وادي السلام

من أسماء النجف المشهورة، هذا الاسم الذي ورد في بعض الأحاديث الدينية، وعلى لسان بعض الأئمة عليهم السلام، وقد اختصت هذه البقعة المقدسة بفضل الدفن فيها، والتختم بحصبائها، وجوارها المقدس. وثبت لها مزية على سائر بقاع الأئمة (عليه السلام) من رفع عذاب القبر عمن دفن بها وعدم سؤال منكر، ونكير في البرزخ، وأنها محشر أرواح المؤمنين... وطار صيتها في آفاق الشيعة في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبعد وفاته أخذت الشيعة باختلاف فرقها، تقبر موتاها بتلك التربة الطاهرة، قبل أن يقبر بها مشرفها (عليه السلام) وتنقلهم إليها من الأقطار النائية، رغم وعثاء السفر ومشقة الطريق، ومؤونة النقل، فهم مع هذه المشاق والمتاعب يتفانون في نقل موتاهم إليها طمعاً في خلاصهم من العذاب ورجاء لشفاعته (عليه السلام) لهم.

     لذلك يمكن القول بصراحة أن وادي السلام، من اكبر وأوسع مقابر العالم، وأن النجف بمجموعها مقابر ومدافن، وسراديب البيوتات القديمة وغرفها مكتظة بالأموات، وقد حدث هذا خلال محاصرة الروم للنجف سنة 1032هـ، حين تحصن أهلها داخل البلد، وأغلقوا الأبواب ومنعوا من الدخول والخروج، أخذت الناس تقبر موتاهم في بيوتهم، وكذلك خلال الحوادث الدامية التي اجتازت النجف في القرون الأربعة الأخيرة.

     عند الدخول إليها يتملك المرء شعور أزاء هذا الصمت الرهيب الذي يحيط بالمكان ووسط هذه القبور التي تمتد حيث يمتد البصـر تدرك ان عالم الأحياء في طريقه إلى هنا حيث عالم الأموات وكأن الناس ينتظمون في طابور طويل ليأخذوا مكاناً لهم بين هذه القبور.

     أغلب القبور كتب عليها عبارة (كل من عليها فان) وهي آية من آيات القرآن الكريم وإذا كانت تتمايز بما شيّد عليها من بناء فان تحت الأرض لا فرق بين غنـي وفقير ، إنها مقبرة وادي السلام في أرض النجف الأشرف

     تعدّ مقبرة النجف أو مقبرة وادي السلام أو الغري من أكبر مقابر العالم يحدها من بعض جوانبها معالم العمران بينما هي في جانب آخر لا تحدها حدود وهي دائمة التوسع تضم في جنباتها ملوك ورؤساء ووزراء وفقراء وضحايا لكوارث وضحايا لحروب وضحايا للجرائم المنظمة التي عاشها العراقيون حقباً طويلة من الزمان. فقد تداخلت القبور في أرض النجف تلاصقت مع معالم المدينة وامتدت شمالا وجنوباً وشرقاً وغرباً ولم تكتف من الموتى بل ما فتئت تطلب المزيد.

     وتعد هذه البقعة مباركة حيث تضم مرقد النبيين هود وصالح (عليه السلام) كما تضم قبور عدد كبير من أولياء الله الصالحين والعلماء والمؤمنين الشيعة الذين دفنوا منذ أن عرف قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف سنة 170 هجرية.

     ومنذ أكثر من الف سنة والشيعة تجهد في نقل جثث ورفاة موتاهم من شتى بلدان العالم إلى وادي السلام لما وردت في فضيلته روايات كثيرة تدل على قدسية المكان كما أن هناك روايات تؤكد على أن وادي السلام بقعة من بقاع جنة عدن وأن أرواح المؤمنين تجتمع إلى بعضها في هذا الوادي.

     فقد روي عن حبة بن جوين العرني قال خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام )إلى الظهر فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام فقمت بقيامه حتى عييت ثم صليت حتى مللت ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولا ثم صليت حتى مللت ثم قمت وجمعت ردائي فقلت : يا أمير المؤمنين أني قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي: يا حبة أن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته قال قلت : يا امير المؤمنين وأنهم كذلك قال نعم، ولو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون فقلت أجسام أم أرواح فقال : أرواح وما من مؤمن يموت في بقعة من بقع الأرض الا قيل لروحه الحقي بوادي السلام وأنها لبقعة من جنة عدن.

     فأنها مرسى لسفينة نوح ومرقد آدم وهود وصالح وتذكر الأحاديث بأن في هذه الأرض أتخذ نبي الله نوح (عليه السلام) مكاناً للسفينة وفي سنة 40 هجرية دفن فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) فمنذ أقدم العصور تشكّلت اقدم مقبرة في التاريخ ويصح القول بأنها أقدم مقبرة إسلامية ان اتجهت بناظريك في شمال النجف وغربها ترى آلاف القبور المشيّدة وعند دخولك هذه المقبرة الواسعة ستدرك عمق هذه المقبرة في التاريخ من خلال المواد التي بنيت بها القبور فضلاً عن تواريخ الدفن المدوّنة على القبور: ووادي السلام ليس مقبرة للنجف وحدها ولا للعراق وحده بل لكثير من البلدان كإيران والهند وباكستان والكويت وغيرها فأن كثير من عظماء هذه البلدان تنقل جنائزهم إلى النجف الأشرف.

     وفي وادي السلام لا يشعر الإنسان انه في مقبرة بل يشعر انه يقف على أطلال العالم وخرائب الدنيا ويشعر بصمت عميق غمر الملوك والرعايا ويرى قبوراً مائلة للانهدام وقبوراً جديدة والقبور بين قبر عليه دكة تختلف صغراً وكبراً وآخر حوله سور يختلف سعة وارتفاعاً وثالث عليه بنية والبنيات قد تكون ذات فخامة وأتقان تشبه داراً من أحسن الدور يقيم فيها شخص يقرأ القرآن في أوقات معينة ويتقاضى راتباً من ذوي العلاقة ويوجد في تلك المقابر وغيرها ماء مبذول لمن يحتاج يسمى (السبيل) وكثير من المقابر عليها قباب تختلف كبراً وصغراً ولوناً وتصميماً وكثير من القبور تاريخي وعلى كل قبر صخرة نحت عليها اسم الميت وتاريخ وفاته وبعض الكلمات الأخرى،

     والصخور التي نقش عليها الاسم بين صخر طبيعي بسيط وبين صخر من الرخام الجديد وقد كتب عليها بالإضافة إلى الاسم بيت من الشعر القريض أو الشعبي وقد يتضمن تاريخاً في بعض فقراته وهو بين رثاء للميت ومدح وموعظة.

     ويراد بوادي السلام جبَّانة النجف الواسعة، ودلالة لفظ وادي السلام على النجف من باب ذكر لفظ الجزء والمراد منه الكل، وتسمية الوادي بوادي السلام لاعتقاد أن الأجساد والنفوس تنعم فيه بسلام وأمان من الوحشة والعذاب لقربها من مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)[1].

     ووردت روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) في فضل هذه البقعة وقدسيتها واستحباب الدفن فيها، عن أبي عبد الله الأمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (ما من مؤمن يموت في شرق الأرض أو غربها إلا وحشر الله روحه إلى وادي السلام، قيل أين وادي السلام؟ قال: بين وادي النجف والكوفة)[2].

     (وكان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يأتي النجف ويقول: وادي السلام ومجتمع أرواح المؤمنين، ونعم المضجع للمؤمن هذا المكان، اللهم اجعل قبري بها)[3].

 

----------------------------------------------------------------

[1] النجف الاشرف عاداتها وتقاليدها: 9.

[2] تاريخ النجف الاشرف: 1/ 38، أرشاد القلوب: 2/ 231.

[3] المصدر السابق: 1/ 39.