عيد الغدير

{ الدكتور بترو ديب/لبنان }

في مثل هذا اليوم ولحولٍ خلا، وقفت في ذكرى الغدير، وفي النفس شعور بأنها أمام عالم لا طاقة لها له من الذكريات والعبر، أنت هو هذا العالم يا أمير المؤمنين وقد رحت أحدق بعيني صروحه الضخام التي شيدت فأعليت، حتى انتهيت إلى ذاك الذي قد غدا وكان الحق قد اتخذه معقلاً يأوي إليه كل ملهوف، وكأني وأنا أتامله ذلك المستأوي وكأنه الملاذ المنصف لقتصير محتم.

وإذا أخذت لنفسي اليوم موعداً مع غدير زهدك، فتحاشياً بمجابهة خصمك ورفقاً بنفس تتوق وأنه لمن شيم النفوس إلى ما يرفعها فوق أتراح هذه الدنيا.

لك في هذا الوجود، وقد خبرته من بليغ الحكم روائعها، نظرت إليه نظرة الواقع فقلت بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبداً وخشيت أن يسيطر هذا الواقع على ضعف الإنسان فيغره فأسرعت تصور له الآخرة غدية والدنيا تهتف بالفناء وتصرخ بالموت وكم عدت إلى هذه الفكرة كي تزيدها رسوخاً فتتابعت صورك الناطقة تصف الدنيا بأنها Sتحفز بالفناء سكانها وتحدو بالموت جيرانها".

وما عودك إلى التذكير بالموت لمجرد التهويل، بل لرفع ابن آدم إلى ما يؤهله للموت فالوجود الدائم: Sتزودوا من الدنيا فإنها دار عمل وابتلاء، والآخرة دار قرار وجزاء".

 فطبيعي أن يغدو الموت في نظرك لا مجرد غيبوبة بل درباً من دروب الخلود وإن تحسب من المنية بعض ما يدعى حياة وما أروع ما كان تعريفك لهما يوم احتل رجال معاوية الماء في صفين ليمنعوا منه رجالك فصحت في صحبك: Sالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين" وكأني بك وأنت تقولها، تعود بك الذكرى إلى يوم خيبر وقد كاد يزيغ قلوب الكثيرين، وعز عليك أن تعيش مقهوراً فاقتلعت ذلك البا وأسرعت نحو الموت كأنك تريد من خلالهما أن تدخل إلى الحياة التي لا تموت!

وما تاريخ زهدك بحصيدة يوم، أو بحصائد أو عقود من الدرر الفرائد، زهدك تاريخ حياة هي من أسفار التاريخ ومن المحال سبر مفاهيمها ما لم يرجع إلى هذه الناحية الأساسية فيها إلا وهي ذكرك الله دائماً ووقفك الحياة لتمجيده أبداً، وفي هذا المستوى تتضح الفروق بين الجوهر والعارض فمن عاش والجوهر كيف لا يزهد في العارض؟

يوم السقيفة توافد رهط من كبار القوم يحثونك على شجب ما جرى في حي بن ساعدة فرفضت وأنت تأخذ على بني قومك أن Sاحتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة"، وإذ ألحوا قمت تحذر بما يليق برجل الدولة والدين: Sشقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة".

ويوم بايعوا عثمان أعلنت حقك بالأمر أولاً، ثم أعلنت سكوتك عنه في سبيل خير أعم: Sلقد علمتم أني أحق الناس بها من غير، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسملين ولم يكن فيها جَوْر إلا عليّ خاصة التماساً لأجر ذلك من زخرفة وفضلة وزهداً فيما تنافستموه في زخرفة وزبرجة".

ولا غرابة ألا يفهمك الكثيرون وأن يتساؤلوا أليس ضعفاً؟ ونسألهم: لم لا ينظرون إلى الخلافة إلاً وهي تبتعد عنك ظاهراً، ولا يرونها تأتيك فلا تستقبلها بحماس المتعطش، بل تستقبل مقدميها بالتأنيب: استأثر (تعني عثمان) فأساء الأثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع.

ووددت لو دعوك والتمسوا غيرك، لكن الظرف دقيق، ويخشى أن تضيع المسؤوليات في بلبلة الأفكار، فلابد من زعيم فقبلت المسؤولية وقد عقدت عليك آمال الكبار، ما همّك إرضاؤها بل توجيهها إلى الخير الأعظم، فواجهت مبايعيك بصراحة القوي بإيمانه، المتحرر بزهده: ليس أمري وأمركم واحداً إني اريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم.

لعمري أنها لصراحة مؤمن زاهد في ما عدا الله، وما الغو عائية والمتاجرة بها من شيم الإمام! وإن في أقوالك ومواقفك، أبا الحسن لخير عظة للمتاجرين بها لو كانوا يتعظون لكن كيف والأهواء طاغية وتجارة السوء مغرياتها في نظرهم زاهية؟! فإذا أردنا التعبير عن براعة قلنا ديماغوجية! وإذا أردنا التظاهر باحترام الغير أسميناه شعبية! وإذا ادعينا دفاعاً عن المثل غدت طائفية!!

أجل يا علي حتى القدسيات أصبحت في السوق وغدا الدين سلعة!

أفهم أن يتهم رجل احترف القانون والطب أو غير ذلك باستغلال حرفته لكن من الصعب أن نتصور القانوني الفقيه أو الطبيب الضليع أو من كان من أهل العلم الصحيح بحيث يغدو العلم جزءاً من وجوده، من الصعب أن نتصور من وصل إلى هذه الدرجة يستغل علمه على غير ما كان له، وكذا المؤمن، الواعي قدر إيمانه وما يفترضه من توقان النفس إلى علتها الأولى، بحيث لا مال ولا بنين ولا جاه ولا الدنيا بأسرها، إن ذلك المؤمن لا يعقل أن يتاجر بالله العظيم!

وها هو علي يؤكد على تعريف ذلك المؤمن تحذيراً للمؤمنين وما جاء في التعريف أن المؤمن زاجر عن كل فان، لا حقود ولا حسود، لا سَبّاب ولا مغتاب، مسرور بفقره لا يجور بعلمه!

الويل يا سادة المجتمع من قاموسه النميمة، الارتشاء، الاستزلام في سبيل كل مجد باطل أن شعباً يبلغ هذا الدرك هل يظل أهلاً بانسانيته؟!

ومن أولى بالإمام بأن يرتفع بالأمة عن تلك الموبئات؟ وما تحقيق الهدف بمجرد الندب إليه، لذا رأيناك أبا الحسن، تبادر إلى الواقع لتعطي بذلك المثل الصالح، بادرت إلى القتال حين توجب الضرب، وما تخلف عن رجالك وقد طعنت في السن، تريثت ما بقي أمل في حقن الدماء، وأنت ولي أصحابها، دخلت المفاوضات بتفوق بالعلم، ولا خفت أن تنعت الحكمة بالتردد، أو الشفقة بالضعف.

لقد تريثت يوم الجمل تفاوض وتعظ، وإذا لم يجد ذلك بادرت إلى ذي فقارك، فكانت صولاتك الحيدرية حتى لم يبق لخصومك سوى المبادرة إلى الفرار!

وكذا في صفين وكتاباتك فيها لابن أبي سفيان من بدائع الضاد!

ويوم عزمت على تصفية الخوارج، فاوضت طويلاً ووعظت وأشد ما تخشاه من القتال أن ينال قوم حتفهم وهم على غير ما تريد من الصراط، ولما دارت عليهم الدائرة، سارعت للحؤول دون مجزرة كنت تتوقعها! وكأني بك تستبق الأحداث وتشاهدها عياناً ساعة أرسلت انذارك المثالي، والغصة تحز في قلبك الأبوي: Sفأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأكناف هذا النهر، وباهضام هذا الغائط، على غير بينة من ربكم ولا سلطان مبين معكم"!

إذا جاز القول بدرجات في فضيلة خوف الله، فمن أسماها ألا يخشى المرء ربه على نفسه فحسب، بل أيضاً على من كانوا اخوة في انسانيته! وما بلوغ هذه الدرجة بالأمر العادي فلا غرابة غلا يفهمها من ينظر إليها عادية ولا سيما إذا لم يتلاق بصره وتطلعك الدائم يا أبا الحسن إلى الله!

إن في هذا التطلع سر زهدك وسر سخريتك بمن (يتنافسون في دنيا دنية)

وإن في هذا الزهد سر تساميك فوق أمجاد هذه الدنيا وقد بلغت منها القمة، وما زادك ارتقاؤك أعلى سدة في أعظم دولة إلا تواضعاً فالدنيا وإن دانت بعظائمها صغيرة في عين العظيم وأي شيء أعظم من ذلك التساؤل والأمجاد تترى بين يديك: ماذا يصنع بالدنيا من خلق الآخرة؟