هطول أمطار على صحراء لم تألف الماء

لا أنسى وبعد مرور اكثر من خمسة سنوات على الكرامة الأولى التي شاهدتها في الصحن الحيدري الشريف المشاعر التي هزتني من الاعماق وأنا أرى حشود المؤمنين تجتمع في الغرفة رقم (30) الموجودة في احد ايوانات الشمالية من الصحن الحيدري الشريف، وهي تكبر تارة، وتصلى على النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام تارة أخرى، وقد امتزجت هذه الاصوات بدموع طلب المغفرة من الباري عز وجل بحق صاحب المرقد الطاهر نفس الرسول وزوج البتول وأبا الحسنين سيدي ومولاي امير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام).

       تحركت سريعاً وعبرت الجموع لأدخل تلك الغرفة، لأجد فيها ذلك الرجل الذي تجاوز الخمسين من العمر قد غرق وجه في دموع الشكر لله تعالى على نعمة رده البصر وشفاءه من الشلل الذي ألم به في وقت سابق، وأنا متردد بين أن أسأله أو ان انتظر حتى يهدأ من هيجان المشاعر التي اقترنت بين دموع الفرع والخشوع وطلب المغفرة، فلا يمكن لأي إنسان قد يرى تلك المناظر إلى ان تسيل من وجنتيه الدموع وهو يعيش تلك الاجواء الروحانية الخاصة فتظهر  لك أمام عينيك الحديث القدسي المعروف: (عبدي اطعني تكني مثلي اقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون)..

      استجمعت قواي وتحركت نحو صاحب الكرامة وسلّمت عليه وسألته عن اسمه، فقال ان اسمه محمد ناصر الذهبي وهو من اهالي بغداد، ثم أخبرته بعد ذلك بأني ارغب في ان اسجل كرامة شفائه واوثقها في اعلام العتبة العلوية المقدسة، انتظرت قليلاً، ثم بادرني بالقبول وهو يهزّ رأسه ايذاناً بالموافقة..

      لممت اوراقي وجلست قبالته فبدأ يقص عليّ بداية مرضه الذي اخذ منه الستة اشهر وهو طريح الفراش أثر جلطة دماغية اصابته فجأة لتجعله يرى بصعوبة، إذ أن إحدى عينيه فقدت نعمة البصر والأخرى لا ترى إلا بصعوبة بالغة، وأيضاً تصيب جانبه الايمن بالشلل فتجعله غير قادرٍ على المسير طوال تلك الفترة.

     يقول صاحب الكرامة ان يأسه من رحمة الله لم ينقطع، وخدمته لأهل البيت(عليهم السلام) والإمام الحسين(عليه السلام) تجري في عروقه، فهو طالما كتب الشعر فيهم، واعطى نموذجاً من قصائده التي كتبها في حق امير المؤمنين والإمام الحسين(عليهما السلام)، ثم ردد طلبه بالمغفرة واستكمال العطايا منهم –اهل البيت عليهم السلام- في ان يكونوا شفعائه في دار الآخرة..

      انتقل صاحب الكرامة إلى لحظات الحسم، فيقول: بعد ان وصلت بالسيارة إلى بداية شارع الطوسي ولاحت في عيني بصيص من قبة امير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) حاولت ان ابكي فأحسست ان هناك شعلة من النار في قلبي تدفعني إلى البكاء ولكن دون جدوى فإن حالتي المرضية تمنع تحقق ذلك، فكيف لي ان ابكي وقد سدّت قنوات الدمع في عيني حسبما ذكره لي الطبيب المختص بعد ان تجمّد الدم في تلك القنوات الدمعية نتيجة حصول الجلطة الدماغية..

      توجهت إلى الصحن الشريف وأنا ارمق القبة الشمّاء لمرقد علي بن ابي طالب(عليه السلام) بنظرات متتابعة، وأجر الجزء المتحرك من جسمي بألم وصعوبة إلى ان وصلت إلى المرقد الطاهر ودخلت وأنا لا أرى حشود الزائرين الموجودين حولي، فقلبي واحاسيسي كلها تعلقت بذلك الشفيع المشفع، وباب الرحمة التي جعلها الله تعالى لنا ملاذاً من نائبات الدهر، اتابع مسيري نحو الضريح المطهر، وادخل رواقاً بعد آخر إلى ان تراءى لي شباك الضريح المطهر، ويخيل لي اني قد وصلت إلى مبتغاي فاندفعت إلى ذلك الشباك اعتنقه تارة وأخرى أقبله، ثم انهارت الدموع من عيني هطول المطر على صحراء لم تألف الماء، ولكن لم انتبه إلى تلك الرحمة وهذا الغيث المنهمر، اقرأ قصيدة تلو أخرى، واستغيث بالله تعالى ببركة صاحب المرقد، إلى ان احسست بحرارة الدموع وهي تتحرك على وجناتي، فحسست بان عروق وجهي بدأت تنبض من جديد، وبعد ان رأيت ذلك عرفت ان باب الفرج قد فتحت لي، وأن الدعاء قد استجيب فما كان مني إلا ان الححت بالدعاء والتوسل بمنزلة امير المؤمنين ان يشفيني من علتي كلها، والدموع تلح عليّ بالنزول، لم اكن اعيي ما يدور حولي وكأني انتقلت إلى عالمٍ آخر، بل بالفعل اني انتقلت إلى ذلك العالم الذي لا وجود للماديات فيه، عالم الملكوت الأوحد الذي يتجرد فيه الإنسان من كل الروابط التي تربطه بعالم الدنيا..

     بقيت على هذه الحالة قرابة النصف ساعة وانا اعيش تلك الاجواء، بدأ احساسي يتغير بالنسبة للجزء الايمن من جسدي والذي كان مصاباً بالشلل النصفي، وكأن خدراً كان فيه بدأ يزول، وكأن مياهاً تحفر طريقاً في تلك الاخاديد اللحمية، احس بنبض عروقي يتحرك فيها الدماء، بل احس ابواباً مقفلة بدأت تتحطم الواحدة تلو الأخرى إلى أن زالت برمتها، فأحسست ان جسمي بدأ يتحرك ثانية بعد طوال سبات الم به، فارتفعت مني لا إرادياً اصوات التكبير والتهليل والصلاة على محمد وآل محمد، فوجدت ان الزائرين قد احاطت بي، لكن العاملين في خدمة امير المؤمنين عليه السلام وزائريه الكرام وجدته قد ألفوا ذلك الامر، إذ أحاطوني من كل جانب وهم يستسمحون الناس ممن احاطوا بي ودموع الاستغفار واصوات التهليل والتكبير قد لازمت كلماتهم من اجل ان ينقلوني إلى الغرفة التي تروني فيها الآن..

     لم استطع ان اتدارك عبرتي التي خنقتني وانا احاول ان استرسل بالسؤال عن هويته الشخصية وهو يرتل قصيدته التي اطلقها ارتجالاً في مديح امير المؤمنين(عليه السلام)، فكيف يخيب من يطرق ابواب الرحمة الإلهية، كيف يخيب من يطرق عنوان الرحمة في الأرض، كيف يخيب من قصد باباً مفتوحة للراغبين دخولها، كيف يخيب من قصد الرحمة بعنوانها وهو جل وعلا قد امرنا بسلوك هذه الباب.. باب مدينة علم الرسول(صلى الله عليه وآله)..

     استجمعت قواي وتوجهت إلى صاحب الكرامة وقلت له هل تحب ان تزيد على ما حدث؟ تعذرنّي.. وقال بانه يريد ان يرجع عند الضريح المقدس لأمير المؤمنين (عليه السلام) ليشكر باب الرحمة مراراً وتكراراً.. ويطلب شفاعته لأمر الآخرة..

دعيت له بالموفقية والتسديد وقابلني بمثلها.. وحملت اوراقي مسجلاً فيها شتات عناوين حملتها من هذا الزائر الكريم 

 


علاء حيدر المرعبي, مع أريج الفائزين بكرامات أمير المؤمنين.

طباعة الخبر