نفقات الحوزة العلمية في النجف الأشرف

 إنّ تكاليف الحوزة العلمية في النجف الأشرف وكلّ الحوزات العلمية الدينية الشيعية في أنحاء العالم من تشييد المدارس الدينية وترميمها واعادة بنائها وإنارتها ونظافتها وصيانتها وكذلك نفقات طلاب الدراسات الدينية في هذه الحوزات من الرواتب الشهرية مهما كانت ضئيلة ويسيرة ومساعدتهم في المناسبات المختلفة والحالات الطارئة من الزواج والسفر والمعالجة و... كلّ ذلك يؤمّن ويُهيّأ من السبل الشرعية الواجبة، ولا ترتبط بالجهات السياسية الحاكمة.

     لقد فرض الله سبحانه وتعالى على المسلمين ضرائب مالية تسمى بالخمس والزكاة والكفّارات من كفّارة الإفطار العمدي في شهر رمضان وكفّارة نقض العهد واليمين والنذر وكفّارة القتل وكفّارة مرتكب بعض تروك الإحرام. وهذه الأموال بشكل عام على قسمين:

1 ـ الأموال المطلقة المحررة الّتي يجب صرفها في كلّ ما فيه رضى الله سبحانه وتعالى مثل أموال سهم الإمام والزكاة حيث يجوز صرفها في تشييد الأبنية واطعام الفقراء ومساعدة المحتاجين.

2 ـ الأموال المقيدة في اطعام الفقراء والمساكين والمحتاجين كما هو  مصرف كلّ أنواع الكفّارات ولا يجوز صرفها في البناء أو مساعدة أحد للدواء أو الزواج.

واليك شرح كلّ واحد من هذه الضرائب الشرعية المفروضة على أموال المسلمين:

1 ـ الخمس:

    إن الحقوق الشرعية في مصطلح الفقه الشيعي هي الخمس لقول الله سبحانه: [واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل][1].

ويجب الخمس على ضوء مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في اُمور سبعة:

1 ـ غنائم دار الحرب. 2 ـ المعادن. 3 ـ الكنوز. 4 ـ الغوص. 5 ـ الأرض الّتي اشتراها الذمي من المسلم. 6 ـ الحلال المختلط بالحرام. 7 ـ الأموال الزائدة الفاضلة على مؤونة السنة.

     وفي بعض الأحاديث فسّرت الغنيمة بكلّ الاُمور السبعة المذكورة ففي فقه الرضا(عليه السلام) :"وقال جلّ وعلا [واعلموا أنما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى] إلى آخر الآية فتطوّل علينا بذلك امتناناً منه ورحمة إذا كان المالك للنفوس والأموال وسائر الأشياء الملك الحقيقي وكان ما في أيدي الناس عواري وإنهم مالكون مجازاً لا حقيقة له وكلّ ما أفاده الناس فهو غنيمة لا فرق بين الكنوز والمعادن والغوص ومال الفيء الّذي لم يختلف فيه وهو ما ادعى فيه الرخصة وهو ربح التجارة وغلة الصنيعة وسائر الفوائد من المكاسب والصناعات والمواريث وغيرها لأن الجميع غنيمة وفائدة ورزق الله عزّوجلّ فعلى كلّ من غنم من هذه الوجوه مالا فعليه الخمس فإن أخرجه فقد أدّى حقّ الله عليه [2].

    وما هو الواجب المعمول به فعلا لدى المؤمنين الباعث على نهوض الحوزات العلمية والشؤون الدينية والمؤسسات الخيرية في كلّ مكان لدى أصحاب مذهب أهل البيت (الشيعة) هو خمس ما يفضل عن مؤونة السنة له ولعياله مما يكتسبه من أرباح التجارة والصناعة والزراعة أو أي عمل من الأعمال.

   قال صاحب الجواهر: (وهو الّذي استقر عليه المذهب والعمل في زماننا هذا بل وغيره من الأزمنة السابقة الّتي يمكن دعوى اتصالها بزمان أهل العصمة(عليهم السلام)[3].

والروايات في ذلك كثيرة:

     عن محمّد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصنّاع؟ وكيف ذلك؟ فكتب بخطه: الخمس بعد المؤنة[4].

وعن عليّ بن مهزيار قال: قال لي أبو عليّ بن راشد قلت له أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم وأي شيء حقّه فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس فقلت ففي أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم (ضياعهم). قلت: والتاجر عليه والصانع بيده فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم[5].

وهذا الخمس يقسم إلى سهمين سهم السادة الفقراء وسهم الإمام عليه الصلاة والسلام.

    قال المرحوم الشيخ محمّد جواد مغنية (قالوا: إنّ الخمس يقسم على ستة أسهم وهي الّتي نطقت بها الآية سهم الله وسهم الرسول وسهم الإمام لأنه هو المراد من ذي القربى بالإجماع وسهم اليتامى وسهم المساكين وسهم ابن السبيل من أقارب الرسول(صلى الله عليه واله) خاصة  الّذي حرّم الله عليهم الصدقة دون غيرهم وما كان لله فهو لرسوله وما كان للرسول فهو للإمام وإذن يكون للإمام من الخمس ثلاثة أسهم وهي نصف الخمس أما الأسهم الثلاثة الباقية فإنها تقسم على يتامى آل الرسول ومساكينهم وأبناء سبيلهم لا يشاركهم فيها غيرهم)[6].

   أما سهم السادة الفقراء فلا يحتاج إلى مراجعة الفقيه بل يوزع على المحتاجين من السادة المنتسبين بالأب إلى الرسول(صلى الله عليه واله لى الله عليه وآله وسلم) وأما سهم الإمام فيحتاج إلى مراجعة الفقيه.

    قال المرجع الكبير السيد الحكيم رضوان الله تعالى عليه (النصف الراجع للإمام(عليه السلام) وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام يرجع فيه في زمان الغيبة إلى نائبه وهو الفقيه المأمون العارف بمصارفه إما بالدفع إليه أو الاستئذان منه)[7].

    وعليه تتجمع أموال الخمس وخاصة سهم الإمام(عليه السلام) كثيراً لدى الفقيه ونائبه فإن المؤمنين منشدّون إلى مراجعهم دافعون حقوقهم الشرعية مهما كان عملهم وحجم أموالهم إلى الفقهاء العظام، فينفق الفقيه هذه الأموال على شؤون الحوزات الدينية العلمية الّتي تتصدى للرد على أعداء الله، كما ينفق على الأيتام والفقراء والمؤسسات الخيرية من المستوصفات والمستشفيات والمدارس الّتي تعلم الأولاد وتخرج علماء دين والحسينيات والمحاضرات و... كلّ ما فيه رضى الله تعالى.

    يقول الإمام الحكيم(رحمه الله): (ومن أهم مصارفه ـ سهم الإمام(عليه السلام) ـ في هذا الزمان الّذي قل فيه المرشدون والمسترشدون إقامة دعائم الدين ورفع أعلامه وترويج الشرع المقدس ونشر قواعده وأحكامه ومؤونة أهل العلم الّذين يصرفون أوقاتهم في تحصيل العلوم الدينية الباذلين أنفسهم في تعليم الجاهلين وإرشاد الضالين ونصح المؤمنين ووعظهم واصلاح ذات بينهم ونحو ذلك مما يرجع إلى اصلاح دينهم وتكميل نفوسهم وعلو درجاتهم عند الله تعالى جلّ شأنه)[8].

     وهذه نعمة كبيرة على الشيعة حيث منّ الله على علمائهم ومؤسساتهم الدينية بالاستقلالية التامة عن الحكومات القائمة حيث لا يحتاجون إلى مساعدة الدولة بقدر قرش واحد بل قد تمدّ السلطة القائمة يد العوز والحاجة إلى فقهاء الشيعة لنجدتهم في الحالات الطارئة الّتي قد تحلّ بالبلاد والعباد.

     نعم قد يكون هناك القدر القليل من الأموال الّتي تنفق في بناء المدارس وعلى شؤون الحوزات العلمية الدينية من غير الحقوق الشرعية ولكنها يسيرة.

2 ـ الزكاة:

    قال الله سبحانه: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)[9] وقال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)[10] .

    وقال الإمام الصادق: (إن الله عزّوجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم انهم لم يؤتوا من قبل  فريضة الله عزّوجلّ ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم ولو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير[11].

وعن معتب مولى الصادق(عليه السلام) قال: قال الصادق(عليه السلام) إنّما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً ولاستغنى بأمر من الله له وان الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء وحقيق على الله تعالى أن يمنع رحمته ممن منع حقّ الله في ماله واُقسم بالذي خلق الخلق وبسط الرزق انه ما ضاع مال في بر ولا بحر إلاّ بترك الزكاة وما صيد صيد في بر ولا بحر إلاّ بترك التسبيح في ذلك اليوم وإن أحب الناس إلى الله تعالى أسخاهم كفاً وأسخى الناس من أدى زكاة ماله ولم يبخل على المؤمنين بما افترض الله لهم في ماله)[12].

    والزكاة واجبة بضرورة من الدين لدى جميع المذاهب الإسلامية كالصلاة والصيام والحج ومنكرها يعد خارجاً من ربقة الإسلام ولذا قرنها الله سبحانه بالصلاة في أكثر من آية في كتابه الكريم.

وتجب الزكاة في:

1 ـ النقدين: هما:

أ ـ الذهب.

ب ـ الفضة. ويكون لكل منهما نصاب مذكور في الفقه فراجع.

2 ـ الأنعام الثلاثة: الإبل، البقر، الغنم:

ولكل واحد من هذه الأنعام الثلاثة نصب عديدة مذكورة في الكتب الفقهية.

3 ـ الغلات الأربع: الحنطة، الشعير، التمر، الزبيب حيث يجب في كلّ ثمانمائة وثمانية وأربعين كيلو تقريباً العشر إذا سقيت بالمطر أو بمص عروقه من ماء الأرض. ونصف العشر إذا سقي عبر مضخات الماء.

والمستحقون للزكاة حسب ما ورد في القرآن الكريم: (إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم)[13] أصناف ثمانية: 1 ـ الفقراء. 2 ـ المساكين. 3 ـ العاملون عليها. 4 ـ المؤلفة قلوبهم. 5 ـ في الرقاب. 6 ـ الغارمون. 7 ـ في سبيل الله. 8 ـ ابن السبيل.

وشؤون الحوزة العلمية من موارد سبيل الله.

    قال صاحب الجواهر: (ضرورة شموله ـ سبيل الله ـ لجميع القرب من بناء خانات ـ محل نزول المسافرين في الأيام السالفة ـ وتعمير روضة[14] أو مدرسة أو مسجد أو احداث بنائها أو وقف أرض أو تعميرها أو وقف كتب علم أو دعاء ونحوها أو تزويج عزاب أو غيرهم أو تسبيل نخل أو شجر أو ماء أو مأكول أو شيء من آلات العبادة أو احجاج أحد أو اعانة على زيارة أو في قراءة أو تعزية أو تكرمة علماء أو صلحاء أو نجباء أو اعطاء أهل الظلم والشر أو اعطاء من يدفع ظلمهم ويخلص الناس من شرهم أو بناء ما يتحصن به المؤمنون عنهم أو شراء الأسلحة لدفاعهم)[15].

وهذا المورد أيضاً من الموارد المالية الضخمة الّتي تنفق على الحوزات العلمية.

3 ـ زكاة الفطرة:

    وهي واجبة على كلّ من توفرت فيه شرائط زكاة الفطرة، بأن يدفع عن نفسه وعن كلّ من يعيله عن كلّ شيخص مقدار ثلاث كيلوات مما يعتبر قوتاً شائعاً لذلك البلد أو قيمته وقت الأداء.

     وتصرف زكاة الفطرة في الموارد الّتي تصرف فيها الأموال الزكوية الّتي منها شؤون المؤسسات الدينية والجهات الخيرية الّتي تعم الجميع عنوان واحد وهو عنوان سبيل الله.

4 ـ الكفّارات:

   وهي: 1 ـ كفّارة صيد المحرم. 2 ـ كفّارة الظهار. 3 ـ كفّارة القتل خطأ. 4 ـ كفّارة القتل عمداً. 5 ـ كفّارة قضاء رمضان. 6 ـ كفّارة الإفطار في رمضان. 7 ـ كفّارة النذر. 8 ـ كفّارة اليمين. 9 ـ كفّارة العهد. 10 ـ كفّارة يمين البراءة. 11 ـ كفّارة جز المرأة شعرها في المصاب. 12 ـ كفّارة نتف شعر المرأة في المصاب. 13 ـ كفّارة شق الرجل ثوبه. 14 ـ كفّارة وطىء الزوجة في الحيض. 15 ـ كفّارة صوم الاعتكاف.

إنّ بعض هذه الكفّارات محل قبول لدى جميع الفقهاء وبعضها مورد أخذ ومناقشة.

وهذه الكفّارات تكون في إطعام الفقراء أو إكسائهم ويجوز صرفها على بعض طلاب العلوم الدينية لأنهم قد يندرجون تحت عنوان المحتاجين.

وبالفعل فإن قسماً من الأموال الّتي تنفق على الحوزة مثل توزيع الرغيف على الطلبة بواسطة الحوالات اليومية يكون من الكفّارات الّتي لابد من إطعام ستين مسكيناً أو عشرة مساكين وما شابه ذلك.

كما أن قدراً من الأوقاف والنذورات والصدقات العامة والتبرعات تصل إلى النجف الأشرف لإنفاقها في السبل الخيرة والحسنة، فتصرف على الحوزة وشؤونها المختلفة.

 

 

 

-------------------------------------------------------------

[1] سورة الأنفال: الاية 41.

[2]   المستدرك: المجلد السابع ص 284 ح 1.

[3]   الجواهر: المجلد التاسع عشر ص 45.

[4]   وسائل الشيعة: المجلد السادس ـ الباب الثامن من أبواب ما يجب فيه الخمس ح 1 و3 ص 348.

[5]   وسائل الشيعة: المجلد السادس ـ الباب الثامن من أبواب ما يجب فيه الخمس ح 1 و3 ص 348.

[6]   فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): المجلد الثاني ص 122.

[7]   منهاج الصالحين: المجلد الأول ص 484.

[8]   منهاج الصالحين: المجلد الأول ص 484.

[9]   سورة البينة: آية 5.

[10]   سورة التوبة: آية 11.

[11]   وسائل الشيعة: المجلد السادس الباب الأول من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح 2.

[12]   وسائل الشيعة: المجلد السادس الباب الأول من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح 6.

[13]   سورة التوبة: الآية 60.

[14]   مقام شريف ومبارك.

[15]   جواهر الكلام: المجلد الخامس عشر ص 370.