم معارف الشريعة.
وقد تسابق الموالون في رفد تلك الأماكن المقدسة بالعطاء وقفاً، ونذراً ووصية وهبة ... الخ ليعزز ذلك الإشعاع، ومن هنا أصبحت تلك الأموال مجال بحث عند الفقهاء، نستعرض المهم منها، وذلك من خلال مبحثين :
التكييف الفقهي لأموال العتبات المقدسة
وفيه مطالب :
ـ المطلب الأول: الأموال الموقوفة :
ولغرض بيان مشروعية وقف الأموال على المشاهد المشرفة أو على المعصومين(ع) ينبغي معرفة ما اشترطه الفقهاء من شرائط متحققة في الواقف والعين الموقوفة والسؤال المهم، هل تنطبق شروط الفقهاء على الأموال الموقوفة لصالح العتبات المقدسة ؟ لقد جعل الفقهاء(1) شروطاً للموقوف عليه أهمّها:
(1) وجوده: أي لا يكون معدوماً.
(2)أن يصح تملكه: أي اشتراط أهلية الموقوف عليه للملك فلا يصح تملك العبد والملائكة والبهائم.
(3) أن يكون معيّناً: فلا يصح على المجهول.
(4) أن لا يكون الوقف عليه محرماً، كالحربي ولو كان رحماً، ولا على الكنائس والبيع وكتب الضلال .
مناقشة :
ويمكن المناقشة في الموردين الأول والثاني .
أما المورد الأول: كيف يصح الوقف مالياً على مَنْ لم يكن موجوداً ـ ميتاً ـ بالنسبة إلى المعصوم (ع)؟ وأما المورد الثاني: كيف يصح الوقف مالياً على مَنْ لا أهلية له للتمليك كالمشاهد المشرفة ؟
جواب المناقشة :
جواب المورد الأول: فإن مفهوم الموجود من إطلاق الفقهاء له معنيان :
المعنى الأول: عدم الولادة: وقد حكم الفقهاء ببطلان مثل هذا الوقف عند تقسيم الوقف باعتبار الموقوف عليه على قسمين وأحد أقسامه هو :
الوقف الخاص: وهو ما كان وقفاً على شخص أو أشخاص، كالوقف على أولاده وذريته أو على زيد وذريته. واشترطوا لصحة الوقف على هؤلاء الوجود، وقد حكموا ببطلان مثل هذا القسم فقالوا: «يعتبر في الوقف الخاص وجود الموقوف عليه حين الوقف، فلا يصح الوقف ابتداءً على المعدوم ومن سيوجد»(2). استدلوا لذلك البطلان بـ:
(1) عدم قابليته للتملك، وقد توقف الفقهاء بصحة الوقف على الحمل فضلاً عمن لا يوجد بالولادة حقيقة، وقد بيّن العاملي (ره) سبب ذلك: «لأن الوقف إما تمليك العين والمنفعة، وإما تمليك المنفعة فقط على اختلاف الرأيين والحمل لا يصلح لشيء منهما، وان صلح للوصية، لأنها تتعلق بالمستقبل، وليس فيها نقل في الحال، والوقف تسليط على الملك وفي الحال فيشترط فيه أهلية المنتقل إليه للملك فافترقا»(3).
(2) ما ذهب إليه المشهور أن صحة الوقف تتحقق بالقبض، وبإذن من الواقف، والمعدوم لا يقبض.
قال السيد الخميني (ره): «يشترط في صحة الوقف القبض، ويعتبر فيه أن يكون بإذن الواقف» (4). وهذا لا قبض فيه.
(3) إن وجه بطلان الوقف على من سيولد فيه إشارة إلى تعليق الوقف. وقد ذكر الفقهاء ان من شرائط صحة الوقف التنجيز، لذا أبطلوا تعليق الوقف، التعليق على شرط يقيني الحصول، كالوقف على مجيء الشهر، فضلاً عن متوقع الحصول كمجيء زيد(5).
وترد هذه الاستدلالات بـ :
أولاً: أما عدم معقولية التمليك لمعدوم فان القول بالبطلان يصح إذا كان العنوان الأولي عن الأعراض الحقيقية الخارجية وأما في الأمور الثانوية الاعتبارية فالأمر يختلف حيث تصح الملكية في الأمور الاعتبارية وذلك لأنها سهلة المؤنة فتتعلق بالمعدوم والموجود(6).
ثانياً: لا وجه لاشتراط المشهور من ضرورة القبض مع إمكان قبض المتولي أو الحاكم فان القبض شرط لزوم لا شرط صحة، لقولهم: «لا يلزم الوقف بعد تمام صيغته بدون القبض» (7).
ثالثاً: التعليق المبطل لا ممانعة فيه إذا كان الإنشاء مطلقاً والمنشأ معلقاً، نعم يبطل الوقف بالتعليق إذا كان في أصل الإنشاء(8).
ويمكن إيجاد وجه رابع للرد وهو: إذا كان مفاد الوقف الصرف أو التمليك حين الوجود، وهذا ما استظهره السيد الحكيم (حفظه الله): «إذا كان مفاده مجرد صرف وارد الوقف عليه أو تمليكه له حين وجوده فالظاهر صحة الوقف، كما لو وقف الدار على أن يجمع المتولي واردها ويدفعه لمن سيولد له، أو ينفقه عليه، أو وقفيتها لينفق واردها في صالح الحمل الموجود فعلاً ولم ينفصل» (9).
المعنى الثاني: ما لايمكن وجوده كالميت، وقد حكم على هذا المعنى بعدم صحة الوقف، لعدم وجود ما يصح الوقف عليه ابتداءً ولا تبعاً، قال الشهيد الثاني (ره): «وأما ما لا يمكن وجوده كذلك كالميت لم يصح مطلقاً، فان ابتدأ به بطل الوقف وان أخره كان منقطع الآخر أو الوسط، وان ضمه إلى موجود بطل فيما يخصه على الأقوى»(10).
ولكن يمكن تصحيح الوقف على ما لا يمكن وجوده كالميت وذلك: بنفس ما تقدم من جواب المعدوم بمعنى: عدم الولادة، وبالإضافة إلى ذلك: تابعية العقود للقصود فانك لو سألت أي شخص أوقف لمعصوم أو ميت على الإطلاق وليس في الوقف فقط بل في مطلق العطايا كما سيأتي في النذر والوصية أو العطية ما هي الغاية المتوخاة أو القصد من ذلك الفعل ؟ لأجاب بأن: صرف هذه الأموال الموقوفة وغيرها في سبيل الخير بقصد تحصيل الثواب إلى الموقوف عليه الميت .
وهذه جهة عقلائية لا منكر لها. أو إيجاد صيغة أخرى بحذف المضاف من زوار أو ثواب أو عزاء أو غيرها وهي بالآخر ترجع على ثواب الميت .
جواب المورد الثاني: وهو يعالج ما أشكل من ضرورة اشتراط أهلية الموقوف عليه للتملك حتى يصح تملكه وعليه كيف تصححون الوقوفات على المشاهد المشرفة؟
والجواب: إن الشرط الثاني من شرائط الموقوف عليه أن تكون له أهلية الموقوف عليه تلك الأهلية المتمثلة بصحة الوقف على المصالح، وذلك لوجود المصلحة ـ النفع والانتفاع ـ الراجعة إلى كافة الناس أو بعضهم وعدم منافاة الشرط بعدم قابليتها للملك كالوقف على المساجد والمشاهد المشرفة والقناطر والمدارس وغيرها .
قال الشهيد الثاني (ره): «ولما كان اشتراط أهلية الموقوف عليه للملك يوهم، عدم صحته على ما لا يصح تملكه من المصالح العامة كالمسجد والمشهد والقنطرة، نبّه على صحته وبيان وجهه بقوله: والوقف على المساجد والقناطر في الحقيقة وقف على المسلمين، وان جعل متعلقه بحسب اللفظ غيرهم، إذ هو مصروف إلى مصالحهم»(11).
وذكر الفقهاء في شرائط صحة الوقف التأبيد، وأرادوا به الذي يكون لا انقراض له إما ابتداءً أو انتهاءً وضربوا عدة أمثلة له منها: «ولو عين المسجد أو الرباط أو المدرسة أو المشهد أو القنطرة جاز الوقف أيضا لعدم الانقراض غالباً» (12).
فالأهلية تابعة في هذا المورد إلى المصلحة الراجعة للمسلمين وهي في الأعم الأغلب لا انقراض لها كما ذكر لها من مصاديق، وكانت هذه المصلحة بمثابة العلة التي بموجبها تم إلحاق المشاهد والقناطر وغيرها من الأوقاف العامة بالمساجد .
وقد استدل على صحة الوقف على العتبات المقدسة .
الروايات الدالة على صحة الوقف على المساجد ومنها: رواية جعفر بن علي عن أبيه، عن جده الحسن بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن أبي الصحاري عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: رجل اشترى داراً فبناها فبقيت عرصة فبناها بيت غلة(13) أيوقفه على المسجد ؟ فقال: «إن المجوس وقفوا على بيت النار» (14).
والظاهر من فهم الرواية لها معنيان :
المعنى الأول: عدم الجواز وقد استظهره الشيخ الصدوق (ره) خصوصاً بعد ضم ما نقله في الفقيه في كتاب الصلاة هكذا: «وسئل ـ أي الإمام الصادق (ع) ـ عن الوقوف على المساجد، فقال: لا يجوز لأن المجوس وقفوا على بيوت النار» (15).
المعنى الثاني: الجواز وقال به العلامة (ره): «والوجه عندي الجواز» (16).
واستظهر الشيخ المجلسي (ره) بقوله: «ظاهره تجويز الوقف كما هو المشهور بين الأصحاب، أي إذا وقف المجوس على بيت النار، فأنتم أولى بالوقف على معابدكم»(17).
مناقشة عدم المنع :
إن ما استظهره الشيخ الصدوق (ره) يمكن مناقشته بعدة وجوه :
الوجه الأول: إن ما ورد في الحديث بلفظ (لا) موجود في بعض النسخ وغير موجود في بعضها الآخر، وعبّر العلاّمة المجلسي عن هذا التنافي بأنه «إحدى مفاسد النقل بالمعنى» (18).
الوجه الثاني: الاحتمال من لفظ (لا يجوز) هو الاستفهام الإنكاري، فيكون مفاده حينئذ الجواز، وأشار إلى ذلك صاحب الرياض (ره):
«فيكون المقصود من التعليل بيان جوازه على المساجد بطريق أولى» (19).
الوجه الثالث: على تقدير صحة رواية جعفر بن علي، فإنها لا تحمل على المنع من الوقف على المساجد لأمور ذكرها الفقهاء :
الأمر الأول: الحمل على ما هو محرم منها كالزخرفة والتصوير(20) .
الأمر الثاني: بقصد تملك المسجد، ومن المعلوم انه لا يملك، بل لابد من قصد مصالح المسلمين(21) .
الأمر الثالث: لتقريب القربان، أو على وقف الأولاد لخدمتها كما في الشرع السابق(22) .
الوجه الرابع: ما ورد عن لسان المعصومين (ع) من استحباب الوقف والصدقة الجارية عموماً كما تقدم في الفصل الثالث .
مضافاً إلى ذلك ورود الروايات الآمرة بعمارة المساجد والإسراع فيها وكنسها وغير ذلك، والوقف وسيلة إلى جميع ما ذكر، ومن تلك الروايات :
عن السكوني، عن جعفر بن محمد عن آبائه (ع) قال: «إن الله إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب قال: لولا الذين يتحابون فيَّ، ويعمرون مساجدي، ويستغفرون بالأسحار لولاهم لأنزلت عذابي» (23).
وينصرف الذهن عند سماع تعمير المسجد إلى البناء أو التواجد، وأغلب البناء يأتي عن طريق الصدقة أو الوقف، فدل على مشروعية الأخير .
وعن انس قال: قال رسول الله (ص): «من سرج في مسجد من مساجد الله سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج» (24).
فعلى العموم صحة الوقف على المساجد أو العتبات هو وقف على مصلحته، لذا ورد الاستحباب على هذا الفعل .
قال الشهيد الأول: «ويستحب الوقف على المساجد، بل هو من أعظم المثوبات لتوقف بقاء عمارتها غالباً عليه التي هي من أعظم مراد الشارع» (25).
ـ المطلب الثاني: الأموال المنذورة والمهداة :
جعل الفقهاء لمتعلق النذر الملتزم بصيغته شروطاً :
الأول: أن يكون الناذر قادراً على الأداء: وهذا الشرط لا خلاف فيه، لاستحالة التكليف بالممتنع مطلقاً .
وقد بيّن الفقهاء بالمراد من القدرة هو: «صلاحية تعلق القدرة منه به عادة في الوقت المضروب له فعلاً كان أو قوةً، فان كان وقته معيناً اعتبرت فيه، وان كان مطلقاً فالعمر» (26) .
وبهذا القيد يخرج ما هو ممتنع عادة كنذر عبور البحر مشياً، أو عقلاً كالجمع بين الضدين أو شرعاً كالصوم جنباً مع القدرة على الغُسل .
الثاني: أن يكون النذر في مجال الطاعة، وهو ما كان المكلف مأموراً به على نحو الوجوب كالصلاة والصيام والحج وغيرهما مما يعتبر فيها قصد القربة، وتدل عليه الأخبار الصحيحة المستفيضة ففي صحيحة أبي الصباح الكناني: سألت أبا عبدالله عن رجل قال: على نذر. قال: «ليس النذر بشيء حتى يسمي لله شيئاً صياماً أو صدقة أو هدياً أو حجاً» (27).
الثالث: ما ندب إليه الشرع: وهو ما يصح التقرب به إلى الله كزيارة المؤمنين وتشييع الجنازة.
وعلى هذا لاينعقد نذر المحرم أو المكروه وقد اجمع الفقهاء على ذلك بلا خلاف كما في الانتصار(28) والروضة(29) لقوله (ص): «لا نذر في معصية» (30).
وإما المباح فلهم عدة تفصيلات فيه فمنهم من أطلق انعقاده(31) ومنهم من فصَّل(32).
والى تلك الشرائط أشار السيد السيستاني (دام ظله): «يعتبر في متعلق النذر أن يكون راجحاً شرعاً حين العمل، بان يكون طاعة لله تعالى من صلاة أو صوم أو حج أو صدقة أو نحوها مما يعتبر في صحتها قصد القرب، أو أمراً ندب إليه الشرع، ويصح التقرب به إلى الله تعالى كزيارة المؤمنين وتشييع جنائزهم، وعيادة المرضى، وغيرها، فينعقد النذر في كل واجب أو مندوب ـ ولو كان كفائياً ـ كما في نذر أكل طعام أو تركه، فان قصد به معنى راجحاً كما لو قصد بأكله التقوي على العبادة، أو بتركه منع النفس عن الشهوة انعقد نذره، وإلا لم ينعقد على الأظهر» (33).
وقد استدل الفقهاء على مشروعية النذر والهدية للمشاهد المشرفة الحاقاً لها بالنصوص الواردة بالنذر أو الهدية للكعبة المشرفة، وعليه صحّح الإلحاق بها فتوىً وإجماعا باعتبار أن المناط واحد وهم تعظيم شعائر الله .
ثم أن النذر والعطية من العقود، وبغض النظر عن لزوميتها من عدمه فان النذر للعتبات صحيح للعمومات الواردة كقوله تعالى: ((أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)) وقوله (ص) «المؤمنون عند شروطهم» ووجوب الإيفاء بالنذر.
وينبغي الإشارة إلى منذور الكعبة المشرفة من هدي الأنعام وغيرها :
اولاً: نذر الهدي: المراد بالهدي هو احد الأنعام الثلاثة (الإبل والبقر والغنم) فإذا ذكر نذر (الهدي) ولم يذكر المنحر فحكم نذره (منى) ولكن إذا عين مكان نذره تعين .
وتدل عليه رواية أبان عن محمد عن أبي جعفر (ع) في رجل قال: عليه بدنة، ولم يسم أين ينحر، قال: «إنما المنحر بمنى يقسمونها بين المساكين» وقال في رجل قال: عليه بدنة ينحرها بالكوفة، فقال: «إذا سمى مكاناً فلينحر فيه، فانه يجزي عنه» (34).
وقال تعالى: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ)) أي يهديه هدياً يبلغ الكعبة، قال ابن عباس: يريد إذا أتى مكة ذبحه وتصدق به(35).
ثانياً: هدي غير الأنعام وعلى الخصوص الجارية أو العبد أو الدابة إذا جعل الجارية أو العبد أو الدابة هدياً، فلا يلزم شراء بدنة ونحرها في منى .
وجاء في الروايات بيع ذلك الهدي وتوزيعه على أهل الحاجة كما في :
(1) صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن رجل جعل جاريته هدياً للكعبة كيف يصنع قال: «إن أبي أتاه رجل قد جعل جاريته هدياً للكعبة فقال له: قوّم الجارية أو بعها ثم مر منادياً يقوم على الحجر فينادي إلا من قصرت نفقته أو قُطع به، أو نفد طعامه فليأتي فلان بن فلان، وأمره أن يعطي اولاً فأولاً حتى ينفد ثمن الجارية» (36).
(2) رواية محمد بن عبد الله بن مهران عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن الرجل يقول: هو يهدي إلى الكعبة كذا وكذا، ما عليه إذا كان لا يقدر على ما يهديه ؟ قال: «إن كان جعله نذراً ولا يملك فلا شيء عليه، وان كان مما يملك غلاماً أو جارية أو شبههما باع واشترى طيباً فطيب به الكعبة» (37).
(3) رواية أبي الحر عن أبي عبد الله (ع) قال: جاء رجل إلى ابي جعفر (ع) فقال له: إني أهديت جارية إلى الكعبة فأعطيت بها خمسمائة دينار فما ترى ؟ فقال: «بعها ثم خذ ثمنها ثم قم على حائط الحجر ثم نادي وأعط كل منقطع به وكل محتاج من الحاج» (38).
وقد نقل صاحب الرياض (ره) مع رواية أبي الحر، رواية بشأن الوصية بالمال إلى الكعبة ستمر علينا في الوصية وبالرغم من ضعف الروايتين وعلق عليهن بقوله: «قصورهما بالجهالة فأنهما مجبورتان، بان في سنديهما من أجمعت على تصحيح ما يصح عنه العصابة، وهو أبان في الأول، وحماد بن عيسى في الثاني، مع إنهما معتضدان كالصحيحة ـ جعل ثمن جاريته هدياً للكعبة ـ بالشهرة العظيمة التي لا يوجد لها مخالف، بل الظاهر من الماتن في الشرائع وغيره الإجماع عليه» (39) .
ثالثا: النذر والهدية غير الأنعام والثلاثة المذكورة :
وقع الخلاف في مشروعية نذر غير النعم والثلاثة ـ العبد، الجارية، الدابة ـ كنذر الثوب أو الدراهم أو الطعام .
بعد إجماع الأصحاب على عدم بطلان الأول ـ النعم ـ وبيع الثلاثة وصرفها في المصلحة، أما لو جعل النذر غيرها فقد نقل عن صاحب الشرائع، وغيره خلاف باللزوم: «لو نذر أن يهدي إلى بيت الله سبحانه غير النعم، قيل يبطل النذر وقيل يباع ذلك ويصرف» (40). ففيه قولان :
القول الأول: بطلان النذر: وهو ما حكاه العلامة عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل(41) وبه قال ابن البراج(42): «إذا قال: إن كان كذا، فلله عليَّ أن اهدي إلى بيته طعاماً، لم يجب عليه الوفاء لان الهدي لا يكون إلا من الإبل أو البقر أو الغنم» (43).
واستدلوا له بـ :
اولاً: بأنه خروج عن مورد النص، لان لم يتعبد بالإهداء إلا في النعم، فيكون نذراً لغير المتعبد به فيبطل(44).
ثانياً: الروايات: رواية أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يقول: أنا أهدي هذا الطعام «فليس هذا بشيء، إنما تهدى البدن» (45).
ويمكن معارضة هذا القول بـ :
(1) بالروايات الصحيحة الواردة بنذر الجارية والعبد والدابة وغيرها فلا تصمد رواية ابي بصير بإزاء تلك الروايات .
(2) ضعف رواية أبي بصير بعلي بن حمزة البطائني، لإجماع الرجاليين على ضعفه(46).
(3) أنه خلاف الإجماع المدعى من قبل صاحب الشرائع(47).
القول الثاني: يباع ويصرف ثمنه في معونة الحاج أو الزائرين .
لذلك قال في الرياض: «ولو نذر إهداء غير النعم قيل: صرف ثمنه في معونة الحاج أو الزائرين كما في الصحيح الوارد في إهداء الجارية»(48).
وتدل على الحكم:
(1) رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (ع) قال: «سألته عن الرجل يقول: وهو يهدي إلى الكعبة كذا وكذا ما عليه إن كان لا يقدر على ما يهديه ؟ قال: إن كان جعله نذراً ولا يملكه فلا شيء عليه، وان كان مما يملكه غلام أو جارية أو شبهه باعه واشترى بثمنه طيباً فيطيّب به الكعبة، وان كان دابة فليس عليه شيء»(49).
فمن لفظ (وشبهه) استفيد الزيادة على الثلاثة ، ولكن يمكن المناقشة في هذا القول من جهة ضعف الرواية سنداً ودلالةً :
(1) أما سنداً: لوجود محمد بن عبد الله بن مهران في طريقها وهو ضعيف جداً(50) هذا من جهة ومن جهة أخرى، احتج ابن البراج(51) بضعفها لنسبة صاحب الشرائع هذا القول إلى مجهول .
(2) وأما دلالة: فلأن تخصيصها الحكم بما ذكر فيها مما لا ينطبق على احد الأقوال(52).
ومع ضعف الرواية سنداً ودلالة فلا يمكن المنع من نذر غير النعم والدابة، والجارية، والعبد، بل الحكم يسري إلى جميع ما نذر من الأشياء إلى الكعبة المشرفة أو المشاهد المقدسة .
وذلك لما دلت عليه العمومات ورواية البرقي والإجماع نصاً وفتوى .
اولاً: العمومات: كوجوب الوفاء بالنذر وخاصة إذا توفرت الشروط المتعلقة بالناذر ومتعلق النذر، لذلك قال صاحب الحدائق (ره) :
«الظاهر إن ما اشتمل عليه أكثر هذه الأخبار من ذكر الجارية لا يوجب تخصيص الحكم بها، بل ذلك يجري في كل ما اهدي للكعبة من الحيوانات الأناسي وغير الحيوانات وخصوص السؤال عن الجارية لا يوجب تخصيص الحكم .. لأنه متى كان النذر منعقداً صحيحاً تعين المصرف فيما ذكر لعدم الخصوصية كما عليه ظاهر اتفاق كلمة القائلين بانعقاد النذر المذكور» (53).
وقال صاحب المدارك (ره): «وألحق به المصنف إهداء الدابة ايضاً، لاشتراك الجميع في المعنى، وهو حسن، بل لا يبعد مساواة غيرهما لها في هذا الحكم من إهداء الدراهم والدنانير والأقمشة وغير ذلك وشهد له ايضاً ما رواه الكليني ثم أورد رواية ياسين المتقدمة ... ولا خصوصية للجارية» (54).
ورد صاحب الحدائق القول بان محل النزاع حتى الثلاثة المذكورة في الروايات الجارية، الدابة، العبد الذي نظّر له الشهيد الثاني في المسالك(55): «وكيف كان فهذا القول عنه مردود بما تلوناه من الأخبار الدالة على إهداء الجارية والغزل، وأما رواية أبو بصير المذكورة، فإنها لا تبلغ قوةً في معارضة ما قدمناه من الأخبار مع أن ظاهرها تخصيص الهدي بالبدن، والإجماع نصاً وفتوى على خلافه» (56).
ثانياً: رواية عبد الله البرقي عن بعض أصحابنا قال: دفعت إلي امرأة غزلاً فقالت: ادفعه بمكة ليخاط به كسوة الكعبة فكرهت أن ادفعه إلى الحجبة، وأنا اعرفهم فلما صرت بالمدينة دخلت على أبي جعفر (ع) فقلت له: جعلت فداك، إن امرأة أعطيتني غزلاً وأمرتني أن ادفعه بمكة ليخاط به كسوة الكعبة فكرهت أن ادفعه إلى الحجبة فقال: «اشتر به عسلاً وزعفراناً وخذ طين قبر أبي عبد الله (ع) واعجنه بماء السماء واجعل فيه شيئاً من العسل والزعفران، وفرقه على الشيعة ليداووا به مرضاهم»(57).
ثالثاً: الإجماع وكما نقله السيد المرتضى (ره) قال :
«ومما يظن أن الأمامية تنفرد به القول بان من نذر سعياً إلى مشهد من مشاهد النبي (ص) أو أمير المؤمنين (ع) أو أحد الأئمة (ع)، أو صياماً أو صلاة فيه أو ذبيحة لزمه الوفاء به، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك إلا أنه قد روي عن الليث بن سعد(58) انه قال: متى حلف الرجل أن يمشي إلى بيت الله عز وجل ونوى بذلك مسجداً من المساجد لزمه ذلك، ودليلنا الإجماع الذي تكرر» (59).
وعبر المقداد السيوري (ره) عن ذلك الحكم ـ الإجماع ـ بالاطراد «وطرد الأصحاب الحكم بما لو كان المنذور غير الدابة والجارية أو كان المنذور له غير البيت كالمسجد، والمشهد لاتحاد الطريق في ذلك كله من غير فرق» (60).
رابعاً: فتاوى الفقهاء :
استفاد الفقهاء من روايات النذر والعطية للكعبة سراية الحكم للمشاهد المشرفة لما عللته الروايات من إن الكعبة لا تأكل ولا تشرب، وان الوقف العام هو حقيقة وقف على المسلمين واستقربوا هذا الحكم عند استفتائهم حول إلحاق مشهد النبي (ص) ومشهد أمير المؤمنين (ع) ومشهد كل واحد من الائمة (ع) ببيت الله عزوجل في صحة نذر العبد والجارية وغيرها من سائر الأموال فيصح نذر المذكورات لها أم لا ؟ أم يختص الحكم بالبيت ؟
استقرب الفقهاء الأول وفاقاً للمقنعة(61) والنهاية(62) والتحرير(63) وغيرهم(64).
وجاءت فتوى الشهيد الثاني: «الأقوى تعدي الحكم إلى النذر المطلق والوصية وغيرهما، سواء كان مما ذكر عبده، جاريته، دابته، أم غيره وسواء كان هدياً أم غيره»(65).
بل ذكر صاحب الرياض عند ذكره رواية موسى بن جعفر (ع) المتقدمة: «الرواية متضمنة للعلة العامة الموجبة لتلك التعدية ـ وهي شمول كل أجناس النذر من الأعيان دون الاقتصار على ما ذكر من الروايات من الدابة والجارية والدرهم ـ وتعديه أخرى هي: إلحاق المشاهد المشرفة والضرائح المقدسة ببيت الله سبحانه في حكم المسألة» (66).
ولهذا لو تحققت شرائط النذر للمنذور يوجب صرفه لتلك الجهة لا لغيرها، وتصريح ولده في المناهل على المنوال نفسه: «إذا نذر جاريةً أو عبداً أو دابةً أو غيرها من الأموال والدراهم والدنانير والفرش والبسط ونحوها لمعصوم ميت من النبي (ص) وسائر الأئمة الطاهرين (ع) وفاطمة(ع) أو لعالم ميّت ولرجل صالح ولواحد ميّت من أولاد الأئمة كالعباس (ع) فالظاهر صحة هذا النذر» (67).
بل مع تحقق شرائطه يكون مصرفه ضمن ذلك الحد دون غيره، كما جاء في بعض الاستفتاءات للسيد السيستاني (دام ظله): «امرأة نذرت بمبلغ للمشاهد المشرفة، وألان بعد تحقق النذر، هناك اسر فقيرة محتاجة جداً إلى هذا المبلغ، فهل تعطي المرجعية اذناً بصرفها لهؤلاء الفقراء» ؟
فكان جوابه: إذا كان النذر صحيحاً بالصيغة الصحيحة مع ذكر اسم الله تعالى فيجب العمل بموجبه» (68).
ولم توجب الفتاوى تسرية الحكم فقط إلى النبي محمد (ص) وأهل بيته (ع)، بل صرح صاحب المناهل إلحاق سائر الأنبياء وأولاد الأئمة (ع) والشهداء والعلماء والصلحاء بالبيت المعمور .
«يلحق بالبيت سائر المشاهد كمشهد فاطمة (ع) وسائر الأنبياء (ع) كذي الكفل وأوصيائهم وأولاد الأئمة الأبرار (ع) الأخيار غير ما تقدم كابي الفضل العباس بن امير المؤمنين (ع) وبعبد العظيم وفاطمة القمية والشهداء والعلماء والصلحاء من الصحابة كسلمان وحذيفة وأبي ذر ومقداد وغيرهم وبالجملة كل مشهد شريف يجوز الوقف عليه» (69).
ـ المطلب الثالث: في الأموال الموصى بها:
إن إثبات مشروعية الأموال الموصى بها للمشاهد المشرفة أو للمعصوم (ع) يمكن تحقيق القول فيه، وذلك بعد بيان حقيقة الوصية وأقسامها وما يشترط في الموصى إليه .
أما حقيقتها فقد عرفت بعدة تعريفات انطوت على جامع ملازم يتقوم به وهو (العهد) أو (الوصل)(70).
وقسمت الوصية حسب متعلق العهد أو الوصل إلى أقسام(71):
القسم الأول: تمليك عين: كمن أوصى بان تكون داره لزيد بعد موته .
القسم الثاني: تمليك منفعة: كمن أوصى بان تكون منفعة سيارته لشخص معين.
القسم الثالث: تسليط على حق: كالوصية بان ينتفع (فلان) بكتب الموصي .
القسم الرابع: فك ملك: كالوصية بعتق مملوكه .
القسم الخامس: عهد متعلق بالغير: وهي الوصية لشخص بان يوصي ولده بدراسة العلوم الدينية .
القسم السادس: عهد متعلق بنفسه: وهي الوصية بالدفن لنفسه في احد المشاهد المشرفة المعيّنة.
وعلى هذا فان الفقه اتجه لتقسيم الوصية إلى عهدية وتمليكية .
فالوصية التمليكية: «هي أن يجعل الشخص شيئاً مما له من مال أو حق لغيره بعد وفاته، كان يجعل شيئاً من تركته لزيد» (72).
وأما الوصية العهدية: «هي أن يعهد الشخص بتولي احد بعد وفاته أمراً يتعلق به أو بغيره كدفنه في مكان معين» (73).
وهذا مما لا خلاف عليه، ولكن تعددت أقوال الفقهاء في شرائط الموصى له بعد اتفاقهم على منع الوصية لمن سيوجد من الأبناء أو غيرهم .
قال الشهيد الثاني (ره): «وأما الوصية لمن سيوجد فقد أطلق الأصحاب وغيرهم المنع منه، ولو لتبعية الموجود، مع انه قد تقدم جواز الوقف على المعدوم تبعاً للموجود، ودائرة الوقف أضيق من دائرة الوصية» (74).
وقد تعددت الأقوال في الموصى له (المعدوم) الذي لا يمكن عوده وهو (الميت):
القول الأول: بطلان الوصية وهو ما نقله صاحب الحدائق ببطلان الوصية لميت ونقل عدم الخلاف بين الأصحاب، قال صاحب المسالك (ره): «الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يشترط في الموصى إليه الوجود حال الوصية، فلوا أوصى لميت بطلت، وكذا لو أوصى لمن يظن وجوده ثم تبين أنه قد مات حال الوصية» (75). واستدل له :
(1) عدم قابلية الموصى له للتملك .
قال صاحب الحدائق (ره): «إن الوصية لما كانت عبارة عن تمليك عين أو منفعة وكما تقدم من تعريفها بذلك، فلابد ان يكون الموصى له قابلاً للتملك ليتحقق مقتضاها، فلا تصح الوصية لميت، ولا لما تحمله المرأة، ولا لمن علم موته حين الوصية للعلة المذكورة» (76).
(2) عدم ترتب الأثر إلا إذا كان الموصى له موجوداً .
ومن هنا صحح فقهاؤنا المعاصرون كالسيد السيستاني (دام ظله) الوصية العهدية للمعدوم، إذا كان متوقع الوجود، دون التعريف صريحاً بحكم غير متوقع الوجود كالميت: «لا يعتبر في الوصية العهدية وجود الموصى له حال الوصية أو عند موت الموصي، فتصح الوصية للمعدوم إذا كان متوقع الوجود في المستقبل» (77).
القول الثاني: صحة الوصية للمعدوم وكان ذلك ضمن مبنيين :
المبنى الأول: ما تبناه المحقق الثاني (ره) حيث جوز صحة الوصية لمعدوم من حيث لا ممانعة من هذه الوصية لما لها من نظير في الوقف من جوازه على معدوم إذا كان تابعاً :
«واعلم انه قد سبق في الوقف جوازه على المعدوم إذا كان تابعاً، كما لو وقف على أولاد فلان، ومن سيولد له فأي مانع من صحة الوصية كذلك؟ فإذا أوصى بثمرة بستانه مثلاً خمسين سنة لأولاد فلان، ومن سيولد له فلا مانع من الصحة، بل تجويز ذلك في الوقف يقتضي التجويز هنا بطريق أولى، لأنه أضيق مجالاً من الوصية»(78).
ولكن في هذا القياس نظر أوضحها الشيخ شمس الدين بقوله: «كان هذا القياس ناشئ من توهم أن الوقف بنفسه يكون قائم تمام السبب لملك البطون اللاحقة، المعدومة حين إنشائه، مع أن ذلك غير صحيح وإلا لاقتضى أن يكون وجودها كاشفاً عن ثبوت مشاركتها للموجود من الموقوف عليهم حتى في حال عدمها .. بل الصحيح هو أن الوقف يكون جزء السبب الناقل للملك إلى المعدوم .. وعلى هذا يكون وجود الموقوف عليه الجزء الآخر لذلك السبب» (79).
المبنى الثاني: ما تبناه السيد السبزواري (ره) صاحب المهذب .
وهذا القول تبناه (ره) في معرض ردّه على القول ببطلان الوصية العهدية للمعدوم ، وعلل ذلك بأن ما استدلّ به من شرطية وجود الموصى له حتى يكون قابلاً للتملك كي تحقق الوصية مقتضاها مردود وذلك من خلال :
(1) عدم خلو الدليل من المغالطة، حيث أن هناك مائزاً ما بين الأعراض الخارجية وبين الأمور الاعتبارية، ففي الأولى لابد من وجود العين أو الشيء وترتيب الآثار عليه والدليل المنساق للقول الأول ينطبق على هذا الشق ولكن في الشق الآخر، الأمور الاعتبارية فانه يصح الاعتبار حتى بالنسبة إلى المعدوم لان الاعتباريات كما يقال خفيفة المؤنة .
(2) هناك خلط بين العدم المطلق، وعدم المَلَكَة، فلا يصح في الأول دون الثاني(80)، على اعتبار لما فُسّر بان الثاني أي عدم الملكة هو «ليس عدماً مطلقاً بل له حظ ما من الوجود ، ويفتقر إلى الموضوع كافتقار الملكة إليه .. كالعمى فانه عدم البصر لا مطلقاً»(81).
(3) تصحيح الفعل من جراء ما قصده الموصي، فان العقود تابعة للقصود ولا شك أن بوصيته للمعصومين(ع) أو المشاهد المشرفة قصد الثواب وإيصاله إليهم عن طريق الوصية أو الطرق الأخرى الداعية لبيان تعلق الناس بصراط الله المستقيم.
(4) إن روايات الوصية إلى الكعبة أو البيت الحرام جاءت لتنقيح المناط وتسرية الحكم إلى المشاهد ومنها:
1. رواية حريز بن ياسين، قال سمعت أبا جعفر (ع) يقول: «إن قوماً أقبلوا من مصر فمات منهم رجل فأوصى بألف درهم للكعبة فلما قدم الوصي مكة سأل فدلوه على بني شيبة فأتاهم فأخبرهم الخبر فقالوا: قد برئت ذمتك ادفعها إلينا، فقام الرجل فسأل الناس فدلوه على أبي جعفر محمد بن علي قال أبو جعفر (ع): «فأتاني فسألني فقلت له: إن الكعبة غنية عن هذا، أنظر إلى مَنْ أمّ هذا البيت فقطع به، أو ذهبت نفقته، أو ضلت راحلته، أو عجز أن يرجع إلى أهله فادفعها إلى هؤلاء الذين سميت لك، فأتى الرجل بني شيبة فاخبرهم بقول أبي جعفر (ع) فقالوا: هذا ضال مبتدع ليس يؤخذ عنه، ولا علم له، ونحن نسألك بحق هذا البيت، وبحق كذا وكذا لما أبلغته عنا هذا الكلام قال: فأتيت أبا جعفر (ع) فقلت له: لقيت بني شيبة فأخبرتهم فزعموا انك كذا وكذا، وانك لا علم لك، ثم سألوني بالعظيم إلا أبلغتك ما قالوا قال: وأنا أسالك بما سألوك لما أتيتهم فقلت لهم إن من علمي، أن لو وليت شيئاً من أمر المسلمين لقطّعت أيديهم ثم علقتهم في أستار الكعبة ثم أقمتهم على المصطبة(82) ثم أمرت منادياً ينادي ألا هؤلاء سراق الله فاعرفوهم» (83).
والرواية متضمنة للعلّة العامة الموجبة لتلك التعدية، وهي شمول كل أجناس النذر من الأعيان دون الاقتصار على ما ذكر في الرواية.
وتعدية أخرى هي: إلحاق المشاهد المشرفة والضرائح المقدسة ببيت الله سبحانه في حكم المسألة(84). لوحدة المناط وهو صحة الوصية على المصالح الراجعة إلى الناس .
(2) رواية سعيد بن عمر الجعفي عن رجل من أهل مصر قال: أوصى إليَّ أخي بجارية كانت له مغنية فارهة، وجعلها هدياً لبيت الله الحرام فقدمت مكة فسألت فقيل: ادفعها إلى بني شيبه، وقيل: إلى غير ذلك من القول فاختلف عليَّ فيه، فقال لي رجل من أهل المسجد: ألا أرشدك إلى من يرشدك في هذا إلى الحق ؟ قلت: بلى. قال: فأشار إلى شيخ جالس في المسجد، فقال: «إن الكعبة لا تأكل ولا تشرب وما اهدي لها فهو لزوارها، بع الجارية، وقم على الحجر فنادِ هل من منقطع به، وهل من محتاج من زوارها فإذا أتوك فسل عنهم، وأعطهم واقسم فيهم ثمنها، قال: فقلت له: إن بعض من سألته أمرني بدفعها إلى بني شيبة، فقال: أما أن قائمنا (ع) لو قدم قام فأخذهم فقطع أيديهم فطاف بهم، وقال: هؤلاء سراق الله»(85).
ومن هذا يتبين مشروعية الأعمال التي يقوم بها المسلمون من النذور والهدايا والوقوفات والوصايا للمشاهد المشرفة أو للمعصومين (ع) لما حملت أدلة الإلحاق من مسوغ وترجيح لذلك العمل وجاءت أدلة الإلحاق ضمن :
(1) العمومات المتضمنة للوفاء بالعقود، وإيفاء المؤمن بشرطه من وجوب الإيفاء بالنذر أو الوقف أو ما يوجب على الوصي من تنفيذ الوصية قال صاحب الحدائق الناضرة :
«الظاهر إن ما اشتملت عليه هذه الأخبار من ذكر الحكم بالنسبة إلى الكعبة جارٍ ايضاً بالنسبة إلى المشاهد الشريفة، فلو أهدى شيئاً لها أو نذر لها كان الحكم فيه ما تقدم، وبذلك صرح الأصحاب رضوان الله عليهم» (86).
(2) فتاوى الفقهاء: وذلك من خلال ما استظهروه من الروايات أو عدم ممانعة تلك الأعمال لما اشترطوه من شرائط على نحو متعلق العمل أو بالواقف أو الموصى به .
(3) الاجماعات الموافقة لعمل المسلمين عامة والشيعة خاصة من عدم الرد عليهم أو القول بالبطلان.
كل هذا أو غيره أوجب على الفقهاء أن يوجدوا طريقاً يسهّل على الناذر أو الموصي أو الواقف كيفية صرف ما نذره أو أوصى به أو وقفه، ولمن الأولوية بالصرف، كل هذا وغيره ما سنقف عليه إن شاء الله في المبحث الثاني .
***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ظ: شرائع الإسلام: المحقق الحلي، ج2: 445 .
(2) تحرير الوسيلة: الخميني، ج2: 70 .
(3) مفتاح الكرامة: العاملي، ج9: 48 .
(4) تحرير الوسيلة: الخميني، ج2: 64 .
(5) ظ: م. ن: 67 .
(6) ظ: مهذب الأحكام: السبزواري، ج22: 51 .
(7) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: الشهيد الثاني، ج3: 166 .
(8) ظ: مهذب الأحكام: السبزواري، ج22: 51 .
(9) منهاج الصالحين: الحكيم، محمد سعيد، ج2: 77 .
(10) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: الشهيد الثاني، ج2: 179 .
(11) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: الشهيد الثاني، ج3: 179 .
(12) تذكرة الفقهاء: العلامة الحلي، ج2: 432 .
(13) غلة: نتاج الزرع والبساتين، وبيت الغلة مخزونها. ظ: لسان العرب، ابن منظور، ج11: 504 .
(14) الوسائل: الحر العاملي، ج3: باب 66: حديث: 2 .
(15) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج1: كراهة الوقوف على المسجد: حديث: 719 .
(16) منتهى المطلب: العلامة الحلي، ج1: 389 .
(17) ظ: الوسائل: الحر العاملي، ج3: باب 66 حكم الوقوف على المساجد حديث: 1 .
(18) بحار الأنوار: المجلسي، ج81: 7 .
(19) رياض المسائل: الطباطبائي، ج9: 311.
(20) ظ: تذكرة الفقهاء: العلامة الحلي، ج2: 332 .
(21) ظ: بحار الانوار: المجلسي، ج81: 7 .
(22) ظ: جواهر الكلام، النجفي، ج7: 158 .
(23) الوسائل: الحر العاملي، ج3: باب 8، استحباب بناء المساجد، حديث: 3 .
(24) م. ن: باب 34 استحباب الإسراج، حديث: 10 .
(25) الذكرى: الشهيد الأول، ج3: 132 .
(26) رياض المسائل: الطباطبائي، ج13: 219 .
(27) الوسائل: الحر العاملي، ج16، باب: من كتاب النذر والعهد، حديث: 2 .
(28) الانتصار: المرتضى، 162 .
(29) الروضة البهية: الشهيد الثاني، ج3: 42 .
(30) الوسائل: الحر العاملي، ج16 من أبواب النذر، باب أن اليمين لا تنعقد في معصية، حديث: 5.
(31) رياض المسائل: الطباطبائي، ج13: 216 .
(32) ظ: جواهر الكلام: النجفي، ج35: 378 .
(33) منهاج الصالحين: السيستاني، ج3: 232 .
(34) الوسائل: الحر العاملي، ج16: باب 11 من أبواب النذر، حديث: 1 .
(35) ظ: مجمع البيان: الطبرسي، ج3: 420 .
(36) الكافي: الكليني: ج4: باب ما يهدى إلى الكعبة: حديث: 2 .
(37) من لا يحضره الفقيه: الصدوق، ج3، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، حديث: 4316 .
(38) الكافي: الكليني، ج4، باب ما يهدى إلى الكعبة، حديث: 3 .
(39) رياض المسائل: الطباطبائي، ج13: 243 .
(40) شرائع الإسلام: المحقق الحلي، ج3: 191 .
(41) المختلف :العلامة الحلي ،ج8: 202
(42) المهذب: ابن البراج، ج2: 409 .
(43) ظ: المسالك: الشهيد الثاني، ج11: 373 .
(44) ظ: م: ن، ج11: 373 .
(45) الكافي: الكليني، ج7: باب النذر، حديث: 3 .
(46) على اعتبار أنه أصل الوقف، ونص الكشي في رجاله على انه كذاب متهم ملعون. ظ: رجال الكشي، الكشي، 403 رقم: 755 .
(47) ظ: شرائع الإسلام: المحقق الحلي، ج3: 191 .
(48) رياض المسائل: الطباطبائي، ج13: 243 .
(49) من لا يحضره الفقيه: الصدوق، ج3، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، حديث: 4316.
(50) قال عنه النجاشي غالٍ كذاب فاسد المذهب والحديث مشهور بذلك، ووصفه الشيخ الطوسي (ره) بالضعف ووصفه ابن الغضائري بمثل الصفات المتقدمة وذكر أن له كتاب في الممدوحين والمذمومين، يدل على خبثه وكذبه» ظ: معجم رجال الحديث: الخوئي، ج17: 2630 .
(51) المهذب: ابن البراج، ج2: 409 .
(52) ظ: مسالك الإفهام: الشهيد الثاني، ج11: 375 .
(53) الحدائق الناضرة: البحراني، ج17: 275 .
(54) نهاية المرام: العاملي، محمد، مؤسسة النشر الإسلامي: قم، الطبعة الثانية: 1420هـ، ج2: 365 .
(55) مسالك الإفهام: الشهيد الثاني، ج11: 375 .
(56) مسالك الإفهام: الشهيد الثاني، ج11: 275.
(57) الكافي: الكليني، ج4: باب ما يهدى إلى الكعبة، حديث: 5.
(58) الليث بن سعد بن عبد الرحمن مولى خالد بن ثابت، روى عن عطاء والزهري ونافع وخلق كثير، روى عنه ابن المبارك وابن وهب ولد سنة 94هـ ومات 175هـ. ظ: تذكرة الحفاظ: الذهبي، ج1: 210 .
(59) الانتصار: السيد المرتضى، علي بن الحسين، المطبعة الحيدرية: النجف الاشرف 1971م: 163 .
(60) التنقيح الرائع لمختصر الشرائع: السيوري، جمال الدين مقداد: تحقيق عبد اللطيف الكوهكمري، مطبعة الخيام: قم، الطبعة الأولى: 1404هـ، ج3: 528 .
(61) ظ: المقنعة: المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، مؤسسة النشر الإسلامي: قم الطبعة الرابعة: 1417هـ: 566 .
(62) ظ: النهاية: الطوسي: 566 .
(63) ظ: تحرير الأحكام: العلامة، ج4: 36 .
(64) ظ: المهذب: ابن البراج، ج2: 411 .
(65) حاشية الإرشاد: الشهيد الثاني، مطبوع ضمن غاية المراد في شرح نكت الإرشاد مطبعة: مكتب الإعلام والإسلامي إيران: الطبعة الأولى: 1420هـ، ج3: 452 .
(66) رياض المسائل: الطباطبائي، ج13: 244 .
(67) المناهل: الطباطبائي: 605 .
(68) استفتاءات السيد السيستاني: 53 .
(69) مناهل الفقيه: الطباطبائي: 603 (طبعة قديمة) .
(70) ظ: مهذب الأحكام: السبزواري، ج 22: 157 .
(71) ظ: العروة الوثقى: اليزدي، ج5: 642 .
(72) منهاج الصالحين: السيد السيستاني، ج2: 358 .
(73) منهاج الصالحين: السيد السيستاني، ج2: 358 .
(74) المسالك: الشهيد الثاني، ج6: 215 .
(75) الحدائق الناضرة: البحراني، ج22: 463 .
(76) م. ن .
(77) منهاج الصالحين: السيستاني، ج2: 374 .
(78) جامع المقاصد: المحقق الكركي، ج10: 40 .
(79) الوصية وأحكامها في الفقه الإسلامي، شمس الدين، محمد جعفر، دار التعارف للمطبوعات: بيروت، الطبعة الثانية: 1985: 301 .
(80) ظ: مهذب الأحكام: السبزواري، ج22: 239 .
(81) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي، تحقيق حسن زاده الآملي مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي: قم، الطبعة السابعة: 1417 هـ: 59 .
(82) المصطبة بكسر الميم وشد الباء مجتمع الناس وهي شبه الدكان يجلس عليها. ظ: لسان العرب، ابن منظور، ج1: مادة (صطب) .
(83) الكافي: الكليني، ج4، باب ما يهدى إلى الكعبة، حديث: 1 .
(84) ظ: رياض المسائل: الطباطبائي، ج13: 244 .
(85) الكافي: الكليني، ج4، باب ما يهدي إلى الكعبة، حديث: 4 .
(86) الحدائق الناضرة: البحراني، ج17: 277 .