وصف أهالي النجف

   لقد قال ابن بطوطة حين زار النجف الاشرف في سنة 727 هـ 1326م: "انها مدينة حسنة في ارض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً واتقنها بناء، ولها أسواق حسنة نظيفة، ومما جاء في وصفه لمن يدير الروضة الطاهرة قوله: ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم والتمر مرتين في اليوم، ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية فعندما يصل الزائر يقوم إليه أحدهم أو جميعهم وذلك على قدر الزائر، فيقفون معه على العتبة ويستأذنون له ويقولون: عن أمركم يا أمير المؤمنين، هذا العبد الضعيف يستأذن على دخوله للروضة العليا فإن أذنتم وإلا رجع وإن لم يكن أهلاً لذلك، فأنتم أهل المكارم والستر ثم يأمرونه بتقبيل العتبة وهي من الفضة وكذلك العضادتان ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء وارتفاعها دون القامة.

     ومما جاء في وصف ابن بطوطة لأهلها قوله: (وليس بهذه المدينة مغرم ولا مكاس ولا وال وإنما يحكم عليهم نقيب الأشراف وأهلها تجار يسافرون في الأقطار وهم أهل شجاعة وكرم ولا يضام جارهم، صحبتهم في الأسفار فحمدت صحبتهم".

سكان النجف العرب قبل الفتح الإسلامي

     ينصّ المؤرخون على أن النجف قبل الفتح الإسلامي وأثناءه كان يعج بسكانه العرب- كما تقدم- وهم غالبا أهل زراعة ورعي وأدب وشعر وفن وسمر، فقد ورد في كتب المؤرخين وحكاياهم وفي دواوين الشعراء الكثير مما يشير الى أهمية الشعر في بقاع الحيرة " التي بناها الملك الكلداني نبوخذ نصر الثاني (562- 604) ق. م"[1] "على ثلاثة أميال من موضع الكوفة على بحيرة النجف وعلى حدود البادية"[2] لتصبح عاصمة المناذرة  ومنها "كان يمتد نفوذهم على المساحات الواسعة شرق الجزيرة العربية، وقد شجع تنامي مملكة المناذرة الساسانيين على الاستفادة منها ظهيرا سياسيا حليفا لصد غارات القبائل العربية"[3] أما أهلها منذ القرن الثالث الميلادي فهم " ثلاثة أصناف (تنوخ): وهم العرب أصحاب المظال وبيوت الشعر ينزلون غربي الفرات، و(العباد) وهم السكان الأصليون الذين سكنوا المدينة وبنوا فيها، و(الأحلاف) وهم النازلون بالحيرة من غير هؤلاء جميعا، وقد سموا بذلك لتحالفهم مع العباد. وهؤلاء السكان جميعا من العرب. وقد وفد على ملوك الحيرة كبار الشعراء وفحولهم فأنشدوا الملوك خاصة عمرو بن هند ونادموهم، وعاشوا في نعمائهم طويلا، فعمرت بهم مجالس الشعر إنشاء وإنشادا ونقدا في الحيرة وضواحيها، وظلت تجلجل في أروقة المناذرة أصوات الشعراء أمثال النابغة الذبياني، وطرفة بن العبد البكري، والمسيب بن حلس، وعلقمة بن عبدة الفحل، والمرقش الأصغر، وعمرو بن كلثوم، وعبيد بن الأبرص، ولقيط بن معمر، وأوس بن حجر، والمثقب العبدي، وسلامة بن جندل التميمي وسواهم على مرّ الليالي و كرّ الأيام حتى نهاية مملكة الحيرة "[4].

     "وربما سبق الحيريون الى إنشاء أول مجمع للأدب الجاهلي إذا صح ما رواه علماء الأدب من أن المعلقات جمعت في الحيرة وأن النعمان بن المنذر أمر فنسخت له أشعار العرب في الكراريس ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما وثب المختار بالكوفة سنة 66 قيل له إن تحت القصر كنزا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة وإذا صح ما يروى عن هشام بن الكلبي من أنه استخرج أخبار ملوك الحيرة عن بعض صحفهم فعلى هذا كان في الحيرة تدوين وكانت صحف وكراريس وبالجملة كان أدب جاهلي وكانت ثقافة حيرية عربية على الإجمال ومما لا شك فيه أن الخط الكوفي المعروف إنما تفرع عن الخط الحيري الذي انتشرفي بلاد العرب في أواخر أدوار الجاهلية ولا بد مع مخطوطات ومكتوبات"[5].

    ولعل تلك الخلفية التاريخية ذات الثراء المترف للشعر والشعراء في مدينة النجف وضواحيها والكوفة ومجاسها قد ألقت بظلالها على أبناء النجف على مرّ العصور اللاحقة، فعمرت مجالس الأدب والشعر العربي في النجف منذ ذلك التاريخ وليوم الناس هذا بشكل ملفت للمتأمل. وانطبعت ألسنة ومسامع النجفيين بأشعار ولغة العرب نحوا وصرفا ولهجة وجرسا " وقد فطن بعض السواح من المستعربين الى أن لهجة النجفيين من أفصح اللهجات العربية في هذا العصر وقد سمعت منهم ذلك"[6] كما يقول الشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس المجمع العلمي العراقي.

طابع النجف وطباع أهله وتقاليدهم العربية الأصيلة

      مما عرفت وتعرف به مدينة النجف الأشرف ان سماتها عربية صميمية واضحة المعالم،جرّاء تأثرها الى حد كبير بسمات سكان البادية المطلة عليها وطرائق معيشتهم وأعرافهم، فعادات النجفيين وتقاليدهم، وطباعهم ومظاهر حضارتهم،وهويتهم وأخلاقهم، وقيمهم ومرتكزاتهم، ولغتهم وما يستتبعها من شعر وفن وبلاغة وفصاحة وأدب وتراث، لا زالت تطبع المدينة كما كانت في السابق بطابعها العربي الأصيل.

      "ويفسر موقع النجف على حافة الصحراء التأثيرات العشائرية العربية القوية على المدينة. وقد وجدت سمات النجف هذه تجسيدها في حقيقة أن عوائل عربية هامة من العلماء في المدينة نسبت أصولها الى عشائر مجاورة والأكثر من ذلك أن النجف عام 1918 م كانت واقعة تحت نفوذ كتلتين عربيتين, ويتضح طابع النجف العشائري القوي حينذاك من مضمون دستور حي البراق الذي وضع بعد تولي الشيوخ الأربعة إدارة المدينة في عام 1915م وتحول ولاء أبناء العشائر التقليدي لعشيرتهم وشيخهم في النجف الى ولاء متين يدين به سكان البراق لحيّهم وشيخه كاظم صبّي. يضاف الى ذلك ان رابطة الدم التي وحدت سكان الأحياء والتشديد على الشرف والإشارة المتكررة الى ديّة القتيل بوصفها العنصر الذي ينبغي استخدامه في حل النزاعات كانت تبين مدى هيمنة الأعراف العشائرية على الروح المدنية النجفية حتى زمن متأخر هو القرن العشرين"[7].

      وأرض النجف تاريخياً أرض خصبة كثيرة الزرع والخضرة، وقد تقدم أن الملك كسرى أقطع النعمان عدة قطائع بأرض النجف فكان خراج ذلك للنعمان في كل سنة مائة ألف درهم، ويشير المؤرخون الى أن المدينة كان يسكنها سنة 338 هجرية ما يقرب من ستة آلاف ساكن كلهم من الشيعة وبينهم من العلويين ألف وسبعمائة علوي.

 

 

---------------------------------------------------------------------------

[1]محافظة النجف الأشرف التشكيل الإداري وتحليل الموقع المكاني. د. عبد علي الخفاف: 19. نقلا عن: الحيرة المدينة والمملكة العربية. يوسف رزق الله غنيمة:91.

[2] حركة الشعر في النجف الأشرف وأطواره خلال القرن الرابع عشر الهجري.د. عبد الصاحب الموسوي:31-33. وانظر هوامش الصفحات أيضا.  

[3] محافظة النجف الأشرف التشكيل الإداري وتحليل الموقع المكاني. سابق.   

[4] حركة الشعر في النجف الأشرف وأطواره خلال القرن الرابع عشر الهجري.د. عبد الصاحب الموسوي:31-33، وانظر هوامش الصفحات أيضا. والجواهري شاعر من القرن العشرين. سابق:15وما بعدها، وغيرهما كثير.   

[5] النجف وطبقات شعرائها.الشيخ محمد رضا الشبيبي.بحث منشور في الغابة العذراء:18.

[6] المصدر السابق. الصفحة نفسها.

[7]  شيعة العراق. إسحاق نقاش:21-22.