الإمام علي ليلة العيد

{ خليل الهنداوي }

كان علي بن أبي طالب يستعد في ذلك اليوم لاستقبال العيد، في المدينة التي لم ينحسر عنها ظل الخلافة.

وكل ما في بيت المال من أعطيات وهدايا وغنائم جاءت مع الغزاة وزعت في ذلك اليوم على المستحقين.

وعلي قابع وحده كعادته، يفكر ويطيل التفكير في شؤون رعيته ويتسائل:

ـ يا إلهي ماذا راعهم منى حتى اختلفوا؟ وإذا يدخل عليه أخوه عقيل، ومن حوله صبيته، شعث الشعور، غبر الألوان، قد ترك الجوع والفقر على وجوههم صفرة شاحبة فهب علي يستقبل أخاه ويداعب صبيته.

فإذا عقيل يبادر أخاه:

ـ أخي إنك لتعلم أن العيد غدا وإن هناك أناساً يفرحون وأناساً يخرسهم البؤس، ويطويهم على أنفسهم. فيجيبه علي:

ـ اعلم ذلك، وأنك لتعلم أيضاً أنني حشرت نفسي مع هؤلاء البؤساء، حتى لا تبطر نفسي بالنعمة والله ما إن لي من أمركم وسلطانكم إلا الخلافة!

فيقول له عقيل:

ـ اعلم ذلك ولكن هؤلاء هم أولاد أخيك تركنا البيت وليس  فيه كسرة خبز.

علت وجه علي غشاوة من الحزن، وأطرق قليلاً ثم قال:

ـ يا أخي! لعلك ترى هنا رغيفين أو أكثر لا أملك سواها.. فاطعم أولادك.

فهز عقيل رأسه وقال:

ـ ما لهذا جئت! وإنّما جئت استميحك صاعاً من برّ تعجنه لهم أمهم في أمسية هذا العيد.

قال علي:

ومن أين أعطيك هذا الصاع إن كنت لا أملكه؟

أجاب عقيل:

ـ من بيت المال يا أمير المؤمنين!

اضطرب علي لأنه لم يكن ينتظر مثل هذا السؤال واستغرق في صمت طويل، فطمع في أن يلين له قلب أخيه، وهو يعلم أن أخاه رقيق القلب، فأعاد عليه القول مؤكداً.

نهض علي ولبث عقيل وحده يتأمل في هؤلاء الصبية الذين يديرون أعينهم هنا وهنا، وهو ينتظر أن يعود إليه أخوه بصاع من بر.

عاد علي ومعه حديدة أحماها على النار حتى استحالت جمرة، فأدناها من جسم أخيه، فلذعته الحماوة، فضج من الألم وهو لا يدري ما يريد أخوه:

ـ ويحك يا أخي ما تصنع بي؟

ضحك علي: والتفت إليه يقول:

ـ لقد كنت أظنك أكثر احتمالاً لهذه النار البسيطة، ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحميتها لعباً، وتجرني إلى نار سجّرها جبارها غضبا؟

كيف تريد مني أن أعطيك ما لا أملكه من بيت المال؟ هذا مال المسلمين ولكل واحد منهم حق فيه، فكيف أخون الأمانة، أتحرضني أنت  على الخيانة؟

لك كل ما أملك في بيتي، ولكني لا أستطيع أن أمنحك ـ ولو شعرة واحدة ـ مما لا أملكه.

جمع عقيل صبيته، وقد وضع تحت أبطه كل ما جمعه من قوت وجده عند أخيه، وهو قرصان من شعير، ومضى وهو لا يدري: أيشفق على أولاده، أم على أخيه!

وترك أخاه يعاود الاسترسال في تأملاته:

لماذا يجوع الناس؟ والله إن القفر يكاد يكون كفراً! أيظن أخي أن في بيت المال شيئاً للعطاء؟ وأنا في كل ليلة أكنسه حتى لا يبقى فيه شيء.

وإنه لمسترسل في تأملاته، إذ دخل عليه الأشعث بن قيس أحد عمّاله، ليقضي أيام العيد في أهله.

رحب به علي وراح يسأله عن عمله وأحوال الرعية، وهو يجيب بهدوء ورصانة، وقبل أن يغادر المكان قدم له ملفوفة في وعاء.. وطلب إليه أن يذوقها علي وردها عن فمه، كأنه يلفظ شيئاً معجوناً يريق حبه، أو قيئها وسأله:

ـ ما هذا؟

فأجاب الأشعث:

ـ هي حلواء، يا أمير المؤمنين، من مطاعم العراق، آثرت أن تطعمها.

فانتفض علي من جلسته وصاح به:

ـ ويحك يا أشعث! هي صلة أم زكاة، أم صدقة، فذلك محرم علينا أهل البيت!

فقال الأشعث، وهو هادئ الأنفاس:

ـ لاذا ولا ذاك يا أمير المؤمنين ولكنها هدية! فما زاد هذا التقديم إلا غضباً على عامله وهتف به:

ـ هبلتك الهبول! أعن دين الله أتيتني لتخدعني! أمتخبط أم أصابك جنون أم أنت تهذي؟ أكل رعية أمير المؤمنين تأكل اليوم من هذه الحلواء؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها قشرة شعيرة ما فعلت، إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها.

رد هديتك إليك؟ ليس أمير المؤمنين في حاجة إلى هذا! ما لعلي ولنعيم يفني، ولذة لا تبقى؟

خرج الأشعث مكسوفاً، حاملاً هديته، وهو لا يدري يزن خطاه المترجرجة ويقول بينه وبين نفسه:

ـ أهكذا تحرم المسؤولية أهلها من تذوق النعمة؟!

لقد كانت هذه الفصول تتوالى في أمسية ذلك اليوم.. يوم العيد بينما كانت ابنة أمير المؤمنين وهي فتاة في منطلق العمر وريعان الشباب تسترق النظر  في بيت المال الفارغ إلا من عقد لؤلؤ نفيس كان بريق حباته يشق الظلام.

تأبى عاصفة الأنوثة فيها إلا أن تتمنى أن يكون هذا العقد في عنقها أيام العيد، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

ـ إن عليها أن تستجدي قيّم بيت المال (علي ابن أبي رافع) وتطلب إليه أن يمنحها هذا العقد لتزين به نحرها صبيحة العيد.

ـ آه كم يكون هذا العقد ساطعاً في عنقي! وكم تمتد إليه عيون أترابي، مشتهية حاسدة وكم أكون وحدي بهذا العقد!

انطلقت إلى (علي بن أبي رافع) وطرقت عليه الباب.. فحياها عاجباً من أمرها ومن دخولها عليه في مثل هذا الوقت.

ـ أيه يا بنت أمير المؤمنين، ما أتى بك في مثل هذه الساعة؟

ضحكت الفتاة وعلت خديها حمرة الخجل، وقالت على استحياء:

ـ هل أنت تخجلني يا ابن أبي رافع؟

ـ معاذ الله؟ إن لبنت أمير المؤمنين حقاً علينا! إلا أن يكون في ذلك معصية..

قالت له:

ـ لقد رأيت في بيت المال عقداً من الجوهر.. لمن هو؟

قال:

ـ إنه عقد إحدى بنات كسرى، اغتنمه الغزاة في الجهاد.

ـ ومن يملكه الآن؟

ـ إنه ملك المسلمين كلهم.

ـ حسناً! هل تستطيع أن تعيرني إياه ايام العيد.. أتزين به؟ ولك عليَّ عهد أن أعيده إليك كما هو..

ـ تردينه عارية مردودة بعد أيام العيد؟ ولكن لماذا لا تطلبينه من أبيك وهو صاحب الأمر يعطي ويمنع؟

ـ ولكنك تعلم صرامة أبي.. لا أستطيع أن افاتحه بذلك.

فقال لها:

ـ وماذا يدريني أن أباك ستقع عليه عيناه؟

ـ إنني سأجهد الا يراني أبداً.

ومازلت به، حتى أقنعته بأن يعيرها إياه.

انطلق معها إلى بيت المال، وأخرج العقد، وأخذ منها موثقاً أن تعيده بعد أيام العيد!

نام العقد على نحر بنت أمير المؤمنين، هذه الليلة، وهي لا تصدق أنها تملك العقد الذي طالما تزينت به نحور بنات الأكاسرة.. وهي تحلم بذلك الصباح وتتوسم في تلك الوجوه المشدوهة تعجباً، وفي تلك العيون الحائرة التي تتميز من الحسد بينما أبوها ظل يساهر الليل، وهو يفكر في شأن أخيه وأولاده وفي شأن غيره ممن يأتيهم العيد، وليس عندهم شيء من كسوة العيد وطعامه.

إنه يفكر.. هل يفاتح في خطبة العيد المسلمين بهذا الأمر؟ أنه موضوع جليل يضربه في معنى نزاهة الحكام والولاة ليتخذوا منه مثلاً.

وفي الصباح كان يدلف علي إلى مسجد الرسول وحده، وعيناه ذابلتان من لذع السهر، والهم والتفكير، وارتقى المنبر منبر رسول الله، كأن على رؤوسهم الطير، ولا شك أنهم أدركوا المغزى من هذا الكلام.. ذلك المغزى الذي يحث الناس الأقوياء على مشاركة الضعفاء والأغنياء على مقاسمة الفقراء أفراح العيد، حتى لا يبقى بيت بدون فرحة ولا وجه بدون ابتسامة.

كل ذلك كان يتوالى بينما كانت ابنة أمير المؤمنين تحمل العقد، وترقص فرحاً به، وتهيء جيدها لاعتناق اللآلئ حتى إذا أكملت زينتها خرجت تريد مزدحم النساء، من قريبات وصاحبات وها هي تتمايل تيها وتتباها عجباً وترفع عنقها ليسطع بريق العيد حولها، والبنات يجتمعن به، محدقات في هذا العقد العجيب وهن يسألن:

ـ من أين لك هذا العقد يا بنت أمير المؤمنين؟

ـ يا له من عقد ثمين لم تر المدينة مثله!

ـ يا لها من لآلئ لم تطوق جيد فتاة عربية من قبل..  في بنات المناذرة، ولا بنات غسان.

وهي تضحك وتلهو وتنفر كظبية لعوب.

وقد كان أكثر من فاجأهم هذا المرأى أولاً عقل.. الذين راحت نظراتهم المقلوبة تستنكر هذا المشهد وهم يلقون هذا السؤال بينهم وبين أنفسهم.

ـ أيجوم أولاد عقيل ولا يجدون ما يطعمون في هذا العيد بينما ابنة عمهم تزدهي بعقد الأكاسرة يا للحظ العاثر؟

وإنها لعائدة إلى البيت في المساء، فاجأها ابوها.. فأدارت وجهها عنه مذعورة وهَمَّت بأن تتوارى.

لكنه صاح بها:

ـ ابنتي أين أنت؟ أخوتك كلهم حيوني تحية العيد إلا أنت أبمثل هذه الجفوة تقابلين أباك؟

لت تستطع هذه المرة الافلات من بين يديه، وأحست في داخلها كأن عاصفة توشك أن تهب.

وما أن رآها حتى أجفل كأنما طعنه شيء في قلبه بغته.

ـ ويلك ماذا أرى؟ من أين لك هذا؟

قالت له بلهجة كسيرة:

ـ أبتاه الحق اقول لك.. أنني اشتهيت هذا العقد وراجعت بشأنه قيّم بيت المال على أن يعيرني العقد عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام لأتزين به في العيد.

بعث علي وراء ابن أبي رافع وسأله:

ـ أتخون المسلمين يا ابن أبي رافع؟

ـ معاذ الله أن أخون المسلمين؟

ـ كيف أعطيت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت المال بدون أذني ورضاهم؟

قال: إنها ابنتك وسألتني أن أعيرها العقد تتزين به، فأعرتها إياه عارية مردودة بعد أيام العيد..

فنهره علي وقال له:

ـ رُدَّه الآن إلى موضعه! وإياك أن تعود إلى مثله فتنالك عقوبتي.

والتفت إلى ابنته:

ـ وأنت يا بنيه! لو كنت أخذت العقد على غير عارية مردودة مضمونة لكنت إذن أو هاشمية قطعت يدها في سرقة في الإسلام.

فتناثرت الدموع من عيني الفتاة، وقالت له:

ـ يا أمير المؤمنين هل أنا إلا ابنتك وبضعة منك؟ فمن أحق بلبسه مني؟

فقال لها:

ـ يا بنت أبي طالب لا تذهبي بنفسك عن الحق! أكل نساء المهاجرين والأنصار يتزين في مثل هذا العيد بمثل هذا العقد!

أوت الفتاة إلى فراشها ونامت فريسة أحلام مضطربة، فمن حلم يصورها أسعد فتاة لأنها تتحلى بهذا العقد، ومن حلم مرعب يصور لها أباها، وهو يأمربقطع يدها فتهب مذعورة من نومها فلا ترى إلا الظلام.

وعلي ينام، ولكنه لا يزال قلقاً يفكر ويتساءل:

ـ لماذا لا يشبع الجميع؟ ولماذا لا يكون لكل فتاة عقد تتزين به؟