علي في فلسفته الأخلاقية

{ الدكتور نوري جعفر }

  ليس هناك على ما يبدو من التاريخ البشري الذي بين أيدينا، أمة من الأمم المعروفة ليس لها تراث فكري معين في شتى ضروب المعرفة الإنسانية، غير أن الأمم مع هذا تختلف كثيراً فيما بينها حول نوع التراث الفكري الذي يتركه كل منها في صفحة المجتمع الإنساني من حيث سعة ذلك التراث ومن حيث عمقه، وتختلف الامم كذلك من حيث درجة الأصالة في تراث كل منها ويتجلى تراث الأمة بأوضح أشكاله، في فترة نهوضها القصيرة بالنسبة لتاريخ البشر الطويل.

وللأمة العربية كما لغيرها تراث فكري مدون في شتى صنوف المعرفة، يبالغ بقيمة هذا التراث بعض المتطرفين من كتاب العرب القدامى والمحدثين وينكر أهميته، أو يبخسها حقها، كثير من الباحثين الغربيين في الماضي والحاضر.

ولما كانت فترة نهوض العرب قد جاءت قبل ظهور الثورة العلمية في مفتتح القرن السابع عشر فقد اتسم تراثنا العربي بطابع المعارف اللغوية والأبحاث الاجتماعية وفي مقدمتها فلسفة الأخلاق، وقد انبثقت نتيجة لظهور الإسلام في مطلع القرن السابع الميلادي، مستمدة أصولها النظرية من القرآن وسيرة النبي، وعندي أن خير ممثل لما ذكرناه بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب في أقواله وأفعاله على السواء، فلسفته في الحكم (على الشكل الذي ذكره نهجه) وسيرته في الرعية على الشكل الذي روته كتب التاريخ أروع مثال في الأخلاق بعد النبي سجله العرب على صفحة التاريخ ولهذه الفلسفة جوانب ثلاث، مترابطة كل الترابط في الناحية العلمية وإن كان التمييز بينها ممكناً من الناحية النظرية لغرض الدراسة والتحليل.

هذه الجوانب هي الجانب الأخلاقي والجانب السياسي والجانب الاقتصادي وسنقصر البحث في هذا المقال توخياً للاختصار على الجانب الأخلاقي وهو أساسها على أن نعود في فترة أخرى إلى البحث في الجانبين الآخرين.

هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن البحث في الفلسفة الخلقية في تراث العرب الفكري كما يمثلها علي، ربما يساعدنا على تفهم  طبيعة المشكلات التي يمر بها الجنس البشري في الوقت الحاضر فهي على ما نرى خلقية في جذورها، يصدق ذلك بين أفراد الأمة الواحدة وبين الأمم كذلك في جميع نواحي الحياة.

يستطيع الباحث إذا ما نظر إلى فلسفة الإمام في الحكم بشيء من التحليل والتعمق أن يصفها بأنها أخلاقية في جوهرها: تستند إلى الفضيلة تشجعها وتغرسها في نفوس الناس وتكافح الرذيلة وتدعو إلى استئصالها من عالم الوجود، تفعل ذلك في مجال الفكر واليد واللسان وهذا يعني أن الأخلاق عند الإمام فكرة وسلوك في آن واحد: سلوك في القول وسلوك العمل والناس بنظره ثلاثة أصناف: فمنهم المنكر للمنكر بيده وقلبه ولسانه فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيع خصلة.

ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده فذلك الذي ضيع اشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك الإنكار بيده وقلبه ولسانه فذاك ميت الأحياء.

فالتوافق التام بيد عقيدة المرء وقوله وعمله هو الغاية القصوى التي يدعو الإمام إلى غرسها في نفوس الناس، والعقيدة بالطبع هي الأساس الذي يجب أن يستند إليه المرء في قوله وفي عمله، فإذا سلمت العقيدة من الناحية الأخلاقية سلمت الأقوال والافعال المنبثقة عنها وبالعكس ولا فرق عند الإمام بين فساد العقيدة وصلاحها إذا لم يكن السلوك في القول والعمل منسجماً معها في حالة سلامتها، ومن يدري فلعل العقيدة الفاسدة اقل ضرراً بالمجتمع من العقيدة السليمة التي لا تنسجم أقوال من يدعي أنه يحملها مع أفعاله في المدى الغريب على أحسن الفروض، ذلك لأن الناس يسلمون مقدماً بفساد تلك العقيدة باعتراف صاحبها فيحزمون أمرهم على مقاومته ومقاومتها بجميع الوسائل المتيسرة لديهم أما المتظاهر بحمل العقيدة السليمة من السهل إجماع الناس على مقاومته وبخاصة إذا ما وجد من يبرر بعض تلك الأعمال والأقوال غير المنسجمة معها، يتضح ذلك بأجلى مظاهره في صفوف الحكام القدامى والمحدثين أكثر منه في صفوف الرعية, ولذلك سهلت مقاومة الحاكم الفاجر المكشوف وصعبت مقاومة الحاكم الفاجر المستور، وفي التاريخ أمثلة كثيرة تؤكد ما نقول.

لقد وضع الإمام القاعدة الأخلاقية التي ذكرناها في تصنيفه الناس، بشكلها السلبي لعلمه أن إنكار المنكر باليد واللسان والقلب معناه من الناحية الإيجابية التهيؤ لإشاعة غير المنكر وقولاً وعملاً على أن ذلك في نظره ممن اصعب الأمور، فما أصعب اكتساب الفضائل وأيسر إتلافها، ولكن إشاعة غير المنكر مع هذا أصعب الأمور، فما أصعب اكتساب الفضائل وأيسر إتلافها، ولكن إشاعة غير المنكر مع هذا أصعب من مقاومة المنكر في الأعم الأغلب، ومقاومة المنكر باليد أصعب منها باللسان، وهي باللسان أصعب منها من القلبن ولهذا نجد الإمام يخاطب الناس فيقول: إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم، وقد سمى مقاومة المنكر جهاداً في سبيل الله يجاهد المسلمون ولا السوء كما يجاهدون المشركين.

ثم خص الإمام بالذكر الحاكم فقال: من نصب نفسه إماماً للناس فعليه أن يبدأ بتأديب نفسه قبل تأديبه غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، وإلا كان بمنزلة من رام استقامة ظل العود قبل أن يستقيم ذلك العود، لأن الراعي بلا عمل كالرامي بالا وتر.

والعمل دون شك أكثر أثراً في النفس من القول عند الفاعل نفسه وعند من سيشاهد العمل لغرض الاقتداء به أو العزوف عنه، والعمل الصالح الذي يقوم به شخص متواضع الحسب، بمقياس مجتمعه يرفع منزلة ذلك الشخص بنظر الإمام فيشرف حسبه وبالعكس، فمن أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه وشتان بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره، فلا تكن ممن ينهي ولا ينتهي ويأمر بما لا يأتي ويصف العبرة ولا يعتبر، فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن، ثم عاد إلى الناس يخاطبهم: إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها، فاجعلوا اللسان واحداً، ليخزن الرجل لسانه، فإن هذا اللسان جموح بصاحبه، إن لسان المؤمن من وراء قلبه ولقلب المنافق من وراء لسانه.

وإن من عدم الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه وما السيف الصارم في كف الشجاع بأعزله من الصدق إذن فالكلام في وثاقك، ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه.

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول أن فلسفة الحكم عند الإمام تستند من حيث الأساس على وحدة الوسائل والغايات وهي بهذا المعنى تمقت الانتهازية أو الوصولية بشتى صورها ومختلف مجالاتها فلا يمكن على هذا الأساس أن يحقق المرء غاية نبيلة باتباعه وسلة فاسدة وبالعكس، لأن الوسائل الفاسدة ترافقها وتنتج عنها غايات فاسدة ووسائل أخرى فاسدة كذلك وإلى هذا المعنى يشير الإمام (من الناحية المبدئية العامة) بقوله: قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرستها من لا حريجة له في الدين.

ذكرنا أن فلسفة الحكم عند الإمام من الناحية الأخلاقية، تستند إلى الفضيلة وتمقت الرذيلة، ترى الفضيلة وما الرذيلة بنظر الإمام ومن يعينها وما المقياس الذي يتخذه الشخص للتميز بينهما، وللإجابة عن هذه الأسئلة من وجهة نظر الإمام يمكننا أن نقول: تتضمن الفضيلة كل عمل أو قول ينطوي بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، على الخير أما الرذيلة فهي كل عمل أو قول ينطوي بطريقة مقصودة أو غير مقصودة على الشر والقصد أو عدمه، في القول أو العمل سيان في عملية التمييز بين الخير والشر، بمقدار ما يتعلق الأمر بطبيعة العمل نفسه، أما الفرق الكبير بين الفضيلة والرذيلة فيما يتصل بالقصد أو عدمه في القول أو العمل فيقع في تعيين مسؤولية الشخص الذي يتعاطى فعلهما.

فالكذب رذيلة بغض النظر عن نية الكاذب أو قصده، والصدق فضيلة على الأساس نفسه، أما الخير الذي وصفنا الفضيلة بأنها مشتملة عليه فهو كل عمل أو قول يشيع العدل بين الناس وينشر بينهم الأمن والطمأنينة ويشجعهم على التعاون في خدمة مصالحهم الخاصة ضمن إطار مصلحة العامة لا خارجه أو على حسابهن وأما الشر فهو استبداد بعض الناس ببعض آخر وانتفاعهم بجهودهم من الناحيتين المادية والمعنوية، وقد رسم الإمام الخطوط العامة للمجال الذي تقع فيه الرذيلة حين قال: احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه ويكرهه لعامة الناس، واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره أو اعتذر عنه، واحذر كل عمل يعمل له في السر ويستحي منه في العلانية وتتضح لنا أهمية ما ذكره الإمام إذا تذكرنا أن الإنسان في العادة لا يعتذر عن عمل ما أو ينكره إلا إذا كان ذلك العمل دون المستويات الأخلاقية الرفيعة والمسلم بها من الناحية النظرية في المجتمع الذي يعيش فيه، أما العمل الذي يتعاطاه الإنسان في الخفاء فهو الذي يتعلق بالموبقات (المُسلَّم لها في مجتمعه نظرياً) في مختلف صورها وشتى مجالاتها.

والجانب الإيجابي لما ذكرناه هو أن يتصف الإنسان بالفضيلة في جميع تصرفاته، هذا مع العلم أن من استحيي من الناس ولم يستحي من نفسه فليس لنفسه عنده قدر.

في حين أن غاية الأدب أن يستحيي الإنسان من نفسه، فإذا أعجبك ما يتواصفه الناس من المحاسنك فانظر فيما بطن من مساوئك، ولتكن معرفتك بنفسك أوثق عندك من مدح المادحين لك لأن المادحين في العادة ينظرون إليك بمنظار مصالحهم لا بمنظار واقعك وحقيقة أمرك بالنسبة للآخرين، لذلك وجب أن تنظر (وجهك كل وقت في المرآة فإن كان حسناً فاستقبح أن تضيف إليه فعلاً قبيحاً تشينه به، وإن كان قبيحاً فاستقبح أن تجمع بين قبيحين) (اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك، ما تستقبحه من غيرك).

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول مرة أخرى أن الجانب الأخلاقي لفلسفة الإمام في الحكم يستلزم الابتعاد عن الرذائل والموبقات لأن (من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته، وليكن مرجعك منها إلى الحقن فإنك مهما تترك من الحق لا تتركه إلا إلى باطل ومهما تدع من الصواب لا تدعه إلى إلا الخطأ. فلا تداهن، هواك في اليسير فيطمع منك في الكبير.

أي أنك إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم لأن أفضل العبادات الإمساك عن المعصية والوقوف عند الشبهة، لم يقل الإمام ـ كما يتوقع كثير من البسطاء أن أفضل العبادات الصلاة والصيام وما شاكلها من العبادات لأن الصلاة والصيام واضرابهما من العبادات المعروفة هي بنظره وسيلة لتربية الأخلاق.

ولا يكونان عبادات بالمعنى الدقيق بمجرد القياد الفعلي الميكانيكي بهما مع إهمال جوانبها التثقيفية الخلقية المتعلقة بتعديل السلوك وتوجيهه نحو الخير، فيجب عليكم أيها الناس Sأن تجاهدوا شهواتكم كما تجاهدون أعداكمR.

ذلك ما يتصل بجوهر الأخلاق عند الإمام وهناك أمور أخرى تتعلق بذلك الجوهر من قريب أو من بعيد بشكل مباشر أحياناً وبشكل غير مباشر أحياناً أخرى يجمل بنا أن نشير إليها في ختام هذا البحث Sيا حملة العلم اتحملونه فإنما العلم لمن علم ثم عمل بما علم ووافق عمله علمهR، فإذا استخدم العالم علمه في شتى ميادين المعرفة الإنسانية، وسيلة لتحسين سلوكه في القول وفي العمل، واتخذ ذلك السلوك بدوره وسيلة لخدمة المجتمع ضمن نطاق المجتمع الإنساني الكبير وذلك عن طريق نشر الفضيلة ومقاومة الرذيلة في شتى ميادين الحياة فإن المجتمع سيسير قدماً في مضمار التقدم والفلاح من الناحيتين المادية والمعنوية، فالعلم كالآلة الجارحة يتوقف نفعه وضرره على كيفية استعماله من جهة وعلى الغاية من استعماله من جهة أخرى.