من الأدب السياسي الاسلامي : دراسة في وثيقة علوية

{ علي الجمبلاطي / مصر }

نشأت الدولة الإسلامية كدولة (مكرمة وعقيدة) بهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وبتوطيده للأسس التي سترتكز عليها الدولة الإسلامية الناشئة فور وصوله عليه السلام إلى أرض الحياة الجديدة.

وكان الرسول إلى جانب كونه قائد دين ـ قائد حياة .. فالإسلام في طبيعته لا يعرف ذلك الفصل القاتل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية ولم يك دور الرسول عليه السلام إلا تعميقاً لهذه الطبيعة وإبرازاً حياً لها.

وسارت الحياة بعد الرسول فسارت معها الدولة الإسلامية تستلهم وتستقي منه طريقها إلى الحياة المتحضرة وإلى تحقيق كرامتها العالمية، وهي أبداً لم تحاول التسول من أية حضارة ومعاصرة متفوقة بل من دينها وحده وضعت منهج حياتها بانية هذا المنهج الحياتي على الاستقلال وعلى تحقيق العدالة البشرية التي افتقدها طريق الإنسان ردحاً طويلاً..

لقد فهم الفكر الإسلامي السياسي أكبر قانون حضاري يسقط في فهمه كثير من بناة الحضارات وزعماء الدولة لقد فهموا أن التبعية الروحية التي تبدأ بالإعجاب لا تستطيع أن تخلق قيادات حضارية تقف في الصفوف الأول، بل هي قادرة على خلق شعوب متسولة تصلح للاستيراد لا الابتكار، ومن هنا راح الفكر الإسلامي يرفض الكسروية والقيصرية، ويسخر كل منهما وكشف خداعهما وظلمهما المدمر للقطيع البشري ومن هنا كذلك راح هذا الفكر يبني نظرية إسلامية سياسة تنبع من نفس الإطار الإسلامي العام وتحقق أهدافه العامة ـ ثم أهداف السياسة الراشدة الخاصة.

وظهر الفكر السياسي الإسلامي واضحاً مرتكزاً على مبادئ العدل والشورى وطبقه الرسول عليه السلام في حياته وسار على نهجه من بعده الخلفاء والراشدون والكرام، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولئن كان الطريق قد بدأ بعد علي ينحرف عن الطريق التي رسمها الإسلام قليلاً أو كثيراً فلقد بقي الفكر الإسلامي يؤكد على امتداد التاريخ الإسلامي أعماق النظرية الإسلامية السياسية وتتابعت الدراسات التي توضح أبعاد هذه النظرية.

ووجد المسلمون في تراثهم (الأحكام السلطانية) للماوردي، وأدب الدنيا والدين للماوردي أيضاً، ومقالات الإسلاميين للأشعري وسلوك الممالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، وإحياء علوم الدين ـ إلى آخره.. وجدوا هذا التراث يوضح لهم أبعاد نظريتهم السياسية المستقاة من كتابهم الكريم وسنة نبيهم القولية والفعلية وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، ولا يزال المسلمون يستلهمون هذا التراث ويتمنون من أعماقهم ذلك اليوم الذي يهدونه للبشرية عملاً حياً وكائناً يتحرك على الأرض وإن هذا اليوم لقريب بإذن الله.

موضوع دراستنا:

والوثيقة التي نتناولها اليوم بالدراسة هي إحدى الوثائق السياسية الأدبية التي أمددنا بها تراثنا العظيم والوثيقة تلك التي تربو على الثلاثين صفحة في كتاب نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه وحققه الشيخ الإمام محمّد عبده، هذه الوثيقة تكشف بجلاء عن الدعائم العامة الكلية التي انبنى عليها الفكر السياسي الإسلامي، وهي إلى جانب هذا تكشف لنا الطريقة الديبلوماسية المثلى التي كانت تنهجها السياسة الإسلامية، فهذه الديبلوماسية لم تقف أقدامها على أرض الشكليات والمظهريات ولم تعتمد على السلطة المتجبرة التي تحدث نوعاً من الانفصام بين جهاز الحكم وقطاع الجماهير.

والوثيقة إلى جانب هذا وذاك تنطلق من دائرة الفكر الإسلامي وتترجم عن روحه وطبيعته، فهذا الفكر ـ وبالتالي الوثيقة  ـ لم يرتكز في كل منطلقاته الفكرية على الإنسان وحده ككائن منعزل عن القوة الإلهية العليا بل إن هذا الفكر قد انطلق من جانب هذه القوة وحدها ثقة منه بأن هذه القوة هي العليمة بالإنسان وهي اللطيفة به والقادرة على الهيمنة على كل شؤونه.

والوثيقة لا تقف في قيمتها عند هذه الحدود، وإنّما تتعدى ذلك إلى كونها نمطاً من الأدب السياسي أبان فيه الإمام (علي) عن ملكة فريدة تعرف كيف تجمع بين الأسلوب الأدبي والمضمون السياسي وفي الوقت نفسه تمزج ذلك بنفثات الروح وخلجات النفس وتمر بك العاصفة الدينية والضمير الخلقي.

مع الوثيقة:

الوثيقة كتاب سياسي كتبه خليفة هو الإمام (علي) لأحد ولاته وهو (الأشتر النخعي) حين ولاه أمر مصر بعد أن اضطرب أمر محمّد بن أبي بكر فيها:

(هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها..).

بهذا يستهل الإمام علي كتابه، وبهذه البداية نستطيع أن نمسك بأول خيوط هذه الوثيقة، فإن الوالي في السياسة الإسلامية لا يناط به إذلال الشعوب التي ينتدب لحكمها ولا يراد منه العمل على تأخير هذه الشعوب وجعلها مجرد تابع ذليل لكل تقدم الشعوب الغالبة.. لا .. فالسياسة الإسلامية بينما ترى أنه لابد من جباية الخراج باعتبار المال أو الناحية الاقتصادية الدعامة الأولى في نجاح كل المشروعات وتحقيق كل آمال البلد في التقدم والرفاهية بينما ترى هذا.. ترى في الوقت نفسه أن هذا المال لابد أن يسخّر أولاً وقبل كل شيء في خدمة الناس الذين بذلوه وعانوا ما عانوا في سبيل كسبه.. أي بإيجاز في جهاد عدوها واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها..

ونعرج الآن على دراسة الوثيقة دراسة تفصيلية تكشف قدر الاستطاعة عن الأصول السياسية التي وضعها الإمام علي من خلال سطور هذه الرسالة، وترجم بها في الوقت نفسه عن علو نفسه وحسن فهمه لطبيعة هذا الدين في كل شؤون الحياة..

وفي البداية لا ينسى الإمام الأصل الإسلامي الذي به تنجح كل شؤون الدنيا وينجح به كل راع أو كل مسؤول عن قطاع من قطاعات الحياة صغر هذا القطاع أم كبر.

لقد أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه وأن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله.

ثمّ اعلم يا مالك، أنّي قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأنّ النّاس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنّما يستدلّ على الصّالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده.

دراسة في وثيقة علوية:

لكن الإمام وهو يلفت نظر واليّه إلى هذا الملحظ التاريخي الذي ينساه كثير من الناس يلفت نظره كذلك إلى دائرة المجتمع البشري الذي مهما اختلفت ملامحه فإنه يتفق في عديد من الخصائص، ومن هنا فإن موقف الناس من الرعاة لا يختلف كثيراً أو قليلاً إلا باختلاف معاملة الراعي لهم، وهذا يلقى على الراعي وعلى آلامهم وآمالهم.

وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم واللّطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزّلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولّاك وقد استكفاك (طلب منك كفاية) أمرهم، وابتلاك بهم.

وتعميقاً لنفس المعنى الاجتماعي الذي يحاول الإمام علي غرسه في نفس واليّه الأشتر، وإفهامها منه للوالي ببعض ما يمكن أن يطرأ عليه من أمراض مثل هذه المناصب.. تحقيقاً لهذا وغيره يستطرد الإمام فينبه الأشتر إلى وجوب اخضاع نفسه لله وللناس وهو يدق سمعه بهذه الكلمات الطيبة المدوية:

(إيّاك ومساماة الله في عظمته، ـ أي مباراته في سموه ورفعته ـ والتّشبّه به في جبروته، فإنّ الله يذلّ كلّ جبّار، ويهين كلّ مختال، أنصف الله وأنصف النّاس من نفسك، ومن خاصّة أهلك ومن لك فيه هوىً من رعيّتك ـ أي لك إليه ميل خاص ـ   فإنّك ألّا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجّته (أبطل حجته) وكان لله حرباً حتّى ينزع ويتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظّالمين بالمرصاد).

وعندما يصل الإمام مع واليّه  إلى هذا الحد، أي إلى إرساء الدعامة الكبرى للحكم وهي خشية الله وارتئاب يوم المثول أمامه والإنصاف بالتالي من النفس والتحكم في الأهواء والرغبات الخاصة.

وعندما يطمئن الإمام ـ كذلك ـ إلى دعم المعنى الدوري للتاريخ وإيقاف الإنسان أمام حقيقته الأزلية وهي أنه مجرد شارة على الطريق يعبرها قطار الحياة فتتحول إلى ماض يحاسب على حسناته وسيئاته، عند هذا ينتقل الإمام إلى وضع اسس عامة يرى الإمام أنها الضمان لتحقيق العدل وإبعاد المؤثرات عن النفس وتخلية الإنسان أمام ضميره ليتمكن من الوصول إلى العدل المطلق دون انحراف أو تحيز، ويمكن أن نصوغ هذه الأسس على هذا النحو:

أولاً: تحقيق الموضوعية والحياد في النظرة إلى الأمور والآراء الوسطية.. وهو يقول في هذا الصدد مخاطباً وأعمقها ي العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة مجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة رضى الجماهير المكافحة ـ ولو على حساب أصحاب الجاه والمال.

ثانياً: نبذ عصابات السوء وجمهرة المنافقين.. فهؤلاء هم الذين أودوا في الحقيقة بالعدل على الأرض وحولوا الملوك البشر إلى فراعنة متألهين: وليكن أبعد منك وأشذاهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور ولا حريصاً يزين الشره بالخور.

ثالثاً: إعطاء كل إنسان مكانه اللائق به، خيراً كان هذا المكان أو شراً، بحيث يشعر المحسن بأنه سيأخذ حقه والمسيء بأنه سيلقى جزاءه.

ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، والزم كلام منهم ما ألزم نفسه.

رابعاً: احترام تقاليد الناس وتراثهم، ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية.

خامساً: الاستعانة بأولي الرأي وأهل الخبرة والفضل ـ كمجلس استشاري ـ والإمام يتولى في

هذا: وأكثر مدارسه العلماء ومنافثة (محادثة) العقلاء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك.

ويبدأ الإمام علي رضي الله عنه بعد ذكره لهذه الأسس الخمسة في وصف طبقات المجتمع وصفاً تشريحياً يعتمد على  التقسيم الاجتماعي لتركيب المجتمع من زاوية وظيفة كل طبقة والطريقة الواجب على الحاكم مراعاتها في معاملتها، لكن أمر هذا التشريح الاجتماعي بطول، وهو ما سنتحدث عنه الآن:

يتناول الإمام في هذا الجزء من وصيته للأشتر النخعي ـ واليّه على مصر ـ طبقات الأمة، وبعد أن يقدم الإمام علي تحديداً وافياً لطبقات الأمة ويبين أن هذه الطبقات (لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض أي أنها متعاونة لكل منها دوره الذي يخدم الآخرين، وهكذا تفعل الطبقات الأخرى نحو البناء الاجتماعي كله.

بعد هذا يقدم الإمام علي إلى الأشتر مجموعة من القواعد النفسية والاجتماعية يمهد بها لذكر القواعد التي يجب أن تراعى من جانب الحاكم في حكم الناس.

والقواعد الاجتماعية والنفسية التي يمهد بها الإمام علي قواعد ضرورية لحفظ الحاكم نفسه من أن يستبد بعقله ومزاجه طائفة خاصة تحجبه عن شعبه، وقد علمنا التاريخ أن جل حكام الدنيا يأتون إلى الحكم بصحائف بيضاء ونوايا طاغية، وإذا الشعب قد أصبح في واد وأصبح الحاكم في واد آخر، يقول الإمام علي للأشتر:

(ثمّ ألصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصّالحة والسّوابق الحسنة، ثمّ أهل النّجدة والشّجاعة والسّخاء والسّماحة، فإنّهم جماع من الكرم وشعب من العرف (أي المعروف) ثمّ تفقّد من أمورهم ما يتفقّده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمنّ في نفسك شيء قوّيتهم به (أي لا تستكثر شيئاً عليهم) ولا تحرقنّ لطفاً تعاهدتهم به وإن قلّ، فإنّه داعية لهم إلى بذل النّصيحة لك، وحسن الظّنّ بك..

لكن الإمام علياً لا يقف عند هذا الحد من حمايته للسلطان من المواكب المنافقة التي لا دين لها ولا خلق وإنّما يتعدى ذلك إلى امره بأن يجيد اختيار العناصر التي تعمل معه، وأن يكون أساس اختيار العناصر العاملة قائماً على مدى حب هذه العناصر للجماهير، وعلى مدى قدرتها ورغبتها الذاتية في حل مشاكل الجماهير وعلى حرصها على خدمتها وتفهم مشاكلها فإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودة الرعية، ولتحقيق هذا المعنى الذي ذكره الإمام علي ـ كما نقلناه من نص كتابه يتوجه إلى الأشتر بهذه الكلمات:

(وليكن رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك..)

وأخيراً في مجال التربية النفسية والاجتماعية للحكم يجب أن يعلم الحاكم أن طاقته البشرية محدودة، وأن ثمة طرقاً عديدة يمكن أن يؤتى منها ولذا فإن عليه مع كل حذره وتحوطه أن يستعين بالله وأن يستهديه ويستلهمه وأن يرد إليه ما أشكل عليه من أمور:

(واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله تعالى لقوم أحبّ إرشادهم: يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول).

وبهذا يمهد الإمام علي لأحكامه التي يراها أصلح في الحكم وأحرى بأن يترسمها الذين يولون شيئاً من أمور المسلمين، وهو بهذا التمهيد قد خلق المناخ النفسي الملائم لتقبل قواعد الحكم وليس مجرد التقبل هو محور الأمور، وإنّما هو التنفيذ العملي لهذه القواعد وقيادة الناس على أساسها.

ونبدأ في ذكر هذه القواعد بالقاعدة الأولى التي نوافق الإمام علياً على أنها سنام الأمر كله.. وهذه القاعدة هي قاعدة الاختيار فإذا تمكن الخليفة أو الحاكم عموماً من اختيار العناصر الصالحة الكفء، أي بتعبير العصر العناصر الصالحة في المكان المناسب، وإذا هو راعى في الذين يختارهم الشروط المؤهلة للقيادة بكامل أبعادها أي شروط العقل والخلق والدين وغيرها، إذا هو راعى هذا فإنه يكون قد بدأ سيره على الطريق السليم، وما عليه إلا أن يتقدم مطمئناً إلى الأمام يقول الإمام ع لي حول هذه القاعدة الأولى:

(اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك، ممّن تضيق به الأمور ولا تمحّكه الخصوم (أي لا تجعله يغضب) ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ـ أي لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق ـ، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشّبهات وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الأمور وأحرصهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزهده إطراء ولا يستميله إغراء أولئك قليل).

وليلاحظ أن الإمام يركز هذا الحديث ـ في هذه القاعدة ـ على القضاة الذين يحكمون بين الناس سواء قضاة المحاكم بالمفهوم الموجود الإسلامي كانت منوطة بمستويات متعددة.

والإمام بعد ذلك يلزم الوالي بأن يحفظ ماء وجه هؤلاء الحكام بما يغنيهم عن الناس غناء كبيراً حتى لا تنازعهم نفوسهم بالسقوط، وهذا كما نعلم مبدأ تجمع الإنسانية الآن على ضرورته فلا مجال لعلم ولا عقل ولا عدل دون أن تكتفي حاجات الإنسان الأساسية.

وفي تدرج أدبي رفيع ينتقل الإمام إلى الشرط الثاني الذي يجب أن يحافظ الحاكم في حكمه، وهذا الشرط الثاني أو هذه القاعدة الثانية، يمكن أن نسميها اختبار الولاة، فإنه لا يكفي أن يختار الحاكم عملاء صالحين، بل عليه أن يتوخى أعمالهم.

وصدق الله العظيم بتقلب القلوب في قوله: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) وقبل علي رض الله عنه فهم عمر رضي الله عنه فكان يقول للناس كلاماً معناه أرأيتم لو اخترت لكم أفضل من أعرف ثم وليته عليكم، أكنت قمت بالذي عليّ. فكانوا يقولون نعم.. فيقول لهم: لا حتى أعرف هل مشى بما عهدته أم لا.

ولا عجب أن يلتقي عمر وعلي فكلاهما انبثاقة لقاعدة واحدة من القرآن الكريم والإمام علي يقول في هذا المعنى:

(وانظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختباراً ولا تولّهم محاباةً وأثرةً فإنّهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التّجربة والحياة، من أهل البيوتات الصّالحة، والقدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقاً، وأصحّ أعراضاً، وأقلّ في المطامح إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثمّ أسبغ عليهم الأرزاق فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنىً لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجّة عليهم أن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ثمّ تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم)

وقاعدة الحكم الثالثة التي يراها الإمام علي مكملة لمعنى العدل والتقدم، هي أن ينظر الوالي بعين فاحصة في أمور المال باعتبار المال اساس العمران أو باعتباره على الأقل وسيلة تحقيق رفاهية المجتمع وضمان بناء أهدافه ومشروعاته وتوفير الأمن له، وليس للوالي كما قد يفهم من هذا ـ أن ينظر في أمر جباية المال من الناس دون أن يهتم بمشاريع العمران وأدوات الرزق كالمصارف والقنوات وأدوات الصناعة والزراعة وغيرها، فإن هذا يعتبر خروجاً على قانون الله ونوعاً من الإرهاق ويؤدي بالتالي إلى كساد وبوار.. وليس الأمر هكذا ـ وحسب ـ بل على الوالي أن يراعي الجانب الإنساني في معاملته لهم، فإذا حدثت نكسة ما مثلاً في الزراعة أو أي وسيلة من وسائل الرزق ـ خفف عنهم الضرائب وواساهم قدر ما يستطيع.

والإمام العظيم يقول في هذا الصدد:

(وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ولا صلاح لمن سواهم إلّا بهم لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً فإن شكوا ثقلاً أو علّةً أو انقطاع شرب أو بالّة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم).

وهكذا بمثل هذه الإنسانية ينظر الإمام علي إلى الحكم فليس تسلطاً ولا اعتداء ولا ارهاقاً للبشر وإنّما هو تنظيم للوجود الإنساني وللطاقة الإنسانية كلي تؤدي وظيفتها دون أن تفقد معنى وجودها.

وينتقل الإمام إلى القاعدة الرابعة من القواعد التي وضعتها مستخلصة ـ بلا ريب ـ من فهمه للإسلام ومن تربيته في بيت النبوة وفي حجر الرسول عليه السلام.

وهذه القاعد تعنى أول ما تعنى لفت نظر الحاكم إلى كيفية حفظ السر فلا شك في أن لكل دولة أسرارها ولابد من الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان.

وظروف الدولة وميادين نشاطها متشعبة فلابد لها من الاستعانة بالرجال وهذا يؤدي إلى توزيع المسؤولية وإلى إمكانية تسرب الأسرار ولهذا لابد من اختيار رجال ذوي كفاءة خاصة يتمركزون في مثل هذه الأماكن الاستراتيجية.

وفي بيان كل هذا بعمق وأصالة وذكاء خارق يقول الإمام رضي الله عنه:

(واخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الاخلاق - إلى أن يقول:- ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظّنّ منك، فإنّ الرّجال يتعرّفون لفراستك الولاة بتصنّعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النّصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما ولوا للصّالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامّة أثراً وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فعند ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتّت عليه كثيرها ومهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته (أي لست بك أنت)).

وهكذا ـ كما نرى ـ يقف الإمام علي كرجل دولة ممتاز خبير بطبائع النفوس، عليم بأصول الاجتماع البشري حكيم ينظر إلى الأمور بعين البصر والبصيرة معاً.

لاحظنا أن الأصول التي وضعها الإمام فيما تقدم من دراستنا تتناول في مجملها القواعد التي تتعلق بنظام الحكم أو ما يعرف على وجه العموم بجهاز الدولة، وكان آخر ما ذكرنا من ذلك في تحليلنا تلك القواعد الكبرى التي أوصى بها الإمام علي، الأشتر النخعي حين ولّاه أمر مصر متعلقة بكيفية إدارته لجهاز الحكم وحدود الصلة التي يجب أن تكون بينه وبين هذا الجهاز سواءً في شؤون المال أو العمّال (أي النواب) أو الكتّاب (شؤون الرئاسة ـ السكرتارية) إلى آخر هذا الباب المتعلق في تحليله الأول والأخير بدولاب العمل الحكومي، لكن الإمام علياً رضي الله عنه ـ لم يكن يرى في وظيفة الحاكم مجرد أداة لتنظيم جهاز الحكم بل الحاكم أساساً مطالب بالتعرف على كل جوانب المجتمع وبتشخيص أمراض هذا المجتمع وبوصف العلاج الناجح لها، وأيضاً بدرء المفاسد التي يمكن أن تتولد منها هذه الأمراض.

على الحاكم إذن بعد تنظيمه لجهاز الحكم ألّا ينسى الطبقات التي يتكون منها جسم المجتمع بل يجب عليه مباشرة أحوال هذه الطبقات بأن ييسر لها ما تستلزمه طبيعة عملها، وبأن يوقفها عند الحدود التي يجب أن تقف عندها وبأن يربطها بإطار المصلحة العامة التي يقوم عليها هيكل المجتمع.

هذه الطبقات يحددها الإمام علي بالتجّار وذوي الصناعات، وفي تصوري أن هاتين الطبقتين هما الممثلتان للطبقة العاملة في المجتمع الذي كان يتحكم في أفكار الإمام علي وفي توجيه هذه الأفكار، ذلك أن المجتمع الصحراوي أو الدوري مجتمع تجارة بالدرجة الأولى وباستثناء المراعي التي تبدو حرفة طبقة العبيد أو الخدم أو على الأقل حرفة الدور الأول في الحياة ـ أما الأدوار التالية الأكثر ريحاً ومقاماً في التجارة في الدرجة الأولى ـ أقول باستثناء الرعي كمهنة محدودة الدخل فإن التجارة ـ كما ذكرنا ـ هي مناط الآمال وهي حرفة الغالبية العظمى في هذا المجتمع، وعلى هذا الأساس لا نكاد نلمح أثراً في وثيقة الإمام علي تتعلق بطبقة الزراع وهي ـ إن وردت ـ لا ترد إلا عرضاً على أننا نستطيع دون تحيف أو كبير تحامل على روح النص أن نعتبر هذه الطبقة مقصودة  بطريقة أو أخرى، ضمن طبقة ذوي الصناعات.

- ماذا يجب على الحاكم تجاه الطبقة العاملة عموماً ـ وفي رأي الإمام علي؟

- ثمة أربعة مواقف يتخذها الإمام علي من هذه الطبقة، الإمام علي من هذه الطبقة، ومواقفه تلك بالطبع تختلف باختلاف وضعية هذه الطبقة وأسلوبها في التعامل الاجتماعي.. والتزامها بظروف المجتمع وبمدى أدائها لدورها تجاه هذا المجتمع.

فالموقف الأول: حين تكون هذه الطبقة ملتزمة بدورها تجاه المجمع الذي هو المجتمع الإسلامي المحاط بكلمات الله وفروضه وسننه وآداب دينه. ففي هذا الموقف يلتزم الحاكم بضرورة تفقد أحوالهم وتذليل الصعاب أمامهم باعتبارهم الجبهة الداخلية التي يستمد منها المجتمع قوته ورفاهيته.

يقول الإمام علي في رسالته للأشتر النخعي:

(ثمّ استوصى بالتّجّار وذوي الصّناعات، وأوصى بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله، ـ أي المتردد بماله بين البلاد سياحة في الأرض ـ، والمترفّق ببدنه فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المباعد والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم النّاس لمواضعها ـ أي لا يمكن للناس أن يجلبوها من أمكانها ـ، ولا يجترؤون عليها فإنّهم سلم لا تخاف بائعته وصلح لا تخشى غائلته، ـ أي أن التجّار والصنّاع مسالمون لا يخشى منهم العصيان ـ وتعقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك).

والموقف الثاني من الطبقة العاملة يتخذه الإمام علي ـ عكس الموقف السابق ـ لا لشيء إلا لأن هذه الطبقة قد رأت أن تتخلى عن التزامها تجاه المجتمع وأن تخون القيم الإسلامية وأن تشبع بين الناس روح الحاجة المذلة وروح الأنانية الرخيصة، وأن تكون ممتازة تتحكم في أقوات الجماهير وفي حياتهم.. ففي هذا الموقف يلتزم الحاكم أمام شعبه بوجوب شن حرب لا هوادة فيها على هذه الطبقة ـ أو بتعبير أصح ـ على بعض أفراد هذا الطبقة التي تتحول إلى طبقة مستغلة لآمال الجماهير ومستقبلها.

يقول الإمام علي للأشتر:

واعلم أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً (الضيق عسر المعاملة والشح البخل) واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلام منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وبأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل وعاقب في غير إسراف.

والموقف الثالث الذي يتخذه الإمام علي من هذه الطبقة هو موقف الضامن الاجتماعي أو الكافل الاجتماعي لكل شؤونهم بشرط التزامهم بالطبع بالقيم الإسلامية الاجتماعية غيرها فعلى هذه الطبقة أن تتحرك مؤدية واجبها نحو المجتمع وسيتكفل الحاكم وجهاز الدولة بتحقيق أمان الحياة لها في حالات العجز بسبب إصابة عمل أو بسبب مرض أو بسبب الشيخوخة أو لأي سبب من الأسباب وفي كل هذه الحالات وفي غيرها يلزم الحاكم بحمايته لهذه الطبقة وبتقديم العون المادي والأدبي لأفرادها.

وقبل أن نورد كلمات الإمام علي في هذا الصدد نود الإشارة إلى شيء هام جد حيوي وخطير فإن هذا التراث الذي تركه لنا الأسلاف الخالدين في كل شؤون الحياة بمجاليها النظري والعملي تراث ضخم وشامل وأصيل، ولو أننا استوعبنا هذا التراث واستقينا من منبعه العذب أفكاره وآراءه وتوجيهاته لوجدنا بين أيدينا فكراً متسقاً منسجماً متكاملاً يصلح لإحياء هذه الأمة ولتوجيهها التوجيه السليم إلى طريق المستقبل دون أن يفصلها عن امتدادها التاريخي وجذورها الإسلامية.

وكل ذنب هذا التراث أنه لم يجد بعد أو أنه لا زال في حاجة ماسة إلى مزيد إحياء وتحقيق وحسن عرض ويوم يتوفر هذا سنجد بين أيدينا تراثاً ممتازاً استطاعت أوربا أن تنهض على أكتافه، ولا يزال بقدرته مساعدة أصحابه على تحقيق نهضتهم وتقدمهم.

أقول هذا بإيحاء من توجيهات الإمام علي فيما يتعلق بحماية الطبقة العاملة في حالات العجز لسبب من الأسباب فإن أوروبا التي تدق الآن باب القمر لم تعرف قوانين حماية إصابات الأحداث والعجز والشيخوخة والضمانات الاجتماعية إلا بعد تطور الثورة الصناعية وظهور مضاعفات للتطور التكنيكي والآلي العنيف، وكان ذلك خلال القرن الثامن عشر.

بيد أن الإمام علياً رض الله عنه يلتفت لهذا دون نظر لمضعفات ثورة صناعية أو انتظار لتطور تاريخ صناعي ذلك أن الإسلام الذي ينطلق منه الإمام علي يلتفت للإنسان كإنسان ويحميه انطلاقاً من احترامه له أساساً بغض النظر عن كل التطورات.

يقول الإمام علي:

ثمّ الله الله في الطّبقة السّفلى من الّذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزّمنى (البؤس: شدة الفقر والزمنى هم أصحاب العاهات) فإنّ في هذه الطّبقة قانعاً ومعترّاً (القانع الذي يسأل الناس والمعتر الذي يتعرض لهم دون سؤال) واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلاّت موافي الإسلام في كلّ بلد (الصوافي: أرض الغنيمة) ـ إلى أن يقول ـ ولا تصعّر خدّك لهم، وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون (أي تكره العيون النظر إليه احتقاراً) وتحقّره (الرّجال)،  ـ إلى أن يقول ـ فإنّ هؤلاء من بين الرّعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم ـ إلى أن يقول ـ وتعهّد أهل اليتم وذوي الرّقّة في السّنّ ممّن لا حيلة لهم، ولا ينصب  للمسألة نفسه).

والموقف الرابع الذي يقفه الإمام علي كرم الله وجهه من الطبقة العاملة ـ وهو ما يأمر به واليّه الأشتر، هو وجوب تتبع مشكلات هذه الطبقة تتبعاً مباشراً فبصرف النظر عن المندوبين الذين يساعدون الوالي في إحقاق الحق فإن هناك جانباً من القضايا يجب أن يناط بالحاكم نفسه، كما أن النوّاب والمندوبين يجب أن يتأكدون من أنهم ليسوا طبقة سميكة عازلة بين الناس والحاكم وإن أي مواطن يستطيع إذا ما وقع عليه ظلم من جانبهم، أن يتصل بالحاكم وأن يوقفهم أذلاء عند حدود الحق والعدالة، فبمثل هذا الشعور يلتزم المندوبون والنوّاب بالعدل ويحرصون عليه.

وعلى الحاكم في مثل هذه الحال أن يخاطب الناس على قدر عقولهم ومستوياتهم العقلية والاجتماعية دون إحراج وتعنيف، فليس من طبائع الأمور أن يكون كل الناس سادة في العلم أو الثقافة بل البناء الاجتماعي يتطلب اختلاف اللبنات لكي يتم توزيع الواجبات الاجتماعية ولكي يتمكن المجتمع من السير على نحو متكامل ورشيد.

يقول الإمام علي لواليّه الأشتر في كتابه التولية هذا:

(واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه لله الّذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتّى يكلّمك ـ عنهم جندك أعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك ـ متكلّمهم غير متتعتع (أي غير خائف) فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: (لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضّعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع) ثمّ احتمل الخرق منهم والعيّ (أي الضعيف والعاجز عن النطق) ونحّ عنهم الضّيق والأنف (أي ضيق الصدر سيء الخلق والمتكبر المتغطرس) يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وأعذار.

وفي هذا المقام مقام اتصال الحاكم بالمحكومين دون وسائط يحدد الإمام علي بعض المجالات التي يجعل على الحاكم الصالح مباشرتها بنفسه دون اللجوء إلى ولاته وعمّاله:

منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك ومنها إصدار حاجات النّاس عند ورودها عليك ممّا تحرج به صدور أعوانك (أي بما تضيق صدورهم بعمله بسرعة))

ومن اللازم التنويه هنا على أن الموقفين الأخيرين من مواقف الإمام علي تجاه الطبقة العاملة هما موقفا حماية لهذه الطبقة، وهما حافز ضخم سبق به الإسلام الذي ينطق منه الإمام علي كل الشرائع والقوانين.

فموقف حماية العامل في حالات العجز، وموقف الاتصال المباشر بمشاكل الطبقة العاملة وحمايتها من الرئاسات المباشرة كثيراً ما تتحول ـ بحكم المنصب ـ إلى طبقة متسلطة، هذان الموقفان يجسدان بعمق القاعدة الإسلامية الكبرى في التشريع، وهي قاعدة التوازن التام بين حقوق الفرد وواجباته وبين حقوق الفرد والمجتمع، فلكل دائرة حقوق، وعلى كل دائرة واجبات لابد أن يقوم بها.

وأخيراً ـ في هذا الموقف لا ينسى الإمام علي كعادته أن يوصي الأشتر بوجوب الإخلاص لله ورعايته حقوقه ومراقبته وإعطاء حق الله في كل المجالات فالإسلام للحياة بكل أبعادها وجوانبها.

(وليكن في خاصّة ما تخلص له لله دينك: إقامة فرائضه الّتي هي له خاصّةً، فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووفّ ما قربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير ملثوم (أي غير مخدوش بشيء من التقصي) ولا منقوص).

وبهذه الوصية الأخيرة تنتهي جولتنا في حديقة الأدب السياسي التي زرع أشجارها وتعهدها الإمام علي كرم الله وجهه.