علي (ع) في عهد الخلفاء الثلاثة

{ صدر الدين القبانچي }

قبل البدء

قبل أن نتناول بالبحث موقف الإمام علي (ع) من الخلفاء الثلاثة، نودّ أن نستوضح موقفه بعد رسول الله (ص) مباشرة، وما هي الأمور التي حجزت بينه وبين تسلّم الحكم. فالثابت تاريخياً انّ الامام لم يشترك في مؤتمر السقيفة الذي حضره الأنصار وحضره من المهاجرين أبوبكر وعمر وأبو عبيدة، وهو في ذات الوقت لم يجب دعوة العباس حين قال له: " امدد يدك أبايعك فلا يختلف عليك اثنان "، وقد علل رفضه لهذا الطلب بالقول: " أترى هذا الأمر يكون لغيرنا؟! ".

انّ هذا الموقف من الامام سواء في عدم اشتراكه مع المؤتمرين في السقيفة، أو في رفضه لطلب العباس، قد يفسّر بشيء من عدم الحيطة السياسية، ويساعد على القول انّ الترسّل واللامبالاة التي تمثَّل بها الإمام (ع) في موقفيه هي التي صرفت عنه الحكم، وفي المقابل كانت روح المبادرة، والحيطة السياسية في الجانب الآخر هي التي أحرزت لهم الحكم.

ولقد بدا موقف علي (ع) بعد الرسول (ص) كما لو كان فيه كثير من حسن الظن، كما فيه كثير من البرود والتباطؤ، والمعروف انّ العمل السياسي الناجح يفرض التحسب لأدنى الاحتمالات، كما يفرض الاقدام السريع واغتنام الفرص.

لقد كان يتسع لعلي ـ وما زلت أُقرر هذا القول ـ أن يصنع شيئاً كثيراً في هذا المجال.

كان يستطيع أن يشترك في السقيفة وربّما يكسب إليه كل الأصوات أو معظمها، وكان يستطيع أن يشترك في مؤتمر غير ذاك المؤتمر، يأخذ فيه البيعة من عمّ الرسول (ص) وسائر الهاشميين وجميع أنصاره والمخلصين له من المهاجرين والأنصار، وحينذاك يقطع الطريق أمام كلّ المحاولات الأخرى، ولا يختلف فيه اثنان كما أشار إليه العباس.

لكن علياً بدأ وكأن الأمر لا يُعنيه، فقد آثر أن يشتغل بتجهيز رسول الله (ص) قائلا لعمّه العباس: " أترى هذا الأمر يكون لغيرنا ".

وقائلا للأنصار فيما بعد: " أو كنت أترك رسول الله (ص) ميتاً في بيته لم أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه ".

غير انّ علياً ليعلم حق العلم انّ قريشاً لا تنام لها عين ان تركت الأمر يصير إليه، وانّها لتجد في ازاحة الحكم عنه كل الجد وأقصاه، ولقد أخبره الرسول بأن الأمة ستنحرف عنه، وتتمالأ عليه.

فأي معنى بعد ذاك لأن يقول: " أترى هذا الأمر يكون لغيرنا؟ " كما انّه ليعلم حقّ العلم ان قضية الحكم، وقيادة التجربة أمر تهون عنده سائر الأمور، إن لم يكن فيها سخط الله.

ولئن كان انتصاره يدعوه لأن يترك جثمان رسول الله (ص) ساعات فأي مانع يقف دون ذلك؟ أو ليست قضية الحكم هي قضية مصير الإسلام كلّه. ألم يكن جديراً أن يؤجل غسل رسول الله ساعات حتّى يفرغ من موضوع الخلافة، ويقطع على الآخرين طريقهم، ثم يرجع وقد صار أميراً؟!

وما يمنع علياً أن يقبل طلب العباس، وهو يتطلب منه حتّى ترك الجثمان الطاهر؟!

هذا قول قد يقال في موقف علي (ع).

وتلك ملاحظات قد تؤخذ عليه.

فما هو مدى الصحّة في هذا القول؟ ومدى العمق في تلك الملاحظات؟ هل كان الامام قادراً على الإشتراك في مؤتمر السقيفة؟

ولو أنّه اشترك فهل كان حليفه النجاح؟

الحقيقة انّه لا يوجد دليل تاريخي على انّ علياً سبق له العلم بمؤتمر السقيفة ثم آثر اعتزاله عن عمد، بل انّ الدلائل تشهد على انّ مؤتمر السقيفة أحيط بقدر كبير من الكتمان.

فالأنصار هم الذين سبقوا إلى عقده، دون أن يبعثوا إلى أحد من المهاجرين، وحين انتهى خبره إلى عمر بن الخطاب لم يرغب أن يخبر عنه سوى أبي بكر، ولقد كان جالساً في بيت له خارج مكَّة فأرسل إليه عمر من يقول له: " حَدَثَ أمرٌ لابد أن تحضره ".

وفي الطريق صادفا أبا عبيدة فاصطحباه على ما تقول الرواية.

فأنت ترى انّ أحداً من الهاشميين وغيرهم من أنصار علي لم يقف على خبر السقيفة، بل وكلّ المهاجرين سوى هؤلاء الثلاثة.

والرسول الذي بعثه عمر لم يفصح للجالسين حقيقة ما حدث، انّما قال له: " حدث أمرٌ ".

حتّى انّ أبابكر (رض) اعتذر أولا، ثم أجاب حين أرسل إليه عمر ثانياً من يؤكد له ضرورة الخروج.

ولقد كانت مفاجئة لعلي، وشيعة علي، بل وعامة المسلمين ممن لم يحضر السقيفة، حينما أعلن عن بيعة أبي بكر، وربما تصوّر لنا الحال رواية البراء بن عازب حيث قال:

" لم أزل لبني هاشم محباً فلما قبض رسول الله (ص) تخوّفت أن يتمالا قريش على اخراج هذا الأمر عن بني هاشم، فأخذني ما يأخذ الواله العجول.. "(1).

وعلى هذا يكون من المؤكد انّ علياً حين لم يحضر السقيفة، كما لم يحضرها أحد من أنصاره ومؤيديه، لم يكن ذلك عن عدم قناعة بضرورة الحضور ظناً بفشل الاجتماع، وعدم توقع لخروجه بنتيجة حاسمة تزيحهم عن مقعد الحكم والقيادة.

بل ربّما كان ذلك للسريّة التي أحيط بها المؤتمر، ومحاولة كتم خبره عن الخط الشيعي خصوصاً، وعن مجموع المسلمين عموماً.

والاّ فبماذا نفسّر عدم اشتراك أحد من المهاجرين سوى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة؟ أم انّ مصير الأمة ومصير الإسلام لا يهمّهم جميعاً؟!

على انّا نحسب انّ من التسرّع في الحكم، وعدم التقدير الجيّد للأمور، القول بأن اشتراك علي في المؤتمر كان يضع الحكم بيده، ويحبط كلّ المحاولات الأخرى.

فالشيء الثابت والواضح انّ غلبة المهاجرين على الأنصار في مؤتمر السقيفة ترجع في أحد عواملها المهمّة إلى وحدة صف المهاجرين وتفرق صف الأنصار.

فلقد ذكّرهم أبوبكر بالشجار التاريخي الطويل بينهم، والذي استنزف دماء الأوس والخزرج معاً، وهم بعد قريبوا عهد بهذا الماضي، ومن هنا عادت لهم الذكريات، والأحقاد، والضغائن، بما دعا مشايخ الأوس إلى الإسراع في بيعة أبي بكر، حسداً منهم لسعد بن عبادة شيخ الخزرج، وكان هو مرشح الأنصار للخلافة.

فالمؤرخون يذكرون انّ أوّل من بايع أبابكر بعد عمر وأبو عبيدة، وكان من الأوس، وحين أعاد له أبوبكر ماضيهم الدامي القريب. استجاب للأحقاد الجاهلية العريقة، ونهض ونهض معه من حضر من الأوس، فاضطر الخزرج للبيعة.

أمّا ماذا كان يحدث لو حضر علي (ع)؟

بلا شك انّه سيدعو لنفسه، ويدعو له أنصاره الحاضرون فرضاً، ولا دليل على أنّ قريشاً ستقبل هذا الإقتراح، ولها مع علي ألف حساب. ومن المتوقع جداً انّ مشايخ المهاجرين مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة سيرفضون هذا الاقتراح أيضاً، انحيازاً لقريش التي كرهت أن تجتمع النبوة والإمامة للبيت الهاشمي.

وفي ظلّ وضع من هذا القبيل، وشجار عميق بين المهاجرين أنفسهم، سيبقى صف الأنصار متماسكاً، بينما يشتغل المهاجرون بأنفسهم.

والظن بأنّ الأنصار سينحازون إلى جبهة علي ليس مصيباً. فان ميول الأنصار في علي لم تمنعهم أن يبادروا إلى عقد مؤتمر السقيفة ومحاولة جرّ الحكم اليهم. ولا دليل على انّهم كانوا يستجيبون لعلي، ويسمعون دعوته وهم يجدون كفتهم راجحة.

وليس بعيداً انّ خصوم علي من قريش سيميلون إلى الأنصار بغاية دحر علي، وربما يكون لهم مع الأنصار نصيب أمّا مع علي فلا شيء لهم.

ونخرج من هذا الحساب بأن علياً لم يكن عالماً باجتماع السقيفة، وانّه لو خفَّ إليه لا دليل على فوزه فيه.

يبقى هذا السؤال:

لماذا لم يبادر علي إلى أخذ البيعة من عمّه العباس وسائر الهاشميين، وبقية أنصاره ومؤيديه، وحينذاك لا يجد من يريد الخلاف سبيلا للخلاف؟

ولقد كانت تلك هي وجهة نظر العباس يوم قال لعلي: " يا ابن أخي هلم أبايعك فلا يختلف عليك اثنان ".

وأنا اعتقد انّ الاجابة عن هذا السؤال تدعونا إلى طرح سؤال آخر، وهو ماذا سيقال في هذه البيعة؟ وكيف ستواجه؟ وهل صحيح انّها تقطع الطريق على المعارضين؟

لقد كان ميسوراً للمعارضة أن تخرج على هذه البيعة، بحجّة أنّها لم تكن بمشورة من المسلمين جميعاً، أمّا بنو هاشم فهم يجرّون النار إلى قرصهم.

ولعله إلى هذا البُعد كان يشير علي، حين رفض الإستجابة لطلب العباس قائلا:

" لا أحبّ أن يكون هذا الأمر من وراء رتاج ".

على انّ قريشاً كانت على استعداد دائماً لأن تصنع كلّ شيء دون حكم علي، وهي نفسها التي خرجت عليه يوم تمت له البيعة من عامة المسلمين بعد الخليفة الثالث.

حتّى لقد كان علي يقول:

" اللهمّ انّي استعينك على قريش ومن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ".

وإلى هنا أصبح واضحاً أن انفلات الحكم من الامام لا يرجع إلى طبيعة موقفه بعد الرسول (ص)، بقدر ما يرجع إلى العداء التاريخي الذين انطوت عليه نفوس قريش لعلي بن أبي طالب، مهما كان منشأ هذا العداء.

وبقدر ما يرجع أيضاً إلى مستوى الوعي السياسي والديني للقضية الذي عاشته الأمة يومذاك على حديث تقدم لنا في ذلك.

والآن ما هو موقف الإمام بعد أحداث السقيفة، وما تمخَّضت عنه؟

هل يقاتل؟ أم يعتزل؟ أم يتنازل عن خطه؟ أم ماذا؟

لقد كانت أمامه أربعة طرق، كان عليه أن يختار منها ما يضمن له سلامة الإسلام، وما يمهّد له أداء مسؤوليّته إتجاه الرسالة.

فالإمام لا يثأر لحق شخصي، أو رغبة في الحكم، وانّما للرسالة التي جُعل أميناً عليها، واختاره الرسول (ص) لتحصينها وحمايتها.

أمّا ما هي تلك الطرق؟

وأيّها يحقق للرسالة الجزء الأكبر من أهدافها؟

أمّا ان يقاتل بمن معه فيغلب أو يموت دون حقّه؟

وأمّا أن يعتزل الأمة كلها، فلا هو منها ولا هي منه، كما صنع سعد بن عبادة؟

وأمّا إن ينفتح للأمة، ويتصادق مع الحكم القائم، محتفظاً في الوقت ذاته بخطه، وساعياً إلى دعمه، وتصعيده، وتحصينه ليبقى حياً نقياً معبراً عن جوهر الإسلام، يوم تنحرف سائر الخطوط، وتضيع حقائق الرسالة.

 

الطريق الأول: المنازلة

ولقد بدا للكثير من الكتّاب انّ الامام ـ على تقدير نص رسول الله، واستخلافه ايّاه ـ كان عليه أن يقاتل، وان يحمل السلاح، وان ينهض ولو وحده. ولو كلّفه ذلك الموت، مادام يؤمن بحقّه في الحكم بوصية من الرسول (ص) وماذا ينتظر الإمام؟

ولماذا يسكت؟

أليس صدقه مع رأيه، وصدقه مع رسالته يدعوه لأنّ يقدِّم نفسه وروحه حرصاً على وصيّة الرسول، وتحقيقاً لأطروحته في الحكم بعده.

أمّا وقد سكت الإمام فذاك دليل على انّه لم يكن معتقداً بوصية الرسول، ولا ذاهباً مذهب الشيعة فيه، " ولو قد علم انّ النبي قد أوصى له لجاهد في إنفاذ أمر النبي ولآثر الموت على خلاف هذا الأمر "(2).

كثيرون يذهبون إلى هذا الرأي، ثم يحتجون بموقف الامام على الشعة، من حيث انّه لو كان منصوصاً عليه لكان جديراً به بل مسؤولا عن الجهاد.

وأحسب انّ هذا الرأي أريد به هذه الغاية! أريد به مخاصمة الشيعة فيما يدّعون من النص، والاّ فان كل أحد يعرف انّ الجهاد إذا كان يعني الانتحار، وإذا كان يضيّع على الرسالة اكثر مما يجلب لها، وإذا كان لا يحقق صغيراً ولا كبيراً من أهداف الرسالة ولا يسدّ حاجة من حاجاتها، فإن مثل هذا الجهاد ليس هو الجهاد الذي دعا

إليه القرآن وحثّ عليه، إنّما هو الانتحار المجنون الذي حرَّمته الشريعة ونهت عنه ترى ماذا كان يحقق للرسالة لو انّه آثر الموت في هذا السبيل؟

أولا: سيحرم الأمة من وجوده وعطائه، ثم لا تملك من تلجأ إليه عند المعضلات، ومن يعزز ثقتها برسالها، ويعمق مذاهبها، ويسّد كل ثغراتها، كما درسناه في المهمات التي توفّر لها الإمام علي (ع).

ثانياً: وحين يضحي علي بنفسه يكون قد ضحى بالخط الشيعي كلّه.

الخط الذي أريد له أن يحمي وجود الإسلام، كما يحمي حقائق الإسلام من محاولات التشويه والتحريف والتفريغ.

ولقد رأينا وسوف نرى انّ تاريخ التشيع كان دفاعاً مرّاً مستميتاً عن الرسالة، الرسالة النقيّة النظيفة كما نزل بها القرآن، وحدّث بها رسول الله (ص).

ويومذاك لم يكن الخط الشيعي سوى أطروحة لم تأخذ طريقها إلى الوجود الخارجي بعد، وكان علي هو المسؤول عن بناء قواعدها، وترسيخ خطها، وتعميق مفاهيمها كما رأينا في حديث سابق.

أمّا إذا آثر الموت السريع الارتجالي، وفي غمرة ساعات بل لحظات ضحى بوجوده، وبكل الطليعة الواعية المخلصة للإسلام حقّ الإخلاص، عمار وأبوذر وسلمان والمقداد. فمن يبقى للرسالة؟ ومن يبقى للأمة الفتيَّة التي تواجه مخاطر الموت؟ ومن سيعرف موقع التشيع من الرسالة، ومدى صدقه في التعبير عنها.

إنّ هؤلاء يمثلون اللبنة الأولى للتشيع، وحينما ينتهي هؤلاء قبل أن يخلقوا من يسير على نفس الخط، ويحمل نفس الدرجة من الوعي والإخلاص والإلتزام. فذلك يعني موت الخط كاملا، ويبقى المجال مفتوحاً أمام سائر الخطوط لترسم الإسلام للأجيال الآتية حسب طريقتها، وحسب درجة إخلاصها ووعيها للرسالة.

صحيح انّ التضيحة قد تكون طريقة للبناء، وتعزيزاً للوجود، ووثيقة الإنتصار والخلود التاريخي، لكن هذا الكلام إنّما يصح حينما يكون المبدأ قد استكمل بمحتواه النظري، وحصن وجوده الخارجي من الفناء. أمّا إذا كان المبدأ يعيش في المهد فالتضحية بالنسبة له تعتبر انتحاراً، ومجازفة محرّمة.

ألسنا نعلم انّ الإسلام منع أنصاره حمل السلاح ومجابهة قريش، يوم كان المسلمون قلّة، لا يؤمن عليهم من الموت المستغرق، حتّى إذا هاجر الرسول إلى المدينة، وأصبح معلوماً انّ كلمة الإسلام قد رسخت أعلن الجهاد وحمل السيف.

والتشيع بعد الرسول (ص) يعيش بداياته التاريخية الأولى، ولم يكن واضحاً بعد حقيقة هذا الإتجاه، بل كان بحاجة إلى فترة زمنية تتضح من خلالها الأبعاد والتصوّرات الواقعية التي يحملها، ويؤمن بها.

كما أنّ السائرين في هذا الإتجاه لم يكونوا عدداً بمستوى يضمن بقاء بعضهم ليواصل السير، ويعلن للآخرين الحقيقة.

وإذا كان التشيع يعني الإسلام، كما أراده محمد (ص) والقرآن، فإنّ مصير الإسلام مربوط إذن بمصير التشيع، وانّ أي خطر يواجه التشيّع يواجه الإسلام بالذات. وحينئذ تكون التضحية بالتشيع تضحية بالإسلام، لأن الخطوط الأخرى التي لم تهضم الإسلام، ولم تستوعبه، ولم تندمج مع مفاهيمه وقيمه تماماً هي التي ستحكم، وهي التي ستشرح للأجيال مفاهيم الإسلام، وترسم لهم صورته، وتضع تفاصيله، وحينذاك تبدأ عملية التحريف ـ عمداً أو خطأً ـ وبالتدريج يفقد الإسلام لبّه وجوهره، وحيث لا يبقى منه الاّ القشور فإنّ الأمة سترفضه لا محالة، وهناك يموت تماماً.

انّ من الخطأ أن نعقد قياساً بين نهضة الامام ـ لو أراد أن ينهض ـ وبين نهضة الحسين (ع) مثلا.

فالحسين يوم ثار كان التشيع له وجوده وقواعده العريضة، ورغم انّ الحسين قد قتل، الاّ انّ التشيع ظلّ حيّاً بل ازداد حياةً وتصلباً، لماذا؟ لأنّ القواعد الشيعية كانت موجودة ومبثوثة، ولأنّه كان هناك من يشرح للناس خطّ الحسين، وثورة الحسين، ويفضح كلّ محاولات التشويه والتمويه لثورته وحركته وخطّه.

لكن من كان يقوم بهذا الدور لو أنّ علياً وأنصاره ومؤيديه قدّموا أنفسهم مرّة واحدة وبسرعة وقبل أن يقولوا للناس أي شيء، وقبل أن يعرف الناس عنهم أي شيء، سوى طلب الحكم، والتوصل للسلطة؟!

بلا شك ستضيع هذه الحركة، وتنتهي. كما انتهى سعد بن عبادة مثلا، ثم لا يعرف الناس عنها الاّ انّها حركة وصولية غير واعية، ولا مخلصة للإسلام. الذين يرديون من علي أن ينهض في وضع من هذا القبيل يقعون في مغالطة واضحة، فالجهاد واجب والأصحار بالحق واجب، لكن حيث يكون ذلك خطوة نجاح، أمّا إذا كان خطوة موت، وطريق النهاية، فانّ الصدق هنا مع المبدأ، والإخلاص له، يطلب السكوت والتريث.

ألم يكن محمد (ص) على الحقّ؟ وألم يكن صادقاً مع مبدئه ورسالته؟ ومع ذلك فقد قبل صلح الحديبية، ولم يصغ لمن قال له:

ألسنا على الحق؟ إذن لم نعط الدنية في ديننا؟

انّه يعرف الحقّ، ويعرف انّه على الحق، ولكنه صالح لأنّه وجد الصلح أعود لرسالته، ولأمّته الفتية الجديدة، وانّهم لفاتحون على أي حال اليوم أو في الغد. وفي ضوء هذا الفهم ينبغي أن يوضع السؤال بهذه الصيغة:

كم هو احتمال النجاح في نهضة الامام لو أراد أن ينهض؟

وهل صحيح انّ نهضته تعني الانتحار؟

أمّا في نظر الإمام نفسه فالأمر كذلك، والنصوص التي بأيدينا تاريخياً تؤكد انّه (ع) كان لا يتوقع لثورته النجاح، أي مقدار من النجاح.

ومن خلال هذه النصوص يبدو وكأنّ الامام مستعد للقتال، وللثورة، لو توفرت له شروط النجاح، أما وهو لا يجد ذلك فجدير به أن يلتزم الصمت. لقد كان يقول: " لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم ".

ويقول وهو يشرح حقيقة ما جرى بعد رسول الله (ص): " فنظرت فاذا ليس معي الاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت واغضيت على القذى ".

ولطالما خيّر علي نفسه بين النهوض وبين الصمت، ثم يؤثر الصمت، لأنّ فيه سلامة المبدأ. وهو يصوّر لنا هذا التردد والخيار حيث يقول:

" وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذا، أو أصبر على طخية عمياء... فرأيت الصبر على هاتى أحجى " لأن اليد الجذاء لا تصنع شيئاً، ولا تستطيع أن تصول.

وفي رواية اليعقوبي انّه: " اجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة، فقال لهم: اغدوا عليّ محلّقين الرؤوس، فلم يغد عليه الاّ ثلاثة نفر ".

وهكذا فقد كان الامام مقتنعاً كلّ القناعة بأن ثورته لا تحقق له النصر.

أمّا صحة هذه القناعة فهو شيء أكيد، وانّ نظرة تحليلية سريعة توضح لنا عدم التكافؤ بين جبهة الإمام وجبهة مناوئيه.

من سيشترك مع الإمام، ومن سيدخل جبهة المناوئة؟

القوى الحاكمة ستقف ضد علي بالطبع، لأنّه طالب فتنة، وناهض بغير حقّ، هكذا في نظرها. وانّها لم تعفه من البيعة يوم تأخَّر عنها فكيف تراها لو شاهدت علياً بجمع الجموع.

لقد هدّد علي بالقتال، وعرّضت داره للإحراق، لأنّه تخلّف عن البيعة، واعتزل الناس! فكيف لو دعا لقتال؟

والحكم القائم لم يكن مستعداً للتنازل أمام علي، بل ولا الإصغاء إليه. وبأي مقصد كان ذلك فانّ علياً سوف لا يجد أمامه الاّ السيف.

والحكم القائم كان مضطراً لتحصين نفسه لضرب أي حركة مضادّة، وقمعها بقسوة، وبسرعة، حتّى ولو كان القائم بها هو الإمام علي (ع).

ثم انّ هناك قريش ـ وما أدراك ما قريش ـ مملوءة حقداً وحسداً وضغينة للإمام، فأين تراها ستكون؟

وسوى هذا الحقد والحسد والضغينة، فإنّها تعرف علياً جيداً، وتعرف مصيرها لو ولي الحكم علي. انّه لا يرى لها فضلا ولا كرامةً إلاّ بمقدار ما تعطي للإسلام، ثم هي ذات طمع في الحكم، ولو حكم علي فالأمر لن يصل إليها أبداً علي نفسه يحدّثنا عنها بالقول:

" انّها تنظر في صلاح شأنها، وتحتاط لمنافعها، فتقول: انّ ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً، فاذا كان في غيرهم تداولته بطون قريش ".

وهناك بنو أمية خاصة، وبينهم وبين بني هاشم عداء طويل، ولقد دعا أبو سفيان أولا لعلي، ثم ما لبث أن صافح الحكم القائم يوم أعفاه مما بيده من خمس نجران، وولى ابنه يزيد الشام.

وهناك المنافقون، وجود ضخم خطر طالماً أقلق الرسول أيام حياته. ولقد كانوا يُعرفون على عهده ببغضهم لعلي، وهم بعد الرسول أشدّ منهم أيامه، وأحرص على الوقيعة بالإسلام والمسلمين.

ولقد كان بغضهم لعلي بغضاً للرسالة، وبغضاً للرسول، فعلي يمثل الرسول، دمه ولحمه ونفسه، وهو منه بمنزلة هارون من موسى، وانّه لأخوه في الشدائد والملمات، كما أخوه في ساعة اليسر والعافية. وانّهم ليعلمون انّ طعنهم وتجريحهم لعلي ايذاءً للرسول، حتّى لقد كان يقول: " لا تؤذونني في علي " يكرّرها ثلاثاً، ثم لا يعبئون، ثم يعودون للطعن في علي كأن لم سمعوا ولم يعووا.

وعلي يمثل محتوى الرسالة، في تضحياته، وأخلاقه، وسلوكه، وشدّته في الله، انّه التجسيد الحي لكل قيم الرسالة الجديدة، انّه الإيمان كلّه وسوى ذلك فانّه السيف الذي ارغم انوف قريش وغير قريش حتّى أسلمت، ولو لا سيف علي لم تقم لهذا الدين قائمة.

وانّهم ليعرفون انّ علياً هو الرجل الذي اعدّه الرسول ليقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل على تنزيله.

والقتال على التأويل يعني القتال من أجل الحفاظ على المحتوى الحقيقي للإسلام، وأحباط كلّ محاولات التحريف والتزييف.

ثم علي هو مرجع الأمة عند الفتن، وانّه لعلى الحقّ أبداً ودائماً، كما انّ الحقّ معه. والمنافقون لا يريدون الحقّ ولا يأنسون به، في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً.

هؤلاء، ذوو النفاق، المبثوثون بين المسلمين، من علم الرسول (ص) منهم ومن لم يعلم، حتّى ليحدِّث عنهم القرآن: {وَمِنْ اَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِفَاقِ لاَ تَعْلَمهُمْ نَحْنُ نَعْلَمهُمْ}.

هؤلاء جميعاً بكل قواهم وكل عددهم، وكل قابلياتهم على التخريب أين سيقفون؟

علي هو الرسالة وعلي هو الرسول، وهم أعداء الرسالة والرسول! فهم عليه، وهم جبهة وحدهم ضدّه، ولو كلَّفهم سفك المهج! أمّا الأعراب:

من ارتدّ منهم عن الإسلام فقد ارتدَّ، ومن بقي على الإسلام كم هو إخلاصهم للإسلام، واستعدادهم للتضحية؟

وكم هو وعيهم لقضية علي؟

انّهم سمعوا مقالة رسول الله فيه، من شهد منهم غدير خم فقد شهد، ومن لم يشهد فقد بلّغه الشاهدون مقالة الرسول: " من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه.. ".

انّهم من هذا يعرفون علياً، لكن لا يعرفون منه الاّ انّه رجل سابق إلى الإسلام، وقريب إلى الرسول، وقد استخلفه من بعده:

أمّا حقيقة هذا الإستخلاف؟ أمّا موقع علي من الرسالة الذي دعا الرسول (ص) لأن يستخلفه، ولأن يأمر الأمة بلزومه عند الفتن؟

أمّا المخاطر التي ستترتب على صرف الحكم عنه، واعطاء القيادة لغيره فتلك أمور لا يعرفها الأعراب!

وفي نظرهم إذا كان علي سابق إلى الإسلام، فأبوبكر من السابقين أيضاً، ثم هو شيخ من شيوخ قريش، وقد رضعته قريش نفسها، وجدير بعلي أن يتنازل له عن حقّه، ولا يحدث فتنة في الأرض وفساد كبير.

من المؤكد انّ الأعراب يفهمون قضية علي بهذه الطريقة، حقّ شخصي، ربما اندفع الرسول (ص) إليه بوحي من عاطفة، وودّ يكنّهُ لعلي، ليس غير.

وإذا كانت المسألة تحتل هذا الموقع في أفكارهم وأنفسهم، فلا داعي حينئذ للحرص على خلافة علي، والتضحية من أجلها سوف لا تعني في نظرهم الاّ التضحية من أجل مصلحة شخصية يطمع فيها علي.

على انّ القوى الحاكمة ـ وهي قد سبقت إلى الحكم ـ سترسم للناس صورة علي كما لو كان صاحب فتنة، وداع للشقاق، وممزّق لصف المسلمين، في يوم أحوج ما يكونوا فيه إلى الوحدة والوئام.

وهي صورة قريبة إلى الصدق جداً فيمن لا يعرف حقيقة الأمر، وهم لا يعرفون بالطبع كما شرحنا.

ولئن قنع الأعراب بهذه الصورة، أو لا فإنّهم سيقبلون الشك في علي وفي ثورة علي لا أقل، وحينما يأتي الشك لا يبقى أحد مستعدّ للتضحية.

والواقع انّ حكومة السقيفة جرّبت هذا السلاح، وأعطت للناس هذا المفهوم عن علي مقدّماً.

لقد قال أبو عبيدة وهو يدعو علياً للبيعة:

" ولا تبعث الفتنة في أوان الفتنة، فقد عرفت ما في قلوب العرب وغيرهم عليك ".

وسواء صحّت الرواية عن أبي بكر انّه قال في علي خاطباً المهاجرين والأنصار: " مربّ لكل فتنة، كُأمِ طحال أحبُّ أهلها إليها البغي " أو لم تصح، فإنّ هذا الأسلوب لم يكن بعيداً عن منطق الحكم القائم.

والأعراب المخلصون يعرفون حاجة الأمة إلى الوحدة أمام المخاطر التي تحف بها، وانّهم سيدعون لذلك بكلّ اخلاص، فهل تراهم سيشتركون مع الإمام في خوض حرب داخلية لا يعرفون أبعادها حقيقة.

على انّه ليس ببعيد انّ حدوث مثل هذا الشقاق سيدعو إلى مزيد من الإنفلات عن الإسلام، وارتداد الأعراب عنه.

وكان علي جيد الملاحظة لهذه النقطة بالذات، انّه يحدّثنا عن نفسه فيقول: " فأمسكت يدي حين رأيت راجعة الإسلام قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد (ص) فخشيت ان لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم ".

على انّ القوى الحاكمة لا تعجز عن إقناع بعض القبائل بضرورة الاشتراك معها في القتال، وهي لا تمتنع أن تشتريها بالوعود.

وهذا أمر قد حدث بالفعل، فما ان أخذت البيعة لأبي بكر حتّى دخلت قبائل "أسلم" ومعها السلاح، ويومذاك قال عمر: " ما هو الاّ أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر ".

ولو تجاوزنا موقف قريش، والمنافقين، والأعراب، فما هو موقف الأنصار؟ معلوم انّهم كانوا يظهرون الميل لعلي، حتّى قال قائلهم: " لا نبايع الاّ علياً " لكن هل تراهم مستعدين لقتال؟

انّ علياً دعاهم أربعين ليلة، كان يصطحب الزهراء (ع) يطوف بها على بيوتهم واحداً واحداً، وهم يعتذرون إليه.

ألا " قد سبقت بيعتنا لهذا الرجل ".

ويقول له بشير بن سعد:

" لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان ولكنهم قد بايعوا!! ".

من بقي في جبهة علي؟

بقي الهاشميون، وبقي أنصار له من غير الهاشميين لا يتجاوزون العشرة، ولنا أن نشك حتّى في رؤية الهاشميين!

في استعدادهم للتضحية، وقناعتهم بصحة الحرب.

ففي رواية الاحتجاج عن علي (ع) انّه قال: " ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي، فأبوا عليَّ اِلاّ السكوت، لما علموا من وغارة صدور القوم ".

علي وحده إذن، ويده جذاء.

ولو وجد أربعين ذوي عزم لناهض القوم.

أما وهو لا يملك عشرة فالحرب بالنسبة له تعني التهوّر والتسرّع والانتحار. الانتحار لا بنفسه فقط، وانّما بمصير الرسالة، وحياة الرسالة التي جعل أميناً عليها.

فأي معنىً بعد هذا يبقى لقول القائلين، كان عليه أن يتحرك، وأن يثور، وأن ينهض، وأن يقدّم نفسه رخيصة للموت؟!

ولو قد فعل ذلك علي، لكان هو المسؤول قبل غيره عن مصير الرسالة! فهذا الطريق إذن هو الطريق المسدود، ولو سلكه علي لارتطم بالحجر، وانتهى.

 

الطريق الثاني: الاعتزال

أن يعتزل، ويبتعد عن الأمة، فلا يسمع لها صوت ولا يجيب لها نداء، أن يتنكر للأمة كما تنكّرت له ونست وصية رسول الله فيه. ويتركها غارقة في الجهل، والاختلاف، والحاجة.

كما اعتزل سعد بن عبادة، يوم رفض أن يبايع وأصرَّ على الرفض مؤثراً اعتزاله.

لكن ماذا يحقق هذا الموقف للرسالة؟

ماذا يحقق للإسلام عموماً، وللخطّ الشيعي بالخصوص؟

انّ الأهداف الرسالية هي التي تسيّر علياً، وتملي عليه مواقفه، فهو حارس تلك الأهداف، وحامي حماها، فماذا تُحقق العزلة من تلك الأهداف؟

الحقيقة انّ الاعتزال يعني هنا التخلي عن المسؤولية، والتنكر للرسالة نفسها، والانسحاب عن موقع الأمانة والقيادة الذي أُريد لعلي.

انّ علياً ليس واحداً من الناس! بمستوى الناس، ووعي الناس، ودرجة اخلاص الناس يومذاك للرسالة.

ماذا علي؟

علي جيش في سبيل الله;

علي الإيمان كله;

علي باب مدينة علم الرسول، وأمين سرّه;

علي من لا يؤدي عن الرسول الاّ هو،

علي من لا ينبغي أن يذهب الرسول الاّ وهو خليفته،

وعلي مفزع الأمة، ومرجعها عند الإختلاف،

علي من النبي بمنزلة هارون من موسى،

وعلي نفس الرسول، دماً ولحماً، كل ذلك على لسان النبي نفسه.

ثم بعد رسول الله (ص) ماذا حقّق للرسالة رغم اقصاءه عن الحكم؟

أنقذ الأمّة من صدمة الانحراف، أعاد لها الثقة برسالتها، حصَّنها من التميع والتحلّل، رسم لها طريق الرسالة الصحيح.

هذا هو علي.

وهكذا كان أبوذر وهكذا كان عمار.

أبوذر أمّة وحده، يمشي وحده، يموت وحده، يبعث وحده، كما قال الرسول (ص). أبوذر أصدق الصادقين، ما أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر، كما قال رسول الله (ص) فيه. وأبوذر كان عظيماً بعد النبي (ص)، عظيماً في دوره وعطائه للرسالة، ويداً من أيادي علي (ع) في تحقيق أهداف الرسالة.

وعمار..

ما سلك وادياً الاّ سلك الحقّ معه.

وإذا حدثت الفتن فالزموا عمّار. هكذا قال الرسول (ص) فيه.

وكان مثل ذاك سلمان، والمقداد، وحذيفة.

فهل يعتزل كل هؤلاء؟

إذن من يغيث الأمة عندما تستغيث؟! ومن للرسالة يعزّر مفاهيمها، ويبني رجالها، ويدفع عنها الضياع والتمويه والتحريف.

ليس هنا الاّ علي، والاّ الطليعة الواعية التي دارت في فلك علي.

على انّ الاعتزال يقطع على هؤلاء طريق الوصول إلى الحكم.

وبدون التعامل الايجابي مع الأمة، ووضع الأرقام بيدها، ستضمحل صورة علي، ولا تعرف الأمة فيه رجلا رسالياً قيادياً تستطيع أن تسلّم إليه الزمام.

وحينما تعيش الأمة نظام الشورى يكون الطريق الطبيعي للوصول إلى الحكم هو تحصيل قناعة الأمة وثقتها من خلال الحضور عندها باستمرار، والوقوع في نظرها بمستوى المسؤولية.

وعلي (ع) يطلب الحكم، ويطلبه له كلّ أنصاره والسائرين في خطّه.

لأنّ موقع القيادة هو أفضل أداة لتحقيق الأهداف، والتوفّر لإنجازها، ولأنّ موقع القيادة هو أخطر موقع في مصير الأمة ومصير رسالتها.

والرسول (ص) حينما استخلف علياً كان يقصد أن يضع بيده هذه الأداة، والاّ فإنّ علياً موجود، وهو سيبذل طاقاته وامكانياته، ويقدّمها للأمة وللرسالة، بلا حاجة إلى استخلاف! بينما كان الرسول (ص) حريصاً، بل كان الوحي حريصاً على أن توضع القيادة بيد الإمام، وعلى أن يكون هو المشرف والموجّه والمخطط للتجربة الإسلامية بعد النبي (ص).

وكان الامام يحسب لهذا الهدف حسابه، ومن هنا فلا يجوز له أن يعتزل، وينقطع عن الأمة، لأن ذاك سيذهب بالحكم إلى غيره، ويخسر الإمام أفضل أداة لتطبيق الإسلام، وتنجيز طموحاته وأهدافه، في تربية الانسانية الخيّرة.

ومن هنا فهذا الطريق هو طريق مسدود أيضاً، بحساب الأهداف ومصالح الرسالة التي يفكّر فيها الخطّ الشيعي، ويحمل همومها.

كما انّ القوى الحاكمة سوف لا ترتاح لهذا الموقف، وهي ترى فيه تحدياً لسلطانها، ومحفزاً للخروج عليها باستمرار. وبالتالي فهي لا تترك الإمام، وانّها لتأخذ منه البيعة كيفما كان.

ولقد رأينا كيف اضطربت القوى الحاكمة من الإعتزال المؤقت للإمام، وما استقرّ لها قرار حتّى أخذت منه البيعة مرغماً، وحتّى اضطرته لأن يشارك جماعتها.

انّ اغتيال سعد بن عبادة شاهد على ما قلناه... رغم انّ سعد ليس له من الخطر على الحكم القائم مثل ما للإمام وللخطّ الشيعي عموماً.

فالإمام إذن يعرّض نفسه للموت لو أراد أن يعتزل، لأن الشكوك ستحوط موقفه لا محاله، ويكون من الأفضل تصفية هذا الوجود الغامض الخطر. والجن الذي قتلوا سعد بن عبادة سيقتلون علياً بالطبع!!، لأنّه أخطر من سعد على النظام الحاكم.

 

الطريق الثالث: المجاملة

وهو أن لا ينهض علي ولا يعتزل، ثم هو في هذا الطريق يتجرّد من تصوّرات الخطّ الشيعي.

تصوّر انّ علياً هو وحده القيّم على الرسالة بعد الرسول، هو المؤدي عن الرسول، وهو المبين للأمة ما تختلف فيه، وكلمته هي كلمة القرآن، والسنّة لا يعدل بها ما سواها.

وتصور انّ الحكم القائم لا يملك سنداً شرعياً، كما لا يملك الحقّ في التعبير عن الإسلام طالما لم يكن مستوعباً لكل حقائق وتفاصيل الشريعة، ولا مستوحياً كلّ مفاهيمها وقيمها.

علي في هذا الطرق يتجرّد عن هذه التصوّرات، ويعبر كلّ الحدود الفاصلة بينه وبين الخلافة الحاكمة.

ثمَّ يعيش في الأمة كما يعيش أي واحد من الصحابة.

فلا هو يطمح في الحكم ويعمل له معارضاً حكومة الخلفاء.

ولا هو يبني القواعد الشيعية، يعزز خطّها وطريقتها في فهم الإسلام. وهذا الطريق هو الذي سلكه معظم الصحابة المؤمنين بالنصّ على الامام.

فقد تعاملوا مع الحكم القائم، متجاوزين قضية النص، ومعتبرين الحكم القائم

كما لو كان حكماً شرعياً جاء بنص الرسول، أو اجماع الأمة ان كان الأمر للأمة الأنصار الذين قالوا: " لا نبايع الاّ علياً " ماذا صنعوا؟

وخالد بن سعيد الأموي الذي دعا لعلي، واستنهضه أوّل الأمر، ورفض العمل لأبي بكر، ماذا صنع؟

بل وحتّى بعض رجالات البيت الهاشمي ماذا صنعوا؟

هؤلاء جميعاً حينما وجدوا علياً قد خسر المعركة، واستقرَّ الحكم لغيره، تركوا العمل في داخل الخط، وتركوا علياً بالذات، وتعاملوا مع الحكم كما يتعامل غيرهم ممن لم يؤمن بعلي، ولم يدع له أولا.

وعلي أمامه هذا الطريق.

يتعامل مع الحكم القائم، ثم لا يحدّث نفسه بحديث النص عليه، وقيمومته الشرعيّة على الرسالة.

يندك مع حكومة الخلفاء، وينصهر فيها.

يتنازل عن حقّه عملياً ونظرياً.

يعيش في الأمة كما يعيش أي واحد من الصحابة.

وفي هذا الطريق لا تضيع قابليات علي، ولا تحرم الأمة وجوده.

لكنّه في هذا الطريق لا يدعو لنفسه، كما لا يسعى في بناء قواعد الخط الشيعي الذي أُعطيَ حقّ التعبير عن الإسلام. لأنه قد تنازل عن هذه التصوّرات.

ولقد كان عمر يريد من علي هذا الموقف.

كان يقول لابن عباس: " يا عبد الله عليك دماء البُدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟

قال: قلت: نعم "(3).

لكن علياً لم يسلك هذا الطريق، ولم يسلكه أحد من شيعته.

لماذا؟ لأنّ تنازله عن تصوّراته خيانة وتهرّب، ولجوء إلى العافية.

انّه مسؤول عن تعريف الأمة بحقيقة الحكم القائم، وموقعه من الرسالة، من أجل أن لا تضيع الرسالة، ولا تتلاعب بها الأيدي والأهواء.

وانّه مسؤول عن تحصين الخطّ الذي يملك هذا الوعي، ويعرف هذه الحقيقة، ثمّ انّ السعي من أجل الحكم ضرورة، وهو دليل صدقه مع رأيه.

والأطروحة الشيعية للإسلام لابدّ أن تكون هي الحاكمة، لأنّها هي الأطروحة الصحيحة، النقيّة، الشاملة.

 

الطريق الرابع: التعايش السياسي

ومن هنا فلم يبق مفتوحاً الاّ هذا الطريق.

هو لا يستطيع أن ينهض، أو يعتزل، أو يتنازل، لأن أهدافه لا تقبل ذلك، إذن ماذا عليه؟

عليه أن يستجيب لنداء الأمة، ويتوفر لحاجاتها.

وعليه أن يبايع ويتصادق مع الحكم القائم، لأنّه لا يستطيع أن يخدم الرسالة الاّ عن هذا الطريق.

لكن على أن لا يتنازل، ولا يبيع تصوّراته ولا يتنكّر لها عملياً.

انّه يجب أن يوضح للناس انّه وحده القيّم على الرسالة، ويؤكد لهم هذا المفهوم. ويجب أن يتّخذ طريقه إلى الحكم، مادام يرى انّه وحده الذي يملك مؤهلات الحكم، كما أراده الرسول والقرآن، لا كما يريده الحاكمون. وفي فصل سابق درسنا نشاطات علي في بناء القاعدة الشيعية.

أمّا الجانب السياسي من نشاطه في هذه المرحلة فهو ما نتوفّر له الآن.

على العموم كان الإمام مؤمناً بضرورة تسلّم الحكم، واقصاء القيادات غير الكفوءة، ولقد سعى في هذا السبيل حتّى قيل: " إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص ".

فأجاب: " بل أنتم والله لأحرص، وإنّما طلبت حقّاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه "(4).

ولقد كان واضحاً لعموم المسلمين، وللخلفاء أنفسهم، انّ علياً غير متنازل عن حقّه، ولا ساكن عن بيانه.

وعلى العموم كان الخطّ الشيعي يطمح إلى الحكم، ويستفيد من الفرص.

 

مناهج العمل:

أمّا مناهج العمل:

ففي البداية كانت هناك محاولة لتقويض نظام الحكم، اشترك فيها بشكل وآخر كل من علي والزهراء والمخلصين للخطّ الشيعي.

ولا تتّخذ هذه المحاولة أسلوب العمل المسلّح، فقد كان واضحاً لقوى التشيّع انّها غير قادرة على التدخل بهذه الطريقة، غير انّ ذلك لم يمنع من محاولة جريئة بصيغة قلب القواعد الشعبيّة نفسها على الحكم القائم، واقناعها بضرورة نفض اليد من الاعتراف به.

ولقد كان ذلك هو الطريق الوحيد الذي تستطيع قوى التشيع أن تسلكه.

فعبر دراسة تحليلة للوضع القائم يومذاك، يتّضح انّ الرصيد الشعبي الذي ظفرت به خلافة السقيفة لم يكن معتمداً على أسس رصينة، ووضوح تام للموقف، انّما القصور في الوعي السياسي، والوعي الديني، لدى المسلمين، وروح المبادرة، وطريقة الغغط والإرهاب من جانب القوى الحاكمة، كان هو المساعد جداً على نجاح محاولة استلاب الحكم من علي.

المسلمون جميعاً لا يشكّون في علي.

والمسلمون جميعاً مهاجرون وأنصار وأعراب وقريش سمعوا مقالة رسول الله في علي ووعوها، وانّهم ليعلمون حقّ العلم انّ الأمر إليه وحده. لا لوصية الرسول فحسب، وانّما لموقع علي من الرسالة، ماضيه المجيد، استيعابه التام، اخلاصه الفذ، تفانيه المنقطع النظير، تجسيده لمفاهيم وقيم الرسالة. حتّى لقد كانوا ينظرون إليه على عهد رسول الله كما ينظر إلى النجم، وحتّى كانوا يقولون إذا جاء علي جاء خير البريّة.

لكنّهم في ذات الوقت لا يدركون البُعد الحقيقي لاقصاء علي عن الحكم، وبدت لهم القضية كما لو كانت تبديل أشخاص.

وحينما تبدو القضية بهذا المستوى فلا داعي للحرص والتكلّف والحديّة، ومن الأفضل اقرار الحكم البديل من أجل الحفاظ على وحدة الصفّ الإسلامي.

ولا حراجة في طرح وصية الرسول والخروج عليها، طالما لم يكن في الخروج عليها مفسدة للرسالة.

كما انّ العمل السريع الذكي، وحسم الأمور بسرعة ولباقة، والتحدّث من منطق القوّة، وأسلوب الضغط والتهديد والتخويف، زائداً على التشكل بصيغ شرعية، واتّهام أية حركة مضادّة بالإساءة للأمّة والرسالة، كل ذلك مما اتخذته القوى الحاكمة ساعد على تحصيل قناعة اكثر المسلمين بالحكم القائم تسليماً للأمر الواقع، وتذويب حماسهم لقضية علي.

اُنظروا...

ما وجدوا شخصاً الاّ خطبوه، خطبة أبي بكر في الجامع، تهديده علياً والأنصار واتّهامه لعلي بالفتنة.

وحينما تصاب العقول بالشك، وتموت الإرادة، ويذوب الحماس، لا ينفع العمل المسلح، بل لا يمكن. لأن أحداً سوف لا يتحرّك للتأييد فضلا عن الاشتراك والجماهير التي اندفعت لبيعة أبي بكر كانت مصابة بالشك، والإنهيار، والقلق.

وهنا سوف لا تنجح أية صيغة للعمل إن لم تعالج هذه الإصابة، وتمسح الأفكار، والتصوّرات، والنفسيّات المريضة، مستبد له بوضوح تام، وتصور عميق، وارادة حيّة صلبة غير متخاذلة.

ولابدّ من تحقيق كلّ هذا بسرعة، وحرارة، وتكثيف الجهود والطاقات والمساعي قبل أن تستحكم الإصابة، وينقطع النفس الأخير للإرادة وللوعي معاً.

ولأن القوى الحاكمة تتحرك بسرعة، وتبادر لخنق أية محاولة وهي في المهد، وهنا جاء دور علي والزهراء والمخلصون للخط.

جاء دورهم بغاية تعرية الحكم القائم، وتحذير الأمة من مخاطره على التجربة وعلى الرسالة.

وبغاية تحريك عزمهم، وتثوير ارادتهم، وشحنهم بالحرارة والحماس للقضية، بعد توعيتهم وتعريفهم بأبعادها الرساليّة.

وبغاية فصل هؤلاء عن الحكم القائم، وسلب تأييدهم له، ومن ثمّ الإنخراط في سلك علي.

تحركت الزهراء، ومعها لفيف من نساء قومها، لا تخرم مشيتها مشية رسول الله. ذكّرتهم بأبيها، وموقعها من أبيها، وأنَّت أنَّة أجهش لها القوم بالبكاء، ملكت العواطف والأسماع والعقول، بكلّ قوّة وكلّ حرارة، وكل حماس.

وبكل دقة، وتركيز، واستهداف. ذكّرتهم بماضيهم البطولي المجيد، بتضحياتهم العميقة العريقة.

ذكّرتهم بالشهامة والاباء والإخلاص للرسالة.

وأعادت لصفحة فكرهم علياً، موقعه من الرسالة، وموقعه من الرسول، وموقعه من الأمة كلها.

وانحدرت تشرح لهم واقع ما جرى الآن، خطره على الرسالة، وبُعدُه عن الرسالة.

حذّرتهم عن السكوت، والإقرار، والتخاذل.

صوّرت لهم مستقبل التجربة في ظلّ هذا الواقع.

" أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاءه إلى الأمم، زعيم حقّ فيكم، وعهد قدّمه اليكم، وبقية استخلفها عليكم... ".

" أيّها الناس اعلموا..

انّي فاطمة، وأبي محمد، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم... ".

" يا معشر النقيبة، وأعضاد الله، وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقّي، والسنة عن ظلامتي، أما كان رسول الله (ص) أبي يقول: " المرء يحفظ في ولده " سرعان ما أحدثتم.. ".

" هذا والعهد قريب، والكلم رهيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا، وانّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ".

" فهيهات منكم، وكيف بكم، وانّى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، واحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا... ".

ثم تخاطب المشاعر والعواطف والقلوب، تحيي جذوة الحماس، وتثير بقية البطولة، " إيه بني قيله... ءأهضم تراث أبي؟

وأنتم بمرئىً مني ومسمع، ومنتدى ومجمع؟

تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذو العدد والعدّة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنَّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون؟

وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت... ".

خطبة كأنها النار، أو كأنّها العاصفة; كلّ كلمة فيها ثورة، وكل حرف فيها رصاصة.

عصفت بهؤلاء فكأنما أيقظتهم من غفلة، ودقت في أسماعهم وعقولهم الطبول.

" أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع، أَمَّن لا يهدي الاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون "؟ واهتزّ لها الحاضرون، فكأنّما فكَّتهم من عقال، وأزاحت من فوق صدورهم صخور الجبال، وكاد أن يحدث كل شيء.

كاد أن تكون ثورة، ترفع وتضع، وتقلب التاريخ.

وشعرت بهذا قوى الحكم، فاستدرك (أبوبكر)، واستعمل كثيراً من الحذق والسياسة، فجاء يصب الماء على النيران الهائجة، ويهدء هذا الزلزال العنيف.

ثم جاء علي.. وانّ السيف يعلوه وهو مكبّل.

ولو كان يريد الموت ساعته لقال كل شيء، لكنه سيقتل ثم تضيع الحقيقة، وتضيع الرسالة.

أمّا هو فيريد أن يبقى، لأن الرسالة تريد منه البقاء، مهما كلّف الأمر، ومهما أعطى من التنازلات.

وكان رسول الله (ص) يحدّثه بما يجري عليه، ويأمره بالصبر.

" يا علي انّ الأمة ستغدر بك ولكن علياً لابدّ أن يقول الكلمة.

والكلمة هنا أقسى من السيف، لأنها ستبقى للتاريخ، وستغيّر مجرى التاريخ. وانّ عليه أن يحاول ثم لا يهمّه أن تحبط مساعيه.

لقد خطب المهاجرين: " يا معشر المهاجرين: الله، الله، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه.

فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان منّا القارئ لكتاب الله، الفقيه لدين الله، العالم بالسنّة، المضطلع بأمر الرعيّة، والله انّه لفينا فلا تتّبعوا الهوى فتزدادوا من الحقّ بُعداً ".

لكن هذا الخطاب الاستنهاضي من الإمام علي (ع) لم يترك بدون تصد وتحد من الحزب الحاكم.

فقد قال له أبو عبيدة: " يا أبا الحسن، انّك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبابكر الاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشدّ احتمالا له واضطلاعاً به، فسلّم له الأمر، وأرض به فانك أن تعش ويطل عمرك، فأنت لهذا الأمر لخليق، وعليه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك ".

قول يهدئ فيه مشاعر الناس، ويمسكها من الإنفلات. أمّا أبوبكر فقد بدأ شديداً، لأنه لابدّ من شدّة كما لابدّ من لين.

قال: " أيّها الناس ما هذه الرعة إلى كلّ قالة؟ لئن كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (ص) الا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم ".

لكنه استرسل في القول: إنّما هو ثعالة شهيدهُ ذنبه ـ يعرّض بعلي ـ مربّ لكل فتنة، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي.

ألا انّي لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لبحت، انّي ساكت ما تركت.

ثم التفت إلى الأنصار، وهم ذوو ميل في علي، فقال: " قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحقّ من لزم عهد رسول الله (ص) أنتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم.

ألا انّي لست باسطاً يداً ولا لساناً على من لم يستحقّ ".

وأخمدت النار مرّة أخرى.

أمّا المخلصون لعلي، والمؤمنون بخطّه، فنستمع للبراء بن عازب يحدّثنا عنهم، حيث يقول في رواية ابن أبي الحديد: " لم أزل لبني هاشم محباً فلما قبض رسول الله (ص) تخوّفت أن يتمالا قريش على اخراج هذا الأمر عن بني هاشم، فأخذني ما يأخذ الواله العجول.. ".

إلى أن يقول: " فلمّا كان بليل خرجت إلى المسجد...

فخرجت إلى الفضاء، فضاء بني بياضة، وأجد نفراً يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم فعرفوني وما أعرفهم فدعوني اليهم فأتيتهم فأجد المقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وأباذر، وحذيفة، وأبا الهيثم بن التيهان.

وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ".

 

قوى الحكم تعزل التشيّع:

كان من نتيجة المحاولات السابقة أن شعرت قوى الحكم بخطر الوجود الشيعي الموالي لعلي.

ورغم انّ تلك المحاولات لم تنجح في استرداد السلطة، الاّ أنّها وضعت القوى الحاكمة موضع التحسب لها باستمرار، ونبّهتها على خطر الوجود الشيعي، وضرورة الإحتياط منه.

انّ هذا الشعور هو الذي دعا القيادة الحاكمة إلى عزل الوجود الشيعي عن الأمة قدر الإمكان، ومحاولة تفتيته وحلّه باستمرار.

وفي هذا الصدد يذكر المؤرخون انّ الخليفة ومعه جماعة ذهب إلى العباس ـ بعد أن أشير عليه بذلك ـ فقال بعد حديث له: " ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، يكون لك ويكون لمن بعدك من عقبك، إذ كنت عمّ رسول الله "(5).

وكانت هذه محاولة لفصل العباس عن الخط الشيعي، والحجز بينه وبين علي.

وقد لاحظ ذلك الأستاذ العقاد فقال في كتابه "عبقرية الصديق"(6).

وفي البداية كان أبو سفيان قد دعا لعلي وعرض عليه البيعة.

ورغم انّ أكثر الباحثين يشكّون في نوايا أبي سفيان في هذا الاقتراح.

ألا انّ بعض الكتّاب فهم موقف أبي سفيان باعتباره عصبية لبيت (عبد مناف) الذي يلتقي عنده بنو هاشم وبنو أمية.

ومهما يكن في شأن هذا الموقف، فانّ القوى الحاكمة بادرت للتغلّب عليه، وجرّ أبي سفيان إلى صفوفها.

ولقد أشار عمر على الخليفة الأول أن يعفي أبا سفيان من كان بيده من الصدقة، ففعل، فرضي أبو سفيان، وانحاز إلى الحزب الحاكم.

وواصلت قوى الحكم عزلها للوجود الشيعي، وتقليص نفوذه في الأمة، لأنّ هذا الوجود ليس هيناً، صغيراً، حقيراً.

انّه يملك أفضل موقع، وأنصع صورة، في نظر الناس.

كما انّه يملك الحقّ، والصدق، والشرعيّة.

وممثلوه يملكون الإخلاص، والبطولة، والصلابة.

وانّ أي تحرّك من هؤلاء قد يؤدّي بالحكم القائم.

ومن هنا لابدّ من عزل هذا الوجود، وتصغيره للناس، وسلب امكانياته على التحرك، ولقد نجحت الخلافة الحاكمة في عزل الخط الشيعي عن مواقع المسؤولية.

فلقد سمعنا عن قيادات أبي عبيدة الجراح، وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وتولّيهم لمواقع عسكريّة وسياسيّة ولكننا لم نسمع عن قيادة لعلي بن أبي طالب أيام الخلافة الحاكمة في جيش أو ولاية.

ولقد كان من السهل تفسير هذا لو انّ علياً لم يكن محارباً من الطراز الأول...

كان هناك إذن تجنب لعلي وحزب علي في ميادين القتال.

كما كان هناك أيضاً تجنب لهم في تولية المناصب "(7).

حتّى انّ معاوية سجّل هذه الحقيقة في كتابه لـ (محمد بن أبي بكر)، فقد قال فيه: " ثم انّه ـ علياً ـ بايع لهما وسلّم لهما، وأقاما لا يشركانه في أمرهما، ولا يطلعانه على سرّهما، حتّى قبضهما الله... "(8).

وفي رواية الطبري وابن عساكر: انّ أبابكر بعث الجنود إلى الشام، واستعمل فيها خالد بن سعيد، فأخذ عمر يقول: أتؤمره وقد صنع ما صنع، وقال ما قال: فلم يزل بأبي بكر حتّى عزله، وأمر يزيد ابن ابي سفيان "(9).

وخالد بن سعيد هو الذي دعا لعلي، واستنهضه، ورفض العمل لأبي بكر وانّ عمراً يذكر له تلك المواقف، ويحسب لها كلّ حساب، فلم يزل بأبي بكر حتّى عزله!

رغم انّ خالداً كان أموياً، وانسحب عن علي فيما بعد.

لكن حيطة القوى الحاكمة كانت كبيرة.

حتّى انّ أدنى الاحتمالات يكفي لاتّخاذ موقف صارم، كالذي وقفه عمر من خالد بن سعيد.

ولقد مضى منّا القول انّ قوى الحكم رفضت حتّى قرآن علي يوم جمعه وقدّمه فقالوا: " لا حاجة لنا في قرآنك ".

والرواية السنيّة وإن لم تذكر هذا النصّ، الاّ انّ قضية جمع علي للقرآن مرويّة في المصادر السنيّة ولا يوجد أي شك في أنّ الخلافة الحاكمة لم تعتمد هذا الجمع.

بل انّ قوى الحكم لم ترفض جمع علي للقرآن، وانّما لم تشركه في مهمة الجمع التي تصدّت لها هي، ولو لم يكن علياً أعلم الناس بالقرآن، أو من أعلمهم ـ لا أقل ـ لأمكن تفسير هذا الموقف بسهولة.

أمّا وهو يعلم كل آية متى نزلت، وأين نزلت، وفيم نزلت، فإن عدم اعتماده في العمليّة لا يمكن تفسيره الاّ ببعض الأبعاد السياسيّة.

وزيادة على ذلك فإنّ أبابكر أسقط سهم ذوي القربى من الخمس، وهو ثابت لهم بنصّ القرآن، كما منع فاطمة الزهراء فدكاً، وقد كان غلتها من أبيها.

وليس لهذين الموقفين أي تفسير سوى البُعد السياسي.

فليس من صالح الحكم من وجهة نظر سياسية أن توضع ثروات طائلة بيد علي، وتحت سلطانه، مادام علي (ع) يقود أكبر حركة مضادّة.

إنّ سهم ذوي القربى سيكون من نصيب علي، كما انّ فدكاً ستصبح بيد علي (ع).

ولو كان لهذين الموقفين تحليلا دينياً، لما وجدنا الخليفة الثاني، يرجع فدكاً للزهراء، ولعلي سهم ذوي القربى لأهله، وهو الذي كان يقول: " انّي لأستحي الله أن أخالف أبابكر ".

غير انّ استقرار الحكم للخليفة الثاني، واستتباب الأمن له، زائداً على العلاقة الايجابية بينه وبين علي بالذات، دعته لإرجاع تلك الحقوق دون قلق.

 

المنهاج الجديد:

وفي ظل هذا الواقع، وبعد أن أصبح متعذراً استرداد الحكم، كان لابد من ايديولوجية جديدة في العمل من أجل أن لا تضيع كل الأهداف، ومن أجل أن تضمن الحياة للرسالة المهدّدة. ومن ذاك كانت الخطة الجديدة تقتضي قدراً أكبر من الانفتاح، والتعامل مع قوى الحكم بروحيّة أكثر مرونة، لا على حساب الأهداف، وانّما في صالح الأهداف، وحيث تسوّغ الأهداف.

وعلى ذلك فقد بايع علي، وبايع الخط الشيعي كله، يوم أصبحت القناعة كافية بأن الاستمرار على الرفض يهدّد مصير الخط، زيادة على انّه يعوقه عن تسجيل أي موقف ايجابي للرسالة.

وفيما يتعلق بهدف الوصول إلى الحكم كان الانفتاح ضرورياً أيضاً.

لأن القوى الحاكمة أصبحت تملك الحاضر والمستقبل، وانها لقادرة على قطع الطريق أمام الخط الشيعي.

انّ مفاتيح الحكم ليست بيد الأمة، انّ القوى الحاكمة سيطرت حتّى على ذلك، وأصبح شأناً من شؤونها، وواحداً من صلاحياتها.

وبجرَّة قلم تستطيع أن تصرف الحكم عن الخطّ الشيعي كما صنع الخليفة الأول، وانّه ليستطيع بمثل ذلك أن يضع الحكم لمن يحذر.

وأحد لا يستطيع أن يعارض، ويشجب، ويرفض، والاّ فانّه صاحب فتنة، وداع إلى شق وحدة المسلمين، وما أسرع أن تشمله عملية التطهير!!

والخليفة بعد ذاك هو إمام المؤمنين وأميرهم وخليفة رسول الله (ص)، وقد بايعوه على الطاعة، فكيف يرفضون رأيه؟ وعقلية الشورى لم تجد لها نصيراً.

كما انّ طريقة الشورى لم تعرف لنفسها مصداقاً منذ مات رسول الله (ص).

حتّى انّ أبابكر حين استخلف عمر، حاول بعض المسلمين أن يعترض أو يسأل عن سبب هذا الإختيار، فلم يسمع له أبو بكر بذلك.

وأنا لا أدري ماذا كان يقصد طه حسين يوم قال: " لم يكن استخلاف أبي بكر لعمر إلاّ ترشيحاً له "(10).

وهل أعطي أحد من الأمة حقّ الرأي، والاعتراض، والاختيار؟

والخلاصة انّ عواطف الخليفة أصحبت هي الطريق الطبيعي والوحيد للوصول إلى الحكم. وبهذا وصل عمر، ووصل عثمان.

ومن هنا كان الخط الشيعي واقعاً في حراجة بالغة، هي أشبه بمأزق. فمن ناحية لابد من الاستجابة لنداء الامة.

ومن ناحية لابد من التعاطف مع الحكم.

ومن ناحية ثالثة لابد من الوقوف بوجه الحكم أيضاً، للحدّ من تعدّياته وهذا هو المأزق.

وعلى أي حال، فاستجابة لمجموع هذه الملاحظات، كانت الضرورة تحكم الخط الشيعي بأن يلتزم سياسية الانفتاح.

 

طبيعة الانفتاح:

لكن طبيعة هذا الانفتاح وحدوده تخضع للأهداف، وللرسالة، وللشريعة: فهو انفتاح يحمل معنى التعاون، والارشاد، والتوجيه، كما يحمل معنى الضغط، والتصحيح، بالحجم المناسب.

انفتاح مرادف لكلمة التقويم، بأي اسلوب كان التقويم، وأمكن التقويم.

حتّى كان علي هو القائل " نقوّمك بسيوفنا " يوم سأل الخليفة: " ماذا كنتم صانعين، لو صرفناكم مما تعرفون إلى ما تنكرون ". وفي الوقت نفسه كان هو القائل يوم أتاه عمر يسأله عن مسألة: " لو دعوتني لأتيتك " هذه الطبيعة هي التي فرضها الوضع السياسي والديني فى المرحلة الراهنة، ولقد بدأت القوى الحاكمة تطمئن شيئاً فشيئاً للخط الشيعي، وتتعامل معه بانفتاح مماثل.

لأنها بحاجة إليه من ناحية، ولأنه يملك رصيداً شعبياً كبيراً، ولو على مستوى التأييد.

وطبيعي أن يمرّ هذه الانفتاح بوضع تدريجي، حتّى شهدت أيام أبي بكر بداياته الخفيفة. لكنها تعتبر بداية الطريق المبارك بالنسبة للتشيع الذي كان مهدّداً، ومحظوراً، ومطلوباً له الفناء.

وفي عهد عمر بلغت العلاقة بين الخليفة والخط الشيعي مستوى القمة، حتّى كان علياً هو المستشار الأول للخليفة، واستطاع أن يفرض نفسه فرضاً، ويضع الخليفة نفسه تحت شعاعه، حتّى كان يقوم ويقعد بمدح علي، والاطراء عليه، وصعد نجم علي.

واتضح للأمة دوره الخطير.

وسجّل للمسلمين عمق وجوده الرسالي، فهو الأمين على الرسالة، وهو الحصن الذي يفزعون إليه.

وكان شخص علي في كل نائبة، وفي كل معضلة.

فلا داعي للقلق، ولا داعي للطيرة وعلي (ع) في الوجود.

شاهدوا مصداق أقوال الرسول (ص)، حينما حدثهم كثيراً عن علي، وأكّد لهم انّه الوحيد لهذه الرسالة، ولهذه الأمة.

ولا نرجع هنا للحديث عن عطاء علي، إنّما نريد الجانب السياسي.

وكان ابن عباس مستشاراً لعمر.

وكان عمار والياً لعمر.

وكان سلمان والياً لعمر.

وكان حذيفة والياً لعمر، يسأله عن المنافقين، ويسأله عن نفسه، فيما إذا كان يعرف فيه شيئاً من النفاق أولا، ويقول له: " أنت أخي وأنا أخوك ".

وفي الصف الأول وقف علي وشيعة علي.

حتّى انّ عمر ليدافع عنه أحياناً.

وفي رواية أخرى: " جاء أعرابيان يختصمان فقال عمر: يا أبا الحسن اقض بينهما، فقضى علي

على أحدهما فقال المقضي عليه: يا أمير المؤمنين بهذا يقضى بيننا؟

فوثب إليه عمر فأخذ بتلابيبه ثم قال:

ويحك ما تدري من هذا. هذا مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن "(11).

في مرّة وقع رجل في علي بن ابن طالب بمحضر من عمر فقال له عمر: " أتعرف صاحب هذا القبر؟ هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لا تذكر علياً الاّ بخير فانك إن تنقصه آذيت صاحب هذا القبر "(12).

ومن يلاحظ الوضع السياسي للتشيع بمثل هذا الوقت يعرف كم كانت سياسية الإمام رائعة، وكم حققت للخطّ الشيعي، وللإسلام عموماً من خدمة.

إنّ علياً هذا هو نفس علي الذي كان مهدداً بالقتل يوم امتنع عن البيعة. وهو نفسه الذي قال لعمر: " اطلب حلباً لك شطره ".

وهو نفسه الذي أرادت حكومة أبي بكر عزله عن الأمة، وإطفاء نوره، والشيعة اليوم هم اولئك الشيعة الذين عملت حكومة أبي بكر على تنحيتهم وتخلية الساحة منهم.

لكن الايديولوجية الجديدة التي اتبعها الخطّ هي التي ضمنت له وجوده، ووفرّت له الاتصال بالأمة، والتسلق إلى الحكم، حتّى كان عمراً عازماً على تولية الإمام علي (ع) كما أظهر ذلك.

ولقد كان عازماً على أن يستخلفه بعده.

انظروا: كل الجذور النفسية كسّرها علي، وكل دواعي الانفصام تجاوزها علي، واقترب من الحكم، حتّى كان الخليفة يريد توليته، فقد قال ذات مرّة: " لقد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي رجلا أمركم، أرجو أن يحملكم على الحقّ وأشار إلى علي "(13).

وفي مرّة أخرى قال لرجل انصاري: من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟ فعدَّد الأنصاري رجالا من المهاجرين ولم يسمّ علياً، فقال عمر: فما لهم عن أبي الحسن؟ فو الله انّه لا جرم ان كان عليهم أن يقيمهم على طريقه من الحقّ "(14)وفي رواية أخرى انّ عمر سأل يوماً: " من تستخلفون بعدي؟

فقال رجل من القوم: نستخلف علياً.

قال: انكم لعمري لا تستخلفونه، والذي نفسه بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحق وإن كرهتم ".

التحرّك الشيعي:

وفي ظل هذا الجو تحرّك الشيعة سرّاً وجهراً، تغلغلوا في الأمة، فتحوا الأبصار، وأزالوا الحجب.

وفي الخفاء وفي الجهر كانت دعوتهم لعلي مستمرّة. ربط الأمة به، وتعريفها بوجوده وموقعه، حتّى ورد في الرواية: " بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله.. إذ أقبل رجل معتم فجعل ابن عباس لا يقول: قال رسول الله (ص) الاّ قال الرجل: قال رسول الله.

فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟

فكشف العمامة عن وجهه وقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة، أبوذر الغفاري، سمعت رسول الله (ص) بهاتين والاّ صمتا، ورأيته بهاتين والاّ عميتا، يقول: علي قائد البررة، قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله "(15).

وهكذا.. ابتداءً وبدون سؤال يذكّر الناس بعلي، ويضع أمامهم الأرقام، فما ترى موقفه لو سئل عن علي، أو انجرّ الحديث إليه؟

وذات مرّة كان سلمان خارجاً مع المسلمين في غزو (بلنجر)، قال لأصحابه:

" أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم؟

فقالوا: نعم.

فقال: إذا أدركتم شباب آل محمد (ص) فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم، فأما أنا فانّي أستودعكم الله... "(16).

ولقد نستطيع القول انّ نسبة كبيرة جداً من مناقب علي، وتصريحات الرسول فيه، وصلتنا عن طريق هؤلاء، يوم كانوا يعملون جادين في الدعوة إليه.

ولا يكاد المسلمون يواجهون مشكلة الاّ وكان وأحداً من هؤلاء الشيعة يذكّرهم بعلي، ثم ينهض ويدعو علياً.

وربما كان عملهم في السرّ أكثر منه في العلن، فقد لاحظ المستشرق (ماسينون) انّ سلمان الفارسي عقد حلفاً مع بني عبد قيس، واستطاع أن يضمّهم وحلفاءهم من الحمراء ـ الجنود الفرس السابقين ـ إلى آرائه الخاصة بأحقيّة علي "(17).

وهذا هو التفسير الوحيد لعزل عمر ايّاه، والمعروف انّه بلغته عنه وشاية، دون أن يذكر المؤرخون محتواها، لكن الشيء المؤكد انّ الوشاية كانت تتصل برأي سلمان في علي، ودعوته إليه.

وعمّار هو الآخر كان والياً لعمر على الكوفة، ثم عزله عمر لوشاية بلغته فيه. وهنا أيضاً لم يذكر المؤرخون هويّة تلك الوشاية، لكن شيئاً غير الدعوة لعلي لا يمكن أن يفسّر لنا تلك الوشاية، فمثل عمّار لا يُظنُّ به ما يدعو المسلمين للوشاية به عند عمر، وعمّار هو من نعرف.

وكان الزبير هو القائل: " لو قد مات عمر بايعنا علياً ".

توجّس الخليفة:

ومهما كانت درجة انفتاح الخليفة على الخط، فانّه غير مستعد لقبول تحرّك كاسح من هذا القبيل.

وحتّى لو كان يريد تولية علي بعده، فانّه غير مستعدّ لأن يفعل ذلك بضغط الشيعة، وبفرض منهم، عن طريق لفّ الأمة بعلي، وتوجيهها إليه، وارغام الخليفة على النزول عند رغبة الأمة.

كما انّه لا يوجد أي دليل على انّ الحركة إذا وجدت المجال مفتوحاً ستدعو لنفسها، واسترداد الحكم من عمر.

كانت هاتان مشكلتان، تدعوان الخليفة إلى التوجس وإعادة النظر.

فالزحف الشيعي العنيف قد يبلغ إلى درجة يضطر عمر عندها لتولية علي بعده، وانّه يريد أن لا يلزم نفسه بشيء من هذا القبيل.

ولقد وقعت هذه الملاحظة في نظر عمر نفسه، حتّى انّه يوم نقلت له مقالة الزبير: " والله لو قد مات عمر بايعنا علياً " بدت عليه آثار الفزغ والقلق، حتّى لقد أراد أن يقول كلمته أمام الجميع، وبسرعة ودون تأخير، لكن عبد الرحمن هدَّأ منه.

تحرّك القوى الانتهازية:

وحينما جدّ الشيعة في العمل بدأ خصوم الخط بالاندحار.

وكلّما تسلّق علي درجة، هبط خصومه الحقيقيون درجة، ووضحت عندهم الحقيقة.

انّ الأمر صائر إلى علي لا محالة، وعلي هو محمد، وهو القرآن، وهو الرسالة، وانّهم خاصموا محمداً على الرسالة، وأسلموا يوم أسلموا ولمّا يدخل الايمان في قلوبهم، ولو جاء علي لكان لهم ساعة الصفر المميتة.

وماذا ينتظرون؟ والخليفة يمجّد بعلي، ويقرّبه، وينوي أن يستخلفه، والعلاقة بين الخليفة والخطّ الشيعي آخذة بالصعود.

وعلي يزداد شعبية، ووضوحاً، وحضوراً عند الأمة يوماً بعد يوم.

تساءلت القوى الانتهازية عن كل ذلك، وتساءل خصوم علي من قريش، وخرجوا بنتيجة: انّه لابد من العمل للإيقاع بين علي والخليفة. ولابدّ من ايقاف المدّ الشيعي عند حدّه.

وحينما عرضت على نفسها هذا الاقتراح وجدته ممكناً ميسوراً.

لأنّ الخليفة أساساً لم يكن مؤمناً بالخطّ الشيعي وان انفتح عليه أخيراً.

ولأنّ الخليفة نفسه له سابقة مع هذا الخطّ يمكن إثارتها.

ولأنّ علياً كثيراً ما يختلف، ويعترض، ويحاسب الخليفة، ممّا يسهل عملية الإيقاع، ولأنّ الخط الشيعي بدأ يتحرك في خارج الدائرة المسموح بها، مما يمكن استغلاله لإلفات الخليفة إلى خطورة ذلك، وضرورة الوقوف بوجهه.

وبالفعل تحرّكت القوى المضادّة للتشيّع، القوى التي تريد الإسلام لا كما أراده محمد (ص) والقرآن، وإنّما كما تريده مصالحها وقيمها، والاّ فانّها حرب على الإسلام.

هذه القوى التي عرفت في علي الحارس الأمين لمبادئ الإسلام تحركت بسرعة، ولياقة، وفنّ.

وبدأت تقترب من الخليفة، وتوسوس له، وتوجّسه من موقفه مع التشيّع، وشت بعمّار، ووشت بسلمان.

ثم جاءت متظاهرة بالإخلاص، والحرقة، والحب للخليفة.

جاءت تنقل له مقالة الزبير: " لو قد مات عمر بايعنا علياً " وتطلب أن يغار لنفسه، وخلافته.

قال له عبد الرحمن بن عوف: " هل لك في فلان؟! يقول لو قد مات عمر بايعنا علياً ".

واستشاط عمر غضباً، وقال:" انّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمرهم... ".

" فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين لا تفعل فانّ الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغاءهم فأمهل حتّى تقدم المدينة فانّها دار السنّة فتخلص بأهل الفقه، وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً، فيعي أهل الفقه مقالتك، ويضعوها على مواضعها. فقال عمر: أما والله ان شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة، ثمّ ان عمر صعد المنبر في أوّل جمعة قدم المدينة فخطب فقال: " انّه قد بلغني انّ فلاناً قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، فلا يغرنّ امرء أن يقول انّ بيعة أبي بكر فلتة، وانّها قد كانت كذلك الا انّ الله وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا من المسلمين بغير مشورة من المسلمين فانّه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ".

وبدأ الخليفة يتراجع.

وحينما يسئل عن علي، وقضية استخلافه يقول: " لو لا دعابة فيه "، وتدريجياً أخذ يبتعد عن الخط، ويصرف المستقبل عنه، وهنا جاءت الخطوة الثانية لقوى الانتهاز.

التآمر على الخليفة:

وقطعاً لطريق العودة فكّرت قوى الانتهاز في قتل الخليفة، وارتكاب الجريمة في حقه.

لأنه إذا انصرف اليوم عن علي فقد يرجع إليه غداً، وقد يعزم على توليته مرّة أخرى. ومن هنا عملت قوى الانتهاز على تصفية الخليفة، وحسم القضية بسرعة. وارتكبت الجريمة دون أن يكشف النقاب عن اعضاءها، وأحيطت بكثير من الغموض.

والشيء الذي يذكر، المؤرخون انّ ابا لؤلؤة المجوسي هو الذي باشر الجريمة.

وبصدد تعليل ذلك واكتشاف دواعيه يذكرون انّ مشاحنة جرت بين الخليفة وبين ابو لؤلؤة، دعته إلى الثأر لنفسه بقتل عمر.

غير انّ أحداً لا يمكن أن يصدّق ذلك.

فالمشاحنة لم تكن بمستوى يدعوا إلى القتل، أو ما دون القتل.

ومن ناحية ثانية فإنّ (كعب الأحبار) كان قد تنبأ لعمر بالشهادة ما بينه وبين ثلاثة أيام.

والمعروف انّ كعب الأحبار هذا كان على علاقة وطيدة بالبيت الأموي، وكان فيما بعد هو المقدّم أيام عثمان، كما انّه هو الذي تنبأ لمعاوية بالحكم بعد عثمان، وكان على صلة وثيقة جداً بمعاوية أيام عثمان نفسه.

وأقل ما يدل عليه هذا التنبؤ انّ كعب الأحبار كان على علم بالمخطط الذي يجري لاغتيال الخليفة، ويبدو انّه حاول تغطية الموضوع إلى حين ينجح المخطط، كما أراد أن يدفع عن نفسه شبهة التدخل.

ومن زاوية أخرى فإنّ عبد الله بن عمر حين انتهى إليه مقتل أبيه أسرع إلى تصفية القتلة قبل التحقيق معهم، والتأكد من ارتكابهم للجريمة.

وهنا ينقدح هذا التساؤل:

من الذي عرّف ابن عمر بالقتلة؟ بينما لا توجد أي دلائل اثبات.

وكيف استساغ أن يقتص منهم قبل اجراء أي تحقيق؟

انّ ذلك يمكن تفسيره على أساس انّ المتآمرين على الخليفة هم الذين أسرعوا لتحريض ابن عمر، وتعريفه بالقتلة من أجل حسم القضية، وخنقها، لتبقى العناصر الأخرى المتآمرة مجهولة، ولا يوجد تفسير آخر لذلك.

وعلى أي حال فقد بدأ الباحثون المحدثون يقتربون إلى القناعة بهذه الفرضية، فرضية التآمر على الخليفة الذي استعان بأبي لؤلؤة ثم أسرع لقتله ليبقى التخطيط سراً.

وكيف كان فقد نجحت قوى الانتهاز في صرف الحكم عن علي، وتغيير وجهة نظر الخليفة فيه.

فهم المرحلة:

وقد يكون من دواعي تغيير وجهة نظر الخليفة الثاني في الإمام، وتوليته بعده، طبيعة فهمه للأحداث من ناحية، وتصوراته عن الإمام من ناحية ثانية.

فقد لاحظ الخليفة عمر انّ الإسلام بحديّته لا يمكن أن يواصل نجاحه في الأمة مع تزايد التقلبات الاجتماعية والاقتصادية التي تطرأ على المجتمع يوماً بعد يوم.

فقد أوحت بوادر التحلل، والانغماس في مفاهيم الدنيا وقشورها، التي شوهدت في المجتمع الإسلامي بعد التوسعات الضخمة، أوحت إلى الخليفة عمر بن الخطاب انّ الإسلام أصبح بمستوى يعجز عن ضبط الأمة، وتربيتها بالطريقة المطلوبة، كان يقول:

" انني سننت الإسلام سنّ البعير، يبدأ فيكون جذعاً ثم ثنياً ثم رباعياً، ثم سداسياً ثم بازلا، الا فهل ينتظر بالبازل الاّ النقصان، الا فإنّ الإسلام قد بزل ".

وكان يشهد بداية ظهور الطبقات المترفة الغنية، والتي تنفصل تدريجياً عن قيم ومفاهيم الإسلام، حتّى كان يقول آخر أيامه وهو ينظر إلى ثروة بيت المال:

" أجل والله ولكن لم يعط قومٌ هذا الاّ ألقي بينهم العداوة والبغضاء ".

وتعمق هذا المفهوم في نفس الخليفة.

الأُمة مبتعدة عن الإسلام لا محالة.

والإسلام في ضمور وانسحاب تدريجي.

وانّه يمثّل الحلقة الأخيرة من حلقات الحكم الإسلامي.

وأصبح الخليفة الثاني شاعراً بضرورة التنازل لضغط الواقع.

مواجهة التيار أصبحت غير ممكنة والوقوف بوجه موجة التحلّل عديم النفع ولابد من حكم يقدّر ظروف وطبيعة المرحلة.

يعني; لابدّ من حكم أقل حديّة، وأقل التزاماً ببنود الشريعة، وأكثر تسامحاً مع هذا الإنحراف.

في سفره إلى الشام، رأى معاوية يتقلب في وجوه السرف والبذخ والأبهة، ويستشهد بحكم كسرى وقيصر.

فقال له: أكسروية يا معاوية؟!

والخليفة يعرف علياً، ويعرف منهج علي في الحكم.

كما كان يعرف عثمان، وميول عثمان، وطبيعة حكم عثمان.

انّ علياً لا يحكم بغير الرسالة، ولا يحيد عن طريقة القرآن والنبي (ص).

كان يقول لأصحابه:

" انكم لعمري لا تستخلفونه، والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحق وإن كرهتم ".

ولكن في فهم عمر انّ المرحلة قد تجاوزت هذا المنهج في الحكم، ولم يعد هو القادر على مواصلة التجربة بسلام.

من هنا كان يقول: " انكم لعمرى لا تستخلفوه... ".

أمّا عثمان فالخليفة يعرف ماضيه وحاضره، يعرف ظاهره وباطنه، انّ رواسب الماضي مستحكمة فيه، وعواطفه القبلية ما تزال حيّة ومهيمنة، وتعامله مع الرسالة ليس جديّاً.

كان يقول له:

" كأنّي بك قد قلدتك قريش هذا الأمر فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس ".

ثم انّ عمراً يعرف قريش في مزاجها، وفي عداءها لعلي.

انها لا ترضاه!

أمّا عثمان فهو منها، وإليها، ولا يعرف سواها.

كل تلك الأمور دعت الخليفة عمر للعدول عن استخلاف الإمام.

توجّسه من ناحية، وتحرك قوى الانتهاز من ناحية، وطبيعة فهمه للمرحلة من ناحية ثالثة.

ونحن هنا لا نريد أن نناقش هذا الفهم.

ففي رأينا أن تناقصات الحكم في عهد أبي بكر وعمر هي التي خلقت موجة التحلل والانفلات من قيم الدين.

فسياسة التفضيل في العطاء التي تبعها عمر هي التي خلقت الاستقراطية القرشية، وكان عمر نفسه قد شعر بهذا الخطأ حتّى كان يقول آخر أيامه: " لو بقيت لسوَّيت في العطاء ".

واهمال الجانب الروحي في سياسة الخليفتين، بينما التركيز على الحروب والفتوحات، هو الذي دعا إلى الركود في هذا الجانب، ومن ثمّ التراجع، وتفصيل الحديث في ذلك قد تقدّم منّا.

المهم الآن انّ الخليفة انصرف عن الخطّ الشيعي.

الشورى السداسيّة:

والمعلوم انّ عمراً جعل أمر الخلافة بعده إلى الشورى السداسيّة، التي اشترك فيها كل من "علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وطلحة، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص" بتعيين من عمر نفسه.

والغريب انّ بعض الكتاب يرى عمر رشَّح علياً للخلافة، رغم الصيغة التي وضعها في الشورى السداسيّة، وكان يريد للأمة أن تختاره من بين هؤلاء الستة ويستندون في ذلك إلى مقالة عمر في أبي عبيدة وسالم مولى حذيفة حيث قال: لو كان أبو عبيدة حياً لولّيته، ولو كان سالم حيّاً لولّيته ".

وهنا يقول الدكتور الوردي: " ان عمراً فيما أظن كان يقصد بتبيانه فضيلة أبي عبيدة، وسالم أن يستدرج الحاضرين لذكر علي وفضائله....

ويخيّل اليّ انّ هذا القول من عمر كان بمثابة ترشيح غير مباشر لعلي بن أبي طالب "(18)، لكن لماذا لا يذكر علياً بالصراحة ويرشحه للخلافة بوضوح دون حاجة إلى الاستدراج والدوران؟ وإذا كان مستعداً لتولية أبي عبيدة وسالم فلماذا لا يولِّ علي بن أبي طالب دون أن يجعلها في ستة أحدهم علي؟

ولماذا كان بالأمس القريب يذكر علياً، ويعزم على استخلافه، وها هو اليوم ينساه، وإنّما يتوسل لذكره بذكر أبي عبيدة وسالم كما زعم الدكتور الوردي؟ ولو كان يريد ترشيح علي لجعل الشورى بصيغة عادلة ومتكافئة، دون أن يجعل كفة علي هي المرجوحة، وينيط الكلمة الأخيرة برأي عبد الرحمن بن عوف المعروف ميله إلى عثمان.

حتّى انّ الإمام علي علّق على مجلس الشورى بالقول: " والله لقد ذهب الأمر منّا.

فقال العباس: وكيف قلت ذلك يا ابن اخي؟

فقال: انّ سعداً لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن نظير عثمان، وصهره، فأحدهما لا يخالف صاحبه محالة، وإن كان الزبير وطلحة معي فلن انتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.

لقد كان واضحاً انّ الصيغة التي وضعها عمر لمجلس الشورى لم تكن في صالح علي أبداً، بل لم يكن موقع علي فيها موقعاً متكافئاً مع موقع عثمان.

ومن هنا لاحظ كثير من الكتّاب انّ الخليفة مهّد لعثمان بالصيغة التي وضعها في الشورى.

ولعل هذا هو الذي يفسّر لنا تنبؤ عمر بولاية عثمان بعده، وعدم ولاية علي أمّا موقف الشيعة من هذه الشورى:

فقد اقترح العباس على الإمام أن لا يشترك فيها.

لكن علياً رفض هذا الإقتراح، لماذا؟

لأن أحداً من هؤلاء الستة ـ سوى علي ـ لا يستطيع أن يقف ضد جبهة عثمان. فسعدٌ وعبد الرحمن معه، وطلحة والزبير لئن لم يوافقاه فانهما سيختلفان بينهما، ولئن اتّفقا على احدهما فذلك لا ينفع بعدما كانا اثنين، وجبهة عثمان ثلاثة، وفيها عبد الرحمن.

وحينذاك فالأمر صائر إلى عثمان لا محالة.

ولا يوجد أي أمل في الرجوع إلى علي، إذ ستحسم المسألة بدونه وبكل بساطة. ومن سيعذر الامام؟

إنّ النقمة التي صبّت على عثمان ستصبّ على علي بالذات، لأنّه مهّد لعثمان يوم اعتزل الشورى، هكذا في فهم الناس، وهكذا هو الواقع لو اعتزل الإمام.

فالإمام إذن هو المسؤول، وهو الباب الذي دخل منه عثمان لمنصب الحكم، وكل الانحرافات، والجرائم، والتعدّيات، سيرى فيها علي، قبل أن يرى فيها عثمان نفسه، هكذا سيقول الناس.

وسيقول الناس بكلّ حرارة، لماذا يا علي؟

لماذا تركت الأمر لعثمان؟ وورطت الأمة بحكمه، وحكم الجهاز الأموي؟

لماذا تنصَّلت عن المسؤولية؟

لماذا لم تتناوش الحكم وأنت منه قريب؟ ومن سيعارضك لو دخلت مجلس الشورى؟

فأنت يا علي صنعت المأساة، وصنعت الإنحراف، وأعطيت للجهاز الأموي العثماني مفاتيح الأمة والرسالة.

ولا أحد يصدّق انّ عثمان سيحكم، دخل علي مجلس الشورى أو لم يدخل بأي برهان؟ وبأي دليل؟ لا أحد يقتنع في غمرة النقمة، والحماس، والتأثر.

وهناك يخسر علي وجوده في الناس، يخسر خطّه في الأمة، ولا يكون هو رمز المعارضة الرساليّة الهادفة، كما أراد أن يكون.

ثم: ماذا يفسّر الناس موقف الإمام؟

سيقولون: انّ علياً لا يريد الحكم، أو يقولون: انّه لا يعرف مداخل الحكم، ولا يملك موهبة الرجل السياسي.

وعلى كلا القولين يكون علي قد جرّ لنفسه خسارة، أيَّة خسارة! فالأمة تريد الرجل القائد ولا تريد الرجل الرهبان.

والأمة تريد الرجل السياسي لا الرجل البليد.

وعلي لو كان قائداً، وسياسياً لاشترك في مجلس الشورى! أمّا حيث اعتزل فهو رهبان لا رجل سياسة.

وسيسقط علي أيضاً.

على انّ الامام ـ وفي المقاييس الطبيعية ـ يجب أن يفكّر في النجاح لو دخل المجلس! ويأمل فيه ولو أملا ضعيفاً خافتاً. وهذا الأمل لا يجوز تضييعه، بعرف الرسالة، وعرف السياسة معاً.

وبهذا الأمل تحرّك الإمام وتحرّك الشيعة معاً.

أمّا الإمام فقد كان أخطر شيء عليه أن يجتمع عثمان وعبد الرحمن وسعد، وحينذاك سيكون الأمر لعثمان لأن عبد الرحمن معه، وكلمته هي الفصل في الصيغة التي جعلها عمر للشورى.

ثم هو آمن من جهة الزبير وطلحة، المجال مفتوح لكسبهما.

ومن هنا فقد سعى الإمام سريعاً لعزل سعد من جبهة عثمان. أتى إليه ومعه الحسن والحسين فقال له: " يا أبا اسحاق: انّي لا أسألك أن تدع حقّ ابن عمك بحقي، أو تؤثرني عليه فتبايعني وتدعه، لكن إنْ دعاك إلى أن تكون له ولعثمان ثالثاً فأنكر ذلك.

فقال سعد: لك ما سألت ".

كم رائعة هذه المبادرة من الإمام؟!

وكم رائعاً الأسلوب الذي جرى عليه الإمام، حتّى ملك فكر سعد وعواطفه معاً، فقال: لك ما سألت!

وتجاوز الإمام هذه الخطوة.

فجاء إلى عبد الرحمن بن عوف نفسه، فأحلفه على أن لا يميل إلى هوىً، وأن يؤثر الحق، وأن يجتهد للأمة، وأن لا يحابي ذا قرابة.

وحلف له عبد الرحمن.

ولو صدق في هذا الحلف لكان لا يحيد عن علي.

لكنه لم يكن ليؤثر الحق على العاطفة، والرسالة على الهوى، وأخيراً مال إلى عثمان.

أمّا سعد: فقد أتاه عبد الرحمن قائلا: هلمّ فلنجتمع.

فقال سعد: إن كنت إنما تريد الأمر لعثمان فعليّ أحقّ بالأمر، وأحبّ اليّ من عثمان.

وشاءت الأقدار، بل شاءت صيغة الشورى التي وضعها عمر، أن لا يرجع طلحة من سفره.

ومن هنا خسر عليّ.

انّ عبد الله بن سرح نادى في الناس: " أيها الملأ إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينهم فبايعوا عثماناً.

فقال عمّار: إن أردتم أن لا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا علياً...

ما أنت وهذا أيها المنافق؟

إنّ الله والناس يعلمون إنّك ما زلت تكيد للاسلام وتبغي له الشر ".

أمّا شيعة علي فقد نشطوا في ترجيح كفة الإمام أيّ نشاط.

لكنهم لا يملكون مهما بذلوا ومهما نشطوا أن يحبطوا تخطيطاً وضع لخدمة عثمان، وتمهيداً لحكم عثمان.

لكنهم تحرّكوا على أيّ حال بأمل الانتصار.

وكما تحرّك شيعة علي، تحرّك شيعة عثمان، وتحرّكت قوى الانتهاز كلّها اُنظروا:

أقبل المقداد والناس مجتمعون فقال: " أيها الناس اسمعوا ما أقول: أنا المقداد بن عمرو، وإنّكم إن بايعتم علياً سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا ".

فقام عبد الله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي فقال:

أيها الناس إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم علياً سمعنا وعصينا.

فقال له المقداد: يا عدوّ الله وعدوّ رسوله وعدوّ كتابه، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون؟!

فقال له عبد الله: يا ابن الحليف العسيف ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش ".

عجيب!! أمر قريش وحدها لا أمر الإسلام والمسلمين، فكأنّما الدولة دولة قريش.


1- أعيان الشيعة، 20: 276 نقلا عن شرح النهج.

2- الشيخان، طه حسين: 25.
3- المراجعات: 292.
4- نهج البلاغة، 2 / 103، الخطبة 167.
5- ابن سبأ: 63 ـ 64.

6- اُنظر الصفحة: 39.

7- اليمين واليسار: 75 ـ 76.
8- ابن سبأ: 85، نقلا عن المسعودي، مروج الذهب، 2 / 60.

9- ابن سبأ: 86 عن الطبري وابن عساكر.

10- الشيخان: 48.
11- مناقب الخوارزمي: 98.

12- فضائل الخمسة: 227 نقلا عن مصادر أخرى
13 - ابن سبأ: 145.

14- فضائل الخمسة: 2 / 111.
15- فضائل الخمسة: 2.

16- سلمان الفارسي: 51.
17- شخصيات قلقة: 29.
18- وعاظ السلاطين: 199 ـ 200.