الشهيد أبو الشهداء علي (كرم الله وجهه)

{ محمّد حسن عبد العزيز }

أتحدث اليوم عن أحد تلاميذ المدرسة المحمدية التي خرجت الصحابة المبرزين، وهو حديث محبب إلى النفس في تطلعاتها التي إلى البطولة والفداء أقدمه إلى شباب أمتي رجاء أن يكون فيه المثل والقدوة حيث يتلمسون المثل والقدوة في بطولة فريدة في شتى مناحيها، ونداء في سبيل الحق والعدل والسلام.

هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، يجتمع نسبه مع النبي عليه الصلاة والسلام في عبد المطلب من ناحية ابيه وفي هاشم من ناحية أمه، فاجتمعت له بذلك خلاصة الصفات والسمات والملامح التي اشتهرت بها تلك الأسرة العظيمة، وهي في جملتها صفات النبل والشجاعة والمروءة والذكاء.

 
ونسبة عز هاشم من أصولها
ومحتدها المرضى أكرم محتد
***
سمت رتبته علياء أعظم بقدرها
ولم تسم إلا بالنبي محمد

 

روى عن أمه رضي الله عنها أنها وهي حامل فيه أنها كانت كلما أرادت أن تسجد لصنم من الأصنام المعبودة قبل الإسلام لم تتمكن، وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً اسلمت وهاجرت.

ولدته أمه داخل البيت الحرام ولم يعرف أحد غيره ولد فيه، ويرى أنها اختارت له يوم مولده اسم ابيها حيدرة أي الأسد، إلا أن اباه اسماه عليا، وبه عرف واشتهر بعد ذلك، زوجه النبي عليه الصلاة والسلام صفوى بناته (فاطمة) رضي الله عنها فلم يتزوج غيرها حتى ماتت.

أنجبت له الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى ومحسناً ورقية وقد أنجب رضي الله عنه خمسة وثلاثون، ثمانية عشر من الذكور وسبعة عشر إناث.

ويقال أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أسماه علياً، ويروى أن أمه فاطمة بنت أسد أنها كانت تسوق هدياً إلى (هبل) فقابلها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يومئذ شاب فقال بها: يا أماه إني أعلمك شيئاً فهل تكتميه علي؟ قالت: نعم. قال: اذهبي بهذا القربان فقولي، كفرت بهبل وآمنت بالله وحده لا شريك له، فقال: أعمل ذلك لما أعلمه من صدقك يا محمّد وفعلت فلما كانت بعد أربعة أشهر تأكل مع النبي عليه الصلاة والسلام ومعهما عمه أبو طالب نظر إليها يسألها ما بها وقد رآها حائلة اللون ثم وجه حديثه إلى أبي طالب: أن كانت حاملاً أنثى فزوجنيها، فقال أبو طالب: إن كان ذكراً فهو عبد لك وإن كانت أنثى فهي لك جارية وزوجة.

فلما وضعت جعلته في غشاوة وقال أبو طالب لا تفتحوها حتى يجيء فيأخذ حقه فجاء النبي عليه الصلاة والسلام ففتح الغشاوة وأخرج منها غلاماً حسناً رفعه بيديه وأسماه علياً.

ولد رضي الله عنه في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل وهو أصغر ابناء أبوه وأكبر منه جعفر وعقيل وطالب بين كل منهم وأخيه عشر سنوات.

ويكنى أبا الحسن وابا الريحانتين وأبا تراب وسبب هذه التسمية الأخيرة أنه كان يضطجع يوماً بالمسجد ولما سأل عنه النبي عليه الصلاة والسلام أخبرته فاطمة بمكانه فخرج إليه فوجد رداءه قد سط عن ظهره وخلص التراب إليه فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يمسح التراب عن ظهره وهو يقول:

أجلس يا أبا تراب، وكررها مرتين.

ويرجع سبب تلقيبه بكرم الله وجهه، ذلك لأنه لم يسجد لصنم قط فقد تربى منذ صغره في حجر النبي عليه الصلاة والسلام فحين أصاب القحط قريشاً أهاب النبي عليه الصلاة والسلام بعميه حمزة والعباس أن يعينا أبا طالب في تلك الأزمة، خصوصاً وأنه كان يتكبد مغارم الرياسة لبني هاشم، فأخذ العباس طالباً وأخذ حمزة جعفراً وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام علياً، واستبقى أبا طالب عقيلاً لأنه كان أحب أولاده وأثرهم عنده.

فعوض إيثار النبي عليه الصلاة والسلام علياً عن إيثار ابيه ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اصعده على منكبيه إلى فوق الكعبة وقال له: ألق صنمهم الأكبر صنم قريش، فضل يعالجه،  ـ حيث كان مصنوعاً من النحاس موتداً بأوتاد من حديد فلما تمكن منه قذف به إلى الأرض فانكسر وعادا قبل أن يراهما أحد من قريش.

كان رضي الله عنه آدم شديد الأدمة، أميل إلى القصر، أسود العينين مع سعتهما حسن الوجه، واضح البشاشة، ضخم البطن عريض المنكبين، غليظ الكفين، تام الخلق نائل العنق ـ كأن عنقه إبريق من الفضة ـ أصلع ليس في رأسه شعر إلا من الخلف كث اللحية لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضاري (المشاش راس العظم) شديد الساعد واليد لا يتبين عضده من ساعده بعيد المشيء يتكفأ في مشيه على نحو يقارب مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شديد القوى، إذا أمسك بذراع رجل فكأنه مسك بنفسه فلا يستطيع التنفس من قوته، أميل إلى السمنة من غير إفراط، إذا مشى إلى الحرب هرول، ثبت الجنان يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، غزير العلم، تنطلق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهوتها ويأنس الليل ووحشته، غزير الدمع، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما خشب، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، شجاعاً، منصوراً على من لاقاه.

واشتهر عنه من قوة جسده أنه كان لا يبالي البرد أو الحر، فلا يتقيد بثياب للصيف أو للشتاء، ولما سئل عن ذلك قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلي، أنا أرمد العين يوم خيبر، فقلت يا رسول الله إني ارمد العين فدعا إلى ربه قائلاً: اللهم اذهب عنه الحر والبرد، فما خشيت حراً ولا برداً منذ يومئذ.

وكان يزحزح الحجر الضخم الذي لا يقوى عليه عدد من الرجال الأشداء ويحمل الباب الكبير الذي عاني في قلبه أربعة رجال، وإذا صاح انخلعت لقوة صوته قلوب الشجعان.

إسلامه:

أسلم وكان سنه يومئذ لا يجاوز الثالث عشر، وكان إسلامه بعد السيدة خديجة وقبل أبو بكر الصديق وكان يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام مستخفياً وقد أنشد في ذلك شعراً يقول:

 
محمّد النبي أخي وصهري
وحمزة الشهداء عمي
***
وبنت محمّد سكني وعرسي
منوط لحمها بدمي ولحمي
***
فويل ثم ويل ثم ويل
لمن يلقى الإله غدا بظلم
***
سبقتكموا إلى الإسلام طفلاً
صغيراً ما بلغت أوان حلمي

ومن البديهي وهو الذي نسأ في كفالة صاحب الدعوة، وتخلق بأخلاقه أن يكون أول الناس استجابة للإسلام، خصوصاً وانه لم يتأثر بالجاهلية وارجاسها ولم يشغله منذ حداثته ما يشغل اترابه ويلهيهم عن الحياة الجادة.

واختلف في سنه عند إسلامه من السادسة إلى السادسة عشرة، ويرجح الأستاذ العقاد إسلامه في نحو العاشرة وهي السنة الذي لا يبلغ فيه الصبي الحلم بعد، لكنه مع ذلك نشأ مبكر النماء سابقاً لأنداده في الفهم والقدرة، وأنه ليصدق في حقه القول بأنه لمسلم الخالص على سجيته المثلى.

إن الإسلام لم يعرف قط من هو أصدق إسلاماً منه ولا أعمق نفاذاً فيه.

أوليات:

فهو أول هاشمي من أبوين هاشميين.

وأول ذكر اسلم هو صبي لم يبلغ الحلم.

وأول من حمل اللواء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة.

كما كان رضي الله عنه أحد كُتّاب الوحي للنبي عليه الصلاة والسلام.

شجاعته:

كان ابن أبي طالب رضي الله عنه فارساً شجاعاً اشتهر عنه أنه كان لا يصارع أحداً إلا صرعه ولذلك نراه واثقاً بنفسه معتزاً بها في غير عجب ولا خيلاء ولا زهو وإنّما هي شجاعة الفارس.

وسأتناول في هذا الباب الأحداث التي حدثت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام.

فدائية ليلة الهجرة:

لما يئس المشركون من النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينجح معه أسلوب المهادنة والملاينة والمساومة ولا أسلوب الصد ولا التهديد والتعذيب، أشتد غيظهم أن وجدوا الإسلام ينتشر في بلدهم وخارج بلدهم، ولم يبق بمكنة إلا من حبس وفتن فقد هاجر المسلمون إلى المدينة يتلمسون فيها الطمأنينة والأمن على أنفسهم وعلى دينهم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينتظر أمر ربه، في هذه الأثناء بلغ الحقد ذروته ونشط رؤوس الكفر يدبرون أمرهم، ويقطعون رأيهم بقتل محمّد عليه الصلاة والسلام قبل أن يلحق بأصحابه ويفلت الزمام من أيديهم واستقر الرأي أن يجمعوا من كل قبيلة شاباً نسيباً جلداً، يعطون كلاً منهم سيفاً يتربصون به ليلاً وفي جنح الظلام ينقضون عليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيستريحون منه ومن دينه وفي نفس الوقت لا يقدر بنو عبد مناف على عداء قومهم جمعياً.

وجاء جبريل عليه السلام يخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما أجمعوا عليه ويبلغه أمر الله تعالى له بالهجرة وأسند النبي إلى علي مهمة هي جد خطيرة لا يقوم لها ممن يسترخص ذات في سبيل الدين، إلا شاب نشأ في طاعة الله وطاعة نبيه، وشجاع لا يرهب عدواً مهما تكن قوته وجبروته، ونام الشاب الفدائي في فراش النبي عليه الصلاة والسلام وتغطى ببرده الحضرمي الأخضر، وهو يعلم أن المؤتمرين المتربصين خارج الدار سيقتلون النائم فوق هذا الفراش.

وقد أنشد في هذه المناسبة هذه الأبيات:

 
فديت بنفسي خير من وطئ الثرى
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
***
رسول إله خاف أن يمكروا به
فنجاه ذو الطول الإله من المكر
***
وبات رسول الله في الغار آمناً
موقى من الله المهيمن في ستر
***
وبت أراعيهم وما يثبتونني
موطنة نفسي على القتل والأسر

ويرى أن الله تعالى أوحى إلى جبريل وميكائيل أن أنزلا على علي واحرساه هذه الليلة إلى الصباح، فنزلا إليه وهما يقولان: بخ بخ من مثلك يا علي قد باهى الله به ملائكته.

وفي كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: أن الله تعالى أوحى إلى جبريل وميكائيل إنّي آخيت بينكما وجعلت عُمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة. فاختار كل منهما الحياة.

فأوحى الله تعالى إليه، أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة فأهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي فيقول: بخ بخ.. من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك ملائكته فأنزل الله عزوجل (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد).

بطولة ندر أن يحدث مثلها وشجاعة يقف التاريخ أمامها مبهوراً وشهادة لابن أبي طالب يفاخر بها الإسلام ومثل يحتذي به المؤمنون.

يوم بدر:

في هذه الغزوة الفاصلة بين قوى البغي والعدوان بين الإسلام وهو يدافع عن مبادئه وقريش تريد فرض باطلها بقوة السلاح، وتحت أحداث بطولية لا يمل التاريخ ذكرها خرج من صفوف قريش ثلاثة من أبرز فرسانها هم (عقبة بن ربيعة، وولداه الوليد وشيبة) يطالبون لأكفائهم فخرج إليهم  من صفوف المسلمين معاذ بن الحارث وأخواه معوذ وعوف وهم من الأنصار فرفضوا مبارزتهم وقالوا لهم، ارجعوا فما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم يا محمّد أخرج لنا أكفاءنا من قومنا، فأخرج لهم النبي عليه الصلاة والسلام عمه حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب والتحم الفريقان، واتجه علي رضوان الله عليه إلى الوليد فنازله فأرداه قتيلاً، أما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله بعد أن جالده طويلاً، ونازل عبيدة عقبة وضلا يتصاولان حتى جرح كل منهما الآخر، فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عقبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما فجاؤوا به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأفرشه الرسول قدمه، قال عبيدة: لو كان أبو طالب حياً لعلم أنني أقررت عينه وأني أحق بقوله:

 
كذبتم وبيت الله نحضر مهربا
ولما نطا من دونه ونناضل
***
ونسلمه حتى نصرع دونه
ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وقد أجمع على أن جملة من قتل من المشركين في هذه الغزوة سبعون رجلاً، وأن علياً قتل منهم واحداً وعشرين، تسعة باتفاق الناقلين وأربعة شاركه فيهم غيره وثمانية اختلف فيهم.

وقد انقطع النبي عليه الصلاة والسلام عن أصحابه من أجل علي بن أبي طالب لما وجده مصاباً في بطنه، وشهد رضوان الله عليه المشاهد كلها لم يختلف إلا في تبوك خلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أهله، ولكنه مع ذلك حاز سهم جبريل فقد روى أن النبي عليه الصلاة والسلام جلس يقسم أموال المشركين ورقابهم، فجعل يقسم السهام على المسلمين سهماً سمهماً، ثم دفع إلى علي بسهمين فقام رائد ابن الأكوع وقال: يا رسول الله: أوحي نزل من السماء أم أمر من نفسك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أنشدكم الله، هل رأيتهم في رأس ميمانتكم صاحب الفرس الأغر؟ (أي الذي بجبهته غرة) المحجل ـ من الخيل الذي في قوائمه بياض ـ والعمامة الخضراء لها ذؤابتان مرخيّتان على كتفيه بيديه حربة قد حمل بها على الميمنة فأزالها وحمل على الميسرة فأزالها وحمل على القلب فأزاله قالوا نعم قد رأينا ذلك، قال: هو جبريل إنه أمرني أن أدفع سهمه لعلي.

يوم أحد:

خالف الرماة أوامر النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد أوصاهم ألا لا يتركوا موقعهم فوق الجبل سواء أكانت الغلبة للمسلمين أو عليهم فتركوا أماكنهم يبغون نصيباً من الأسلاب بعد أن رأوا هزيمة المشركين وفرارهم من الميدان واستطاع المشركون بقيادة خالد بن الوليد أن ينفذوا من هذه الثغرة فاستداروا بخيلهم واحتلوا موقعهم فوق الجبل ثم انهالوا على المسلمين بالنبل، فانفض الناس من حول النبي عليه الصلاة والسلام من هول الموقف ولم يلبث إلا نفر قليل من بينهم علي بن أبي طالب.

ويروى في هذا اليوم أن طلحة بن أبي طلحة ـ حامل لواء المشركين ـ صاح بأعلى صوته يطلب مبارزاً، وهو يقول: يا أصحاب محمّد تزعمون أن الله تعجلنا بأسيافكم إلى النار وأن الله تعجلكم بأسيافنا إلى الجنة، فأيكم يبرز إلي؟ فبرز إليه علي ابن أبي طالب قائلاً: والله لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار، واشتبكا معاً فخلى منه علي بن أبي طالب ثم ضربه على رجله فقطعها فسقط على الأرض، وعندما هَمَّ بالإجهاز عليه، ناشده طلحة بالله وبالرحمة فتركه، وتلك لا شك من شيمة الفرسان حيث يؤثرون العطف في مواقف العبرة والتأمل.

وقد أصيب رضوان الله عليه في هذه الموقعة بست عشرة ضربة سقط على الأرض في أربعة منها، ويروي أنه كان يأتيه في كل مرّة رجل حسن الوجه، طيب الريح، يأخذ بيده حتى يقف فيقول له: أقبل عليهم فإنك في طاعة الله ورسوله، وهما عنك راضيان، ولما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قال: له: يا علي أقر الله عينك ذاك جبريل.

في غزوة الخندق:

برز في هذه الغزوة عمرو بن ود فارس الجزيرة العربية الذي يساوي عن أصحابه وأعدائه ألف رجل لقوته ومهارته في استعمال سيفه، ونادى بأعلى صوته أن يخرج إليه من يبارزه فطلب علي بن أبي طالب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يأذن له فلم يأذن له في البداية خوفاً عليه، فلما رأى نمه إلحاحاً شديداً نزع عمامته من على رأسه وعممه بها وقال له:

أمض لشأنك فبرز إليه لكنه استصغره في نظره، فقال له: يا ابن أخي من أعمامك من هو اسن منك وأني أكره أن أريق دمك، وكأنه يهزأ به، فقال له علي: وهو واثق بنفسه: (لكني والله لا أكره أن أريق دمك، فغضب عمرو وهوى بسيفه كأنه شعلة نار فاستقبله علي رضوان الله عليه وظل يصاوله فما انجلى عنه إلا وعمرو صريعاً ولسانه يردد الله أكبر، الله أكبر.. ثم كرّ على ابنه (سهيل بن عمرو) فقتله.

وقد كان لمقتل قائد قريش أكبر الأثر في إضعاف روحهم المعنوية وهزيمتهم هزيمة منكرة بعد أن راوا ماحلّ بفارسهم وسيدهم، ولما علمت أُخت عمرو بمقتله سالت عن قاتله، فقيل لها: علي بن أبي طالب. فقالت: كفؤ كريم أما أمه فإنها افتخرت بأن يكون قاتل ولدها هو السيد العظيم فأنشدت تقول:

 
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبداً ما دمت في الأبد
***
لكن قاتله من لا نظير له
وكان يدعى أبوه بيضة البلد

ولعل تلك شهادة من خصم يكنُّ له العداء ويحقد عليه وكأن أمه رأت في عظمة قاتل ولدها تسلية وعزاء.

صاحب الجهاد في سبيل الله:

نقل الواحدي في كتابه المسمى بأسباب النزول أن الشعبي والقرطبي قالوا: أن علياً رضي الله عنه والعباس وطلحة بن شيبة افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت مفتاحه بيدي ولو شئت كنت فيه، وقال العباس: وأنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال علي: لا أدري لقد صليت ستة أشهر قبل الناس. وأنا صاحب الجهاد في سبيل الله فأنزل الله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) إلى قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون).

وزير النبي وولي الله ورسوله والمؤمنين:

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً من الأيام الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يديه إلى السماء وقال: اللهم أشهد أني سألت في مسجد نبيك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعطني أحد شيئاً.

وكان علي رضي الله عنه في الصلاة راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وفيها خاتم فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طرفه إلى السماء وقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري، فلما استتم دعاءه نزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمّد اقرأ.. "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون".

زهده وجوده:

كان رضي الله تعالى عنه عزوفاً عن متاع الدنيا، رجاء متاع الآخرة، ويروى أن عقبة بن علقمة دخل عليه يوماً وهو أمير المؤمنين فوجده يأكل لبناً حامضاً وكسرات يابسة فقال له: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال له: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا ـ وأشار إلى ثيابه ـ فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به.

ونقل الواحدي في تفسيره يرفعه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان مع علي رضي الله عنه اربعة دارهم لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية.. فأنزل الله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

ثلاث لم يعطها غيره:

روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه: يا علي أعطيت ثلاثاً لم يعطها أحد غيرك، صهراً مثلي، وزوجة مثل فاطمة وولدين مثل الحسن والحسين.

ذو الأذن الواعية:

نزل قول الله تعالى: وتعيها أذن واعية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، فكان رضي الله عنه لا يسمع كلاماً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا حفظه ورعاه. وقد بلغت رواياته 536 حديثاً.

أخو النبي عليه الصلاة والسلام:

آخى النبي عليه الصلاة والسلام بين أصحابه فجاءه علي وعيناه تدمعان فقال يا رسول الله: آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أنت أخي في الدنيا والآخرة.

أقضى الصحابة:

عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أقاضكم علي)  وسبب ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالساً يوماً مع جماعة من الصحابة فجاءه خصمان قال أحدهما: يا رسول الله أن لي حماراً وأن لهذا بقرة، وأن بقرته قتلت حماري فقال أحد الحاضرين (لا ضمان على البهائم) فأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى علي ليقضي بينهما فسألهما: أكانا مرسلين أم مشدودين أم أحدهما مشدوداً والآخر مرسلاً؟ واستبان له أن الحمار كان مشدوداً والبقرة مرسلة وصاحبها معها فقال علي: صاحب البقرة ضامن للحمار وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.

ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه قاضياً إلى اليمن، فقال: يا رسول الله: ما أدرى بالقضاء فمسح النبي على صدره وقال: اللهم أهد قلبه وسدد لسانه قال علي: فو الله ما شككت بعدها في قضاء قضيت بين اثنين.

وكان هو أمير المؤمنين يحتكم إلى القاضي شأنه في ذلك شأن رجل من عامة الناس، وجد درعه يوماً عند رجل نصراني، فذهب إلى شريح ـ قاضيه ـ وقال أنها درعي ولم أبع ولم أهب، فسأل القاضي الرجل النصراني فيما يقول أمير المؤمنين فقال أنها درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إليه يسأله عن بينة فضحك وقال: أصاب شريح مالي بينه.. فقضى بالدرع لنصراني فأخذها ومشى بضع خطوات ثم عاد يقول: أما أنا فاشهد أن هذه أحكام انبياء، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّداً عبده ورسوله والدرع والله درعك يا أمير المؤمنين.

باب مدينة العلم:

روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه).

ووصفه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأته من بابه).

ووصفه عليه الصلاة والسلام في حديث آخر بيعسوب المؤمنين وزرا الأرض، واليعسوب في عالم النحل هو أميرها الذي تنقاد إليه بمصالحها، ويرجع إليه في أمورها أما رزا الأرض بمعنى صوت الأرض أو الرجل المنفرد الوحيد.

من مأثورات قوله:

في علامة الإيمان: أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك في حديثك فضل على علمك وأن تتقى الله في حديث غيرك.

في الحق: (لا تعرف الحق بالرجال، اعراف الحق تعرف أهله).

في المناجاة: (كفاني عزاً أن تكون لي رباً وكفاني فخراً أن أكون لك عبداً أنت لي كما أحب فقني لما تحب).

في العلم: (المرء مخبوء تحت لسانه فتكلموا تعرفوا، ما ضاع امرء عرف قدره، لا تنظر إلى من قال ولكن أنظر إلى ما قال، قيمة كل امرئ ما يحسنه).

ثنائيات: (لا ظفر مع البغي، لا ثناء مع الكبر، لا بر مع الشح، لا صحة مع الهم، لا شرف مع سوء الأدب، لا اجتناب لمحرم مع الحرص، لا راحة مع الحسد، لا محبة مع المراء، لا صواب مع ترك المشورة، ولا مروءة مع الكذب، لا وفاء لملول.

ما قيل في حقه:

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيه: (أزهد الناس في الناس علي بن أبي طالب) ولعل تلك شهادة واحد من أسرة كانت تحصي عليه سيئاته وترفض حسناته.

وقال عبد الله بن مسعود: (أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لولا علي لهلك عمر).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لقد أعطى علي ابن أبي طالب تسعة اعشار العلم وأيم الله، لقد شارككم في العشر العاشر).

أنبأه النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيموت مقتولاً فقال له: (إنك ستضرب ضربه هاهنا) وأشار إلى رأسه فيسيل دمها حتى تخضب لحيتك.

تأمر ثلاثة من الخوارج على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص (هم عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله التميمي وعمر بن بكر التميمي) ونجا من القتل معاوية وعمرو وأصيب الإمام بضربة من عبد الرحمن بن ملجم في رأسه بقي بعدها ليلتين حتى مات في يوم الأحد لخمس عشرة ليلة قد خلت من شهر رمضان سنة أربعين.

ويوم أصابته استدعى ولديه الحسن والحسين رضي الله عنهما وقال لهما: (أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا ولا تأسفا على شيء فاتكما منها، أعملا الخير وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، ثم دعا ولده محمداً وقال له: أما سمعت ما أوصيت به أخويك قال بلى: فأني أوصيك به وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما ولا تقطع أمراً دونهما، ثم وجه حديثه إلى الحسن والحسين، قائلاًن أوصيكما به خيراً فإنه أخوكما وابن أبيكما وانتما تعلمان أن أباكما كان يحبه فأحباه.

ثم طلب إحضار القاتل بين يديه، فنظر إليه ثم قال: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمت رأيت رأيي فيه.

ولما حضرته الوفاة نادى ابنه الحسن وقال له: أبصر ضاربي فأطعمه من طعامي واسقه من شرابي فإن عشت فأنا أولى بحقي، وإن أنا مت فاضربوه ولا تمثلوا به فإني سمعت رسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تغالوا في الأكفان، وامشوا بين المشيعين فإن خيراً عجلتموني إليه، وإن شراً القيتموني عن أكتافكم يا بني عبد المطلب، لا الفيتكم تريقون دماء المسلمين بعدي، تقولون قتلتهم أمير المؤمنين فلما مات جيء بابن ملجم فقتل تنفيذاً لأمر الإمام.

تلك كلمة يسيرة عن رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووقاه بنفسه، وكفاه شهادة أن الله تعالى أوحى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام في علي ليلة أسرى به بأنه سيد المؤمنين وأمام المتقين وقائد الغر المحجلين.

وكفاه أيضاً أنه أحد كتاب الوحي وأن الجنة تشتاق إليه وهو فيها يزهو ككوكب الصبح لأهل الدنيا.

وما أردت بما كتبت إلا وجه الله تعالى: ورضاء نبيه عليه الصلاة والسلام وحبا في آل بيته الأبرار وأن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ألقى السمع وهو شهيد. صدق الله العظيم.

"منبر الإسلام، القاهرة العدد2 السنة 29، صفر 1391هـ ـ نيسان 1971م".