علي.. أنشودة العز في فم الأجيال

{ بولس سلامة }

* "النجف هو المكان الذي يسعه أن يستوقف الشمس ليقول لها سمّري أضواءك على هذه القبة البيضاء فإن تحتها يوشع العرب"

ليس عيد الغدير عيداً لطائفة بل عيد الحقيقة التي أجراها الرفيق الأعلى على لسان النبي الأمين (ص) الحقيقة التي لا قبل لها ولا بعد، لأنها في المطلق المستقل عن الزمان والمكان، كانت منذ الأزل وستظل في الأبد، ذلك أنها قبس من النور الإلهي الذي لا يتبدل ولو تبدلت صفحة السماء أو خسفت الأرض بمن فيها.

عيد الغدير عيد البطولة التي تستحب الموت انتصاراً للحقيقة وتفر من وجه الباطل فإذا بصاحبها الذي يخفق نعاساً وإزاؤه مئة ألف سيف يوم الجمل يخشى أن يهب أخاه ديناراً واحداً من مال المسلمين، بل يخشى أن يسلب النملة جلب شعيرة.

عيد الغدير عيد أمير أمراء البيان، وذكرى باب مدينة العلم الذي انفتح على الدنيا فشق للمعرفة أبواباً عجافاً وآفاقاً رحاباً، وما برح كالزمان ينمو أبداً ويتعالى في الأجواء مصعدا يتناوله الإدراك فيملأ القلب، ويهز الجوارح فإذا باللسان يهتف: الله أكبر.

عيد الغدير عيد الفيلسوف الذي لم يتتلمذ لأرسطو، ولم يعرف روما، ولد فقيراً في أجدب رقاع الكون، وأعرقها في الجاهلية، فاختار له الباري سبحانه مربياً تلاشت بجانبه عظمته حكمة أثينا وأبهة روما، فانعكست الشمس النيرة على اللجين الصافي، وكان اللؤلؤ وكان المرجان (فبأي آلا ربكما تكذبان).

عيد الغدير عيد المتصوف القائل: (تخففوا تلحقوا) ولقد تخفف من أباطيل الدنيا فسبق وتحمل وحده ما تنوء به أمة فكان السابق إلى الإسلام مؤمناً والدافع عنه مقاتلاً والشارح أحكامه فقيهاً والمنار الساطع في أفقه عابداً، والعلم الخافق على منابره خطيباً، فمن ادعى البلاغة بعد ذلك فقد تلقح بهباءة من غباره.

عبد الغدير عيد الرجل الذي ولد في المسجد فاستقبله ملاك وقتل في المسجد فحفت بروحه أجواق الملائكة، تلك الروح التي علمت أن العفو أقرب للتقوى فصفحت يوم الجمل، وأباحت الفرات للأعداء الظامئين يوم صفين، وأمرت بالرفق بابن ملجم إذ يعاني صاحبها سكرات الموت من ضربته.

عيد الغدير عنوان مجيد وسمت به ملحمتي التي كتبتها بالدمع وشرّفتها بذكر أبي الحسن، وطيبتها بدم الحسين الذكي، الذي خلد بذكره أسماء خصومه، فذكر القاتل بجانب القتيل كما تذكر اللعنة ضداً للبركة والظلمة ضداً للنور، والهاوية ضداً لسدرة المنتهى.

وقد شاء الله أن يجعل الحجاز الجديب مطلعاً للفيض فاستودعه رفات النبي الهاشمي (ص) واستودع العراق رفات العترة الطاهرة، فتقدست كربلاء بما ضم ترابها من دم شريف أو أصابت قطرة منه بني أمية لطهرت حتى يزيد وابن زياد وطاغية ثقيف.

وقدس الله النجف فجعل الصعيد الطيب الذي احتضن رفاة أبي تراب ملاذاً يستجير به الغزال المروع فكأنه يقول لمنفريه: ويحكم ها هنا يرقد بطل بدر وخيبر وحنين، فاخلعوا أخفافكم من أرجلكم إن هذه الأرض ثالثة الحرمينن لقد أجاركم علي حياً فاحفظوا جاره ميتاً، وما هو في الحقيقة بميت ولكنه النجم الوضاء في جبهة الشرق تراه الأبصار المديدة والعيون الحديدة، وأنه لأنشودة العز في فم الأجيال لم تزل موصولة الإيقاع والجرس ترنح الأسماع التي لم يسدها الصم وتهز القلوب التي لم تنم.

ولئن حسدت بقعة من الأرض أختها على ما ضمت من كنوز وأحرزت من مجد، فالنجف هو المحسود بعد يثرب والغري هو المكان الذي يسعه أن يستوقف الشمس ليقول لها سمري أضواءك على هذه القبة البيضاء، فإن تحتها ـ لو أعطي النبوة  ـ يوشع العرب.

وددت أبا الحسن لو أفلتني المرض المقعد أن أكون بين الألوف الملتفة حول ضريحك الأقدس في عيد الغدير لأشرف جبيني بلثم القبة المباركة ثم أغمض عيني هنيهة عن هذه الدنيا التي استهدفتني فأدمتني حتى حسبت الدماء اللون الذي لبسته مولودا، هذه الدنيا التي حقرتها أيها الإمام العظيم فكبرت عليها فما وسعت إلا جسدك وظلت روحك المجنحة تخفق في أجواء أنكرها الناس، لأن تلك المنازل منازل الحق والخير غريبة عن المادة والشهوات والناس عبيد المادة والشهوات.

 

 أيها الناس إنما الله مولاكم

مولاي ناصري ومجيري

*** 
يا إلهي من كنت مولاه حقاً 

فعلي مولاه غير نكير

***  
يا إلهي وال الذين يوالون ابن 

 عمي وانصر حليف نصير

*** 
كن عدواً لمن يعاديه واخذل    

كل نكس وخاذل شرير

***
حيدر زوج فاطم وأبو السبطين 

 والرمح يوم طعن النحور

*** 
والفقيه العظيم أصوب خلق   

الله رأياً لطالب مستنير

*** 
وأمـير الـزهاد قـبلاً وبعداً 

 حسبه في الطعام قرص شعير

 

أجل وودت لو أغمضت عيني بجانب ضريحك واستعرضت في تلك الغفوة الهانئة فترة حياتك الموصولة بالخلود فأتخيلك يوم جئت الدنيا فأظلتك أستار الكعبة وما أظلت قبلك ولا بعدك مولداً، ودرجت طفلاً بين غايتين: الغاية في الغنى الروحي والغاية في الإملاق الروحي فجرت في مهجتك ونمت بنموك عليها التف عضلك وبها تصلبت عظمك وجاء الشر بعد ذلك يبغي إليك سبيلاً فوجد الأبواب مقفلة لقد غالبته فغلبته بالزهد إذا تدرعت وأنت أمير المؤمنين وخزائن الإسلام رهن يديك بمدرعة من صوف وفي رجليك نعلان من ليف تأكل فلا تشبع من خبز الشعير، تطحن بالرحى وتخصف نعلك بيدك وتنام على أهداب كبش.

قاتلت الشر بالصلاة إذ تلصق جبينك بالأرض ساجداً وتنقطع إلى الله حتى ليكاد يتعاطى الحس، تناجيه وهو قريب منك مالئ شغاف قلبك تخففت من المادة ونفضت عن ذيلك أدران الأرض، ووثبت إلى النور فأمحت الجوارح وسقط الحجاب.

لقد استقبلت الحياة في مسجد وودعتها في مسجد فتقدس الشروق وتبارك الغروب وكان بينهما نهار مزدحم بأعظم ما أتاه آدمي، وأروع ما وعته أذن ونبض به قلب.

فيا أبا الحسن: إن جهد المقل المقعد، يوم عيد الغدير، أن يطلق الصوت من على شاطئ الأرزق المتوسط يحمله نسيم الأرز إلى بلاد النخيل، إلى النجف الأشرف فتتلاقى على ضريحك أصوات من المشرق والمغرب، وهيمنات من الكنج، ونفحات من دجلة وتتآلف لهجات الهند والفرس والعرب في نغم واحد، ذلك أن النور متعة العين لا يختلف فيه أبيض وأسود وإن الشذا يظل حبيباً إلى القلوب.