نفحة من روح علي

{ محمّد مجذوب }

* علي هو "السبرمان" الذي أعده الله إعداداً خاصاً ممتازاً ليكون التلميذ الخاص الممتاز لمدرسة القرآن.

* لو أتيح لسقراط وأفلاطون إدراك عبقرية علي لسعدا بأن يكونا من تلامذته.

ليس في الوجود أعجب ولا أدعى للأسى من أن تجد امرءاً من الناس يضطرب في جحيم من الفقر المدقع بينا ينطوي كوخه الأجرد على كنز هائل من الذهب واللالئ ينام على مقربة منه وهو لا يشعر بوجوده!

وقلما اذكر علي بن أبي طالب (ع) بجانب هذا الجهل الغامر الذي يستحوذ على الكثرة من شباب الإسلام لعبقريته وشخصيته إلا توارد على نفسي هذا المثل: مثل الفقير وكنزه المجهول!

كان كل ما تجمع لدى من علم عن (علي) هو أنه أول من آمن من الأطفال، وأنه ربيب محمّد (ص) وختنه، وأنه أخيراً مرد هذا الخلاف الكبير الذي لا يزال يضرب بجرانه على أمة محمّد (ص) فيقسمهم أحزاباً لكل منهم رأيه في هذه الشخصية، وكل منهم بما لديه فرحون.

ولعلني كنت مأخوذاً إلى جانب ذلك بالحكم القائل: إن ابن أبي طالب رجل عبادة وزهادة وأنه أبعد ما يكون رجل عن السياسية، وأنه كان عليه لذلك أن يدع الأمر لمن هو أعرف منه بمداخل الحكم ومخارجه وأنه لو فعل ذلك وترك الأمر لمعاوية لما كانت (الجمل) ولما كانت (صفّين) ولتجنب الإسلام هذه المحن التي استغرقته منهذ ذلك اليوم.

كان ذلك كل ما اجتمع لدي من علم هذا الرجل وهو علم الكافة من شباب الإسلام أمس وإلى عهد قد يمتد زمناً ما، ولكني واثق من أنه لن يمتد إلى الأبد على كل حال، لأن الله أرحم وأضن بهذا الشباب من أن يحرمهم إلى الأبد سعادة المعرفة الحقة لهذه النفس الفذة.

وقد مَنَّ الله عليَّ بهذه المعرفة، فيما اعتقد وجلا تلك الغشاوة عن عيني ونفسي فإذا أنا اُشرف من وراء هذه الحجب الصفيقة على عالم لا ينعم بروعته إلا من كشف الله عن بصيرته فعرف ابن أبي طالب على حقيقته، وكان ذلك منذ عام حين يسر لي أن أتجاوز.

كل أقاويل الناس عن علي تدل إلى الاتصال المباشر بروحه، تلك الروح التي كمنت وراء (نهج البلاغة) فكان لها أشبه بالدليل الهادي الذي يقود الخابط في الصحراء إلى الواحة المحيية من أقرب سبيل وكنا اثنين من الذين نزع الله ما في قلوبهم من غل فجمعنا على الصداقة البرئية نقضي بياض ايامنا في عمل مشترك من التعليم ثم نفري سواد الليالي بنور من العلم نتدارسه في طوايا الكتب، تاركين كراسي المقاهي لأولئك الذين أخذوا أنفسهم بالاستجابة لشيطان اللهو فراحوا يقتلون أماسي الشتاء على موائد النرد والبناكل والدومينو وكان كتاب (النهج) في قائمة الاسفار التي انكببنا عليها وهنا أعترف بحقيقة لا مناص من التنويه بها، وهي أن الصورة التي كانت قد انطبعت في خيالي عن هذا الكتاب لم تكن مما يشجع على الإقبال عليه.

لقد لقننا بعض SالموثوقينR من الذين كتبوا عن شأنه أنه كتاب منحول: الزائف فيه أكثر من الصحيح، ولم يعوزهم الدليل على رأيهم فحسبهم حجة أن فيه بعض الحديث عن شؤون من الغيب لا يدركها إلا الله، وأن في أسلوبه فناً ن التقرير العلمي لم يعرف قبل ميقات التأليف في العصر العباسي، وأخيراً فجامعه رجل من أبناء علي وشيعته، فهو متعصب له، عامد إلى إكباره، ورفع شأنه إلى ما فوق الناس.

وعلى هذا ولجت الكتاب وفي نفسي رغبة التثبت من هذه الحقائق كشيء من اليقين لا مرد له، ولا ريبة فيه، بيد أن لله إرادة غير إرادة الناس فالمرء لا يجرئه أن يريد ليكون ما يريد، وإنّما هي قلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وقد شاء الله أن يكون غير ما أردت فإذا أنا أتابع ما يقرأ علي من النهج بانطلاق عقلي وتجرد روحي لاحد لها، وإذا أنا أخيراً وجهاً لوجه بين يدي روح من وراء هذا العالم تطوي تحت جناحيها حقائق الكون كله، فهي لا ترسل القول إرسالاً يثير فضول النفس وريبة المنطق فيخضع للمناقشة والمحاكمة بحيث يكون لك الخيار في رده أو قبوله.. ولكنه من النوع الأسمى الذي يمليه صاحبه عليك إملاء الوحي لا مناص من الخضوع له، لأنه يحدثك عن شيء يقع تحت نظره ويفيض عليك من عالم مشهود يضم عليه جانحيه في قلبك نزول اليقين لا مغمز فيه للشك ويملأ روحك بنشوة من المعرفة لا قبل لك بنكرانها فكأنه هو الحق الذي عناه الله بقوله الحكيم على لسان نبيه الكريم: Sقُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِيR.

ومع ذلك فهو قول يجري على طريقة الناس فيه حماسة الخطيب وفن الشاعر وتعليل الفيلسوف ولكن فيه شيئاً آخر لا يسمو إليه أحد من أولئك إذ هو شيء روح السماء التي لا يبلغها إلا رسل السماء.

وكنت كلما أوغلت في تذوق ذلك النفس العلوي أحس أبواباً غير منظورة تتفتح لعيني كما تتفتح آلة الإذاعة عن أصوات جديدة كملا أدرت مفتاحها يمنة أو يسرة، وإذا بي أقع أخيراً على الحلول القاطعة الحاسمة لتلك الشبهات التي أعترت أولئك الموثوقين حين خيل إليهم أن مثل ذلك يجوز عليه أن يكون من الكلام المنحول، ولعمري لقد كان في مكنتهم أن يقعوا على هذه الحقيقة لو ذكروا أنهم أمام ذلك السبرمان الذي أعده الله إعداداً خاصاً ممتازاً ليكون التلميذ الخاص الممتاز لمدرسة القرآن، وليكون بحياته الممتازة كذلك سجلاً عملياً للمدى الذي قد يبلغ إلى مثله أمرؤ أخذ نفسه بتحقيق مثل القرآن.

أما ما يرونه في (النهج) من حديث عن الغيب فما كان أبعدهم عن الاشتباه بأمره لو تذكروا أن ذلك إنّما كان من التوفيقات التي أخذها عن صاحب الوحي (ص)، فهو ينقلها على الناس مستندة إلى مصدرها النبوي، وما أرى أبا العلاء حين مال لإنكارها في (رسالة الغفران) إلا غافلاً عن هذه الحقيقة قد أخطأته كما أخطأت سواه من أولئك الباحثين الذين لن تجد أظلم منهم لأنفسهم خصوصاً عندما ينكرون على تلك البعقرية حقها في السبق إلى بعض التقريرات العلمية بينما هم أنفسهم لا يجدون أي مسوغ لإنكارها على سقراط وأفلاطون الذين لو أتيح لهما إدراك هذه العبقرية لسعدا بأن يكونا بعض تلامذتها.

وليس رأيهم في كل هذا عن علي بأبعد عن الإنصاف من رأيهم الآخر في سياسته إذ زعموا له ضعف الخبرة وقلة الحنكة، فما أدري والله كيف تكون السياسة إذا لم تكن ي هذا الفقه العظيم لفن الحكم المثالي الذي يكاد يملأ ما بين دفتي النهج ولكنهم مع ذلك جد معذورين ما دامت السياسة في أعينهم وعلمهم هي تلك الميكافيلية التي قوامها القتل والختل واتقان ضروب الاستثمار لجهل العامة ولا جرم فعقلية كهذه أبعد ما تكون عن الإحاطة بسر الجمال في سياسة علي التي مثلها الأعلى أن تكون تحقيقاً عملياً للعدل الإلهي الذي تقتضيه رحمة الرب الواحد لخليفته الواحدة في مقابل سياسة كل مثلها أن تكون أسلوب مداورة وخداع وتفرقة بين أحاد الناس وجماعاتهم لتحكم سلطان الشهوات وحدها!

ومضينا في الكتاب على هذا النحو من الاستغراق الروحي حتى كانت تلك الليل التي لا انساها وكان صاحبي يقرأ عليَّ بعض كلام الإمام عن هول المحشر، وكنت أراني مجذوباً إلى ما يقرأ كالمنوم وضع زمامه في قبضة منومة، كأنني والله لا أسمع كلاماً يتلى وإنّما طلع بنفسي فأرى بعيني وأسمع بأذني وأحس بيدي وكنت أشعر بل اتيقن أنني مضغوط في زحمة الحشود وقد ماجت ساحة الحساب بأرتال الخلق كأنهم الضم المتلاطم: فالنفوس ملتاعة والأعين مرتاعة، والقلوب هالعة والأعصاب جازعة وقد بلغت الروح الحلقوم وخشعت الأصوات للحي القيوم.

ثم ما لبث صاحبي أن انتهى بي إلى جواب الإمام في مسألة (همام) في وصف المتقين، فإذا أنا موصول الشعور بذلك العالم الذي استعدت له هذه الصفوة فجعلوا زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب، فهم والجنة كمن رآها فهم فيها منعمون وهم ولنار كمن رآها فهم فيها معذبون.

ولم أتنبه لشأني إلا حين قرأ صاحبي: فصعق همام صعقة كانت فيها نفسه فنفضت هناك رأسي لأرى أنني لم أبارح الأريكة في بيت الرفيق، وأنني ما زلت في دنياي هذه اضطرب في ما يضطرب فيه ناسها من الشر والخير، وما أذكر أنني استطعت ساعتئذ كلاماً، بل كل ما أعيه أنني انسربت من المنزل كالخيال السادر ومضيت أقطع الطريق إلى داري وكأنني أقطعه بهدي المراس لا أملك الرشد الذي يبصرني ما بين يدي وما خلفي، وكانت الساعة العاشرة عندما أويت إلى فراشي وأنا أحسب أن النوم سيذهب بكل أثر من ذلك فينقلني إلى عالمه في خفقة واحدة، وما كنت لأدرك أنني قبل النوم في حالة أخرى من نوم لا يجدي به الفراش فما هي إلا لحظة حتى رجعت إلى دنيا همام وإذا أنا مدعو إلى موقف الحساب لم يبق بيني وبين العرض على الله إلا دقائق معدودة.

واندفت ـ كما خيل إلي ـ في المدينة افتش عن الذين أسأت إليهم أو أسلفت خطيئة نحوهم لأسترضيهم بما استحق فيه التبرئة إذا ما صرت إلى موقف الحكم.. ولكن وأسفاه لقد أقفرت الأسواق ودخلت الأزقة وأقوت المساكن فلم تقع عيني على بشر، ولم أجد أمامي سوى مخرج واحد ألوذ به، فرجعت إلى زوجتي وأولادي أشرح لهم أمري بحديث يختلط فيه النشيج بالكلام آخذاً منهم عهد الله على استرضاء غرمائي.

وجعلت الدقائق تنحدر في بالوعة الزمن بسرعة لم يكن لي عهد بمثلها، وجعل النشيج يتعالى صعداً من حلقي المكظوظ بالدمع واللهفة حتى لم أعد أستطيع نطقاً وإنّما هو نحيب أرسله فتدوي به القاعة وينساب في ظلمات الليل يوقظ الناس من مضاجعهم.

ولم أع شيئاً بعد.. غير أنني استطعت إثر وقت ما أن أسمع رنين النصف بعد الواحدة ترسله ساعة الجدار وأن أفتح عيني أخيراً فالمح حشداً من الناس يملأون قاعتي دون أن أتبين شخوصهم، ثم جعلت أثوب إلى الرشد رويداً فتتكشف لي صور الحضور حتى عرفت فيهم ذوي قرابتي قد أقبلوا علي من مختلف أنحاء المدينة هذا العارض الذي ألم بي.. وليس لديهم ريب في أنه مس من الجنون.

ونعم لعمر الله لقد كان ذلك مساً من جنون لا ريب فيه ولكنه جنون ينطلق به العقل من قيود ماضيه وتتحرر به النفس من أغلال شهواتها.

رحمك الله يا همام، فلقد صفوت حتى اتصلت روحك بروح علي، وسموت ثم سموت حتى تجاوزت نطاق الدنيا فاختطفك الموت إلى عالم الحق.

ولو أتيح لي مثل صفائك وسموك لكان لي مثل ذلك الشأن الذي صرت إليه.. ولكنها اصفاد من دنيا التراب لا تزال تعلق بنفسي فتمسكها إلى التراب.