البيوت التراثية

يتميز التخطيط العمراني لمدينة النجف الأشرف منذ نشوئها العام 170هـ (786م) بكثافة البيوت التي تمركزت بصورة رئيسية حول جامع ومرقد الامام علي (عليه السلام)، ويعود ذلك إلى العلاقة الروحية التي تربط الناس بالجامع، وتزاد كثافة البيوت كلما اقتربت منه وتقل كلما ابتعدت عنه. ولذلك نلاحظ ان اكثر البيوت متلاصقة، أما الممرات والازقة المؤدية إلى هذه البيوت فتكون في اكثر الاحيان ملتوية وذات اشكال متعرجة، وقد تنتهي بنهايات مسدودة لا مخارج لها. ومن الاسباب الموجبة لاتباع هذا التخطيط في ذلك الوقت – كما يبدو – عمق الروابط الاجتماعية والحفاظ على امن المدينة من علميات السطو والاعتداء وكذلك اتقاء البرد القارص والحر الشديد.

والبيوت النجفية تحمل صفات وخصائص البيوت العربية والاسلامية المنسجمة مع التقاليد الاجتماعية. وكما يقول جون وارن: ((تتميز حياة المسلمين التقليدية بالفصل التام بين حياتهم العامة والخاصة وكذلك بين الرجل والمرأة)).

وتحتوي البيوت التراثية في النجف على مجموعة من عناصر معمارية اساسية اهمها:

 

الساحة الداخلية المكشوفة (الحوش)

البيوت التراثية في النجف، شأنها شأن البيوت في المدن العراقية الاخرى، تتمزي بخصائص تخطيطية وانشائية ذات طابع معماري واحد يتمثل في احلال الساحة الداخلية المكشوفة التي يُطلق عليها بالعامية (الحوش) المكان الاول في التخطيط، وتأتي الغرف السكنية وبقية المرافق والمداخل والممرات لتأخذ مكانها حول تلك الساحة.

ومن الواضح تماماً انه تقليد بنائي عراقي قديم تعود بداياته إلى فترة العهد البابلي القديم (مطلع الألف الثاني قبل الميلاد) حيث عثر على بقايا دور سكنية في احد احياء مدينة (اور) الاثرية في جنوب العراق. تظهر الساحة الوسطية المكشوفة في مقدمة العناصر التصميمية. وتعتبر هذه الساحة ايضاً من اهم مميزات عمارة المساكن التراثية في البلدان الاسلامية.

وعلى رغم التأثيرات الواضحة التي تركتها تقاليد فنون العمارة الفارسية والتركية والهندية في البيوت النجفية. إلاَّ ان التخطيط الاساسي لها لم يصبه التغيير خلال عصور مختلفة، بل ظل محافظاً على طابعه التقليدي الذي يشبه إلى حد بعيد الطراز المعماري الحيري وهو الطراز المعماري السائد آنذاك. وتكاد هذه البيوت ان تكون شبيهة إلى حد كبير مع البيوت القديمة في مدن وسط العراق وجنوبه من جهة التصميم الهندسي ومواد البناء والزخارف.

ويختلف البيت النجفي في مساحته باختلاف المراتب الاجتماعية للناس، فتتكون البيوت عادة من ساحة مكشوفة تبدأ بمجالس الضيوف ومرافقها وتقع في مقدمة البيت وتعرف بـ (البراني) ثم تنتقل إلى الغرف المخصصة لأفراد العائلة والمرافق الملحقة بها وتحيط بالساحة المكشوفة ويطلق عليها (الدخلاني) ويتراوح شكل الساحة المكشوفة ما بين المربع والمستطيل.

وتعتبر الساحة الوسطية قاعة مكشوفة ومحجوبة عن الانظار في آن واحد، بالاضافة إلى الدور الذي تلعبه في توزيع الاضاءة الطبيعية للغرف المحيطة بها. وتطل الشبابيك الواسعة لهذه الغرف على الساحة الوسطية فتكون في هذه الحال واجهات لغرف الطابق الأول، وتتحقق عن طريقها الاضاءة والتهوية والطبيعيتان. ويتم عادة تبليط ارضية الساحة الداخلية المكشوفة بالطابوق (الآجر) المسطح المعروف بـ(الفرشي). وينعزل السكن عن الشارع او الزقاق في مثل هذا التكوين الانشائي الذي يحقق ضمن مساحات قليلة مرافق كافية لسكن عائلي متعدد الاشخاص.

 

 

المجاز (المدخل المنكسر)

ومن الخصائص المميزة للبيوت التراثية في النجف وجود المدخل المنكسر المعروف بـ(المجاز) الذي يوصل المدخل أو (الباب) بالساحة الداخلية المكشوفة (الحوش). وهو ابتكار اسلامي ظهر للمرة الاولى في دار الامارة في مدينة الكوفة العام 17 هـ (638م) وكذلك في بعض دور سامراء العباسية. وكان يستهدف غرضاً اجتماعياً بحتاً يتلازم والتقاليد الاسلامية، وهو عزل فضاء الساحة الداخلية المكشوفة عن الشارع او الزقاق، وكذلك ترطيب الهواء عبر اختراقه للمجاز.

 

 

الايوان (الطارمة)

ومن العناصر الاساسية في تصميم البيت النجفي توفير ما يسمى بالايوان او (الطارمة). وهو بناء له ثلاثة جدران وسقف ويكون مكشوفاً من واجهته الامامية المطلة على الصحن (الفناء المكشوف). ومن المرجح او الاواوين عرفت في العراق منذ عصور قديمة في شمال مدينة الموصل، ثم ظهرت بعد ذلك في العصر الاسلامي، كدار الامارة في الكوفة وقصر الشعيبة قرب البصرة وقصر المنصور في بغداد وبيوت قصر الاخيضر الشهير الذي يعود بناؤه إلى بداية العصر العباسي ويقع بالقرب من كربلاء. وتُستعمل الطارمة في الطابوق الارضي للنوم صيفاً في حالة عدم وجود السرداب، وكذلك لتناول وجبات الطعام وشرب الشاي.

 

 

الخصائص الانشائية

ومن الخصائص التي امتاز بها البيت النجفي بصورة عامة ارتفاع سقف غرف الطابق الاول بحيث لا يتجاوز اربعة امتار. وهناك مميزات انشائية اخرى منها كثرة الشبابيك في الطابق الاول وارتفاعها خصوصاً في الواجهات التي تطل على الازقة والشوارع. وكذلك الرفوف (الروازين) المتعددة من الداخل لتخفيف سماكة الجدار والاستفادة منها كخزانات او لاستعمالات اخرى. وارتفاع الغرف في الطابق الاول يحقق في بعض الاحيان وجود طابق وسطي توجد فيه غرف صغيرة تستعمل للخزن. وأمام غرف الطابق الأول ممر يطل على الفناء المكشوف يتقدمه حاجز من الخشب او الحديد ذو زخارف جميلة وبارتفاع متر واحد تقريباً يطلق عليه المحجر أو (الدرابزين). واستعملت في البيوت النجفية مواد بناء خفيفة في تسقيف الطابق الاول كالخشب والقَوَغ (جذوع شجر الحور) وخشب جذوع النخيل وحصران القصب (البواري) وغيرها، وذلك للتغلب على مشاكل الثقل في كتل البناء. اما ارتفاع الطابق الارضي فيكون عادة اقل من الطابق الاول، ويتميز ايضاً بنوافذه التي تكون في الغالب فوق مستوى النظر وهي تطل على الأزقة والشوارع.

 

السرداب

ويتميز البيت النجفي بوجود مكان للراحة والاستقرار يطلق عليه السرداب وهو اصطلاح فارسي مؤلف من مقطعين (سرد) أي بارد، و(آب) أي ماء، وتقضي فيه العائلة ساعات طويلة في ايام الصيف الحارة. ويتصف بجردانه السميكة وانخفاض مستوى ارضيته عن مستوى ارضية البيت، وقد يصل انخفاضه في بعض الاحيان إلى عشرين متراً مما يساعد في حمايته من الحرارة الشديدة في فصل الصيف.

ومن الظواهر المألوفة في البيوت النجفية ان بعض السراديب فيها يتصل ببعضها الآخر، وجاء ذلك نتيجة الروابط الاسرية العميقة بين ابناء المدينة. وفي بعض البيوت يوجد اكثر من سرداب واحد. وتجري تهوية السرداب بواسطة فتحات صغيرة جانبية تكون عادة في مستوى ارضية الساحة الداخلية المكشوفة، وكذلك من باب مدخل السرداب والدرات (السلالم) المؤدية إليه. وهناك مجار عمودية للتهوية عبارة عن فتحات داخل الجدار وفوهتها في أعلى السطح تنقل الهواء من الأعلى عبر هذه الفتحات إلى مستوى منخفض في أرضية السرداب فيساعد الماء الذي يرش على ارضية السرداب بترطيب الهواء الخارجي الجاف الآتي من السطح عبر هذه الفتحات، وتسمى هذه الفتحات او المجاري العمودية بالملقف الهوائي، ويطلق عليه محلياً (البادكَير) وهي كلمة فارسية مؤلفة من مقطعين (باد) أي هاء، و(كَير) أي جالب او ساحب. وفي اكثر الاحيان يتم بناء السرداب من عقود وقباب مبنية من الطابوق (الآجر) والجص، أما الارضية فتبلط عادةً بالآجر المسطح (الطابوق الفرشي) وهي تحتفظ بالرطوبة والبرودة عن طريق رشها بالماء باستمرار. وفي الشتاء تستعمل السراديب مخزناً لحفظ الحبوب والغلال وبعض الحاجيات المنزلية الأخرى.

 

 

المساند الخشبية (الدلكَـ):

وتستعمل في البيوت النجفية اعمدة الخشب التي تسند الممرات في الطابق الأول، وفي بعض الاحيان تسند الطارمات والغرف في الطابق الأول ايضاً وتنتهي هذه الاعمدة بتاج مقرنص متدرج يساعد في تقليل مقطع الجسر الخشبي الذي يعلو عدداً من هذه الاعمدة.

 

 

مواد البناء المحلية

ومن اهم المواد الاولية المصنعة محلياً والمستعملة في بناء البيوت النجفية الطابوق الطيني المفخور (الآجر) الذي يعتبر العنصر الرئيسي في البناء، وذلك لوفرة مادته الاولية ولسهولة صناعته وكذلك استخدامه في البناء وقلة تكلفته. ويمتاز ايضاً بمقاومة جيدة وقدرة كبيرة على عزل الحرارة والصوت.

أما عملية تماسك الطابوق (الآجر)، فتعتمد بالدرجة الأولى على مادة محلية أخرى هي الجص، ولهذه المادة ميزات خاصة لها اثر كبير في عمليات البناء، كونها تمتلك قالية على الجفاف بسرعة فائقة بعد انتهاء البناء مباشرة.

وساعدت هذه المواصفات في بناء القباب والأقبية والعقود (الاقواس) من دون الحاجة إلى استعمال القوالب الخشبية. واستمل في اسس بناء البيوت التراثية في النجف مخلوط مسحوق النورة والرماد كمانع للرطوبة، وتستعمل في الاساسات (كِسَر) من الطابوق (الآجر) الخضراوي المصخرج. ومن المواد الاخرى المستعملة القير (القار الاسود) كمانع للرطوبة في تغليف جدران الأسس واحواض المياه وبعض مجاري التصريف، وكذلك فرشه على السطوح قبل تبليطها لمنع تسرب المياه والرطوبة إلى الطوابق السفلية.

 

الاكساءات والزخارف

تستعمل مادتا الجبص والبورق في الاكساءات الداخلية في تبييض الجدران لاعطائها وجهاً مصقولاً يستغنى به عن اللبخ (البلاستر) ودهان الجدران.

ولم تقتصر الزخارف الهندسية والبنائية في البيوت النجفية على الآجر والجبص، بل شملت الاعمال الخشبية في البناء، واظهر النجارون براعة في الدقة والمهارة في الاعمال الخشبية للأبواب والمشبكات والنوافذ الزجاجية التي تطل على الساحة الداخلية المكشوفة، والمزينة بنقوش جميلة رائعة ومطعمة بقطع صغيرة من الزجاج الملون، ويمكن فتح قسم من هذه الشبابيك لدخول الضوء والهواء إلى الغرفة.

ومن الظواهر المألوفة في البيوت النجفية التراثية ما يعرف بالشناشيل (المشربيات) وهي الشرفات البارزة عن مستوى البناء في غرف الطابق الاول، إذ يكون بناء هذه الشرفة من الخشب وتكون ذات زخارف رائعة بدلاً من الآجر والحديد للتغلب على مشاكل الثقل في توسعة البناء، وكذلك مساعدة الخشب في تحقيق برودة الجو الداخلي للغرفة، وتوفير مظلة طويلة يحتمي بها المشاة من شمس الصيف وامطار الشتاء.

ومن الظواهر المألوفة الأخرى في البيوت النجفية ما يعرف بالأرسي (الشبابيك الخشبية المزخرفة) التي تفتح وتغلق برفعها إلى الاعلى والاسفل. وتتخلل الأُرسي احياناً الابجورات وهي شبابيك صغيرة شبيهة بالأبواب تغطيها مقاطع من الخشب الماثل المشبك لدخول الهواء وحجب النور.