مسجد خطوة الإمام علي (عليه السلام) في البصرة

وصل الإمام علي (عليه السلام) إلى البصرة من ذي قار وبعد أن هزم أصحاب الجمل توجه الإمام (عليه السلام) إلى أهل البصرة معاتباً لهم عن خذلان واليه وكان محل خطابه لهم في مسجدها الجامع.

كان هذا المسجد الثاني الذي بني في الإسلام بعد المسجد النبوي وحيث تم بناءه سنة 14 هـ بعد فتح المدينة على يد القائد عبة بن غزوان والذي بناه بالقصب، ويروي إن الذي قام بعملية البناء أما محجر بن الأدرع من قبيلة سليم، أو نافع بن الحارث بن كلدة. وبعد بناءه تحولت حوله المساكن والخطط.

وبعد سنة 17 هـ احترقت البصرة وربما شمل الحريق المسجد أيضاً، فأعاد بناءه الوالي أبو موسى الأشعري باللبن والطين، وسقفه بالعشب وزاد في مساحته.

ولما تولى زياد بن أبيه ولاية البصرة لمعاوية بن أبي سفيان اتخذ عدة إجراءات في اعمار المسجد، حيث وسع مساحته وأعاد بناءه بالآجر والجص أما سقفه فمن الساج.

واتخذ له أعمدة من حجر نحتها من جبال الأحواز.

ويقال: لما أعاد زياد بناء المسجد ودار الأمارة أخذ يطوف حولها ويقول: أترون خللاً؟ فيقولون: ما نعلم ببناء احكم منه. فقال: بلى هذه التي على كل واحد منا أربعة عقود لو كانت أغلظ من سائر الأساطين وقد ظلت هذه الأساطين سالمة قوية لم تتصدع أو يصيبها عيب حتّى قال فيها الشاعر:

                                         بنى زياد لـذكــــر الله مصنعــة      من الحجار لم تعمل من الطين

                                        لولا تعاون أيدي الأناس ترفعها      إذا لقلنا من أعمال الشــياطين

وجعل زياد صفة الجامع المقدمة خمس سواري، وبنى منارته بالحجارة وهو أول من عمل المقصورة، ونقل الأمارة إلى قبلة المسجد.

وقال: إن زياد رأى الناس ينفضون أيديهم إذا تربت وهم في الصلاة.

فقال: لا اَمن أن يضن الناس على طوال الأيام إن تفض الأيدي في الصلاة سنة، فأمر بجمع الحصى وإلقاءه في المسجد.

بقي هذا المسجد أثراً تاريخياً شاخصاً، وأخذ يعرف باسم (خطوة الإمام علي (عليه السلام) أو جامع الإمام علي (عليه السلام) والسبب في ذلك يعود لزيارة الإمام (عليه السلام)  له أيام خلافته سنة 36 هـ . وإلقائه عدد من الخطب في هذا المسجد ومن بينها تنبؤاته لمصير هذه المدينة ومسجدها حيث قال: كأني أنظر إلى تربتكم هذه قد طبقها الماء حتّى ما ير منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر.

وفي رواية (كجؤجؤ سفينة) قال ابن أبي الحديد في تعليقه على كلام الإمام أعلاه: (فأما أخباره (عليه السلام) إن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر إن كتب الملاحم تدل على إن البصرة تهلك بالماء الأسود يتفجر من أرضها فتغرق ويبقى مسجدها، والصحيح إن المخبر به قد وقع، فإن البصرة قد غرقت مرتين. مرة في أيام القادر بالله، ومرة في أيام القائم بأمر الله، غرقت بأجمعها ولم يبقى منها إلّا مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف ألآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام، وخرجت دورها وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها، وأخبار هذين الغرقين المعروفة عند أهل البصرة يتناقلها خلفهم من سلفهم)(1).

ولما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام)  من حرب الجمل خطب الناس بالبصرة فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: يا أهل البصرة! أهل البصرة! يا أهل المؤتفكة أتفكت بأهلها ثلاثا وعلى الله تمام الرابعة! يا جند المرأة وأعوان البهيمة، رغا فأجبتم، وعقر فانهزمتم أخلاكم دقاقن ودينكم نفاق وماؤكم زعاق بلادكم أنتن بلاد الله تربة، وابعدها من السماء، بها تسعة أعشار الشر، المحتبس فيها بذنبهن والخارج منها بعفو الله، كأني أنظر إلى قريتكم هذه وقد طبقها الماء حتّى ما يرى منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر(2).

كان الإمام إذا جاء للصلاة يتخطى الناس إلى القبلة، فأمر زياد بتحويل دار الأمارة من الدهناء إلى قبلة المسجد فكان الإمام يخرج من الباب في حائط القبلة. وهذا يعني إن البناء القديم ظل على حاله وان  دار الامارة ملاصقة للجامع من جهة القبلة أي الجنوب الغربي وكان بينهما وبين الجامع باب يخرج منه الأمير إلى المسجد مباشرة دون أن يتخطى المصلين. ولما تولى عبيد الله بن زياد البصرة بعد أبيه قام بشراء دار نافع بن الحارث بن كلدة وكانت شمال المسجد لغرض إكمال تربيع المسجد وأرضى ابنه عبيد الله بن نافع بأن عوضه قبل ذراع خمسة أذرع وفتح له في الحائط خوخه إلى المسجد فلم تزل الخوخة في حائطه حتّى عصر المهدي العباسي.

وكان أكبر توسيع للمسجد في ولاية محمد بن سليمان بن علي العباسي سنة 160 هـ أيام الخليفة العباسي المهدي حيث بلغ عدد المصلين عشرين ألفاً فأمر المهدي بتوسيع المسجد وذلك بشراء بعض الدور المحيطة به.

 

ذكر المؤرخ – ابن الفوطي – إن مسجد البصرة احترق سنة 624 هـ / 1227م فقام الأمير شمس الدين بإعادة عمارته واحضر الحجارة من جبل الأهواز، وجلب له خشب الصنوبر والساج من البحر، وأسكن فيه جماعة من الصوفية، وبُني دهليزاً للجامع بحجرتين جعل في أحداهما كتباً.

وبعد مجيء المغول في 656 هـ / 1258م توالت الفتن والحروب في البصرة نتيجة سوء تصرف عمال المغول فيها، وهجمات الإعراب البدو على البصرة، فاضطر أهلها إلى النزوح لأماكن أخرى حتّى سنة 701 هـ تم خراب البصرة نهائياً، ولم تعد مدينة يمكن أن نجد عنها أخبار فيها يتعلق بأحوالها، وأخذت تعرف بإسم البصرة القديمة، وظهرت مدينة أخرى سميت بالبصرة كانت سابقاً متنزهاً ومصيفاً للولاة والوجهاء في العصر العباس، فابتنيت فيها الدور والقصور والمنازل وازداد عمرانها، وأخذ من البصرة القديمة التحول اليها. فأخذت تسمى البصرة الحديثة تميزاً لها عن البصرة القديمة.

كان للمسجد مهام في الإسلام مهام متعددة منها: إقامة الصلاة وكونه مقراً للحكومة وفيه يتم توزيع العطاء، ويجري القضاء بين المتخاصمين، كما يعتبر مدرسة للتعليم.

ويكتسب الجامع أهمية دينية كبيرة عند المسلمين حيث يقصدونه في بعض المناسبات الدينية، لذا تنامت الحركة الثقافية في مسجد البصرة بعد زيارة الإمام علي (عليه السلام) للبصرة سنة 36 هـ ، حيث ألقى عدد من الخطب في هذا المسجد، ثم عين على البصرة عبد الله بن عباس المعروف بفقهه حيث أخذ يلقي دروس في الفقه والتفسير والأخبار في مسجد البصرة.

حيث تخرج على يديه كبار التابعين كالحسن البصري، وتشكلت نواة مدارس في الفقه والتفسير والأخبار والكلام وبالإضافة لحلقات الدرس كانت تعقد مناظرات وأدت بعض من هذه المناظرات لإيجاد اتجاهات فكرية جديدة كالمناظرة بين الحسن البصري وتلميذه واصل بن عطاء والتي أدت إلى نشوء مذهب الاعتزال والمناظرة التي بين أبي علي الجيائي زعيم المعتزلة وبين تلميذه ابو الحسن الأشعري والتي أدت لنشوء مذهب الأشاعرة في علم الكلام .

وبجانب هذه الحلقات كانت حلقة أبا عمر العلاء والخليل الفراهيدي الذي وصف بأنه مفتاح العلوم ومعرفتها ويونس بين حبيب أما الأصمعي فكانت حلقته في اللغة والأخبار.

استمر هذا المسجد كجامعة مصغرة يستقبل طلبة العلم من مختلف أرجاء العالم الإسلامي حتّى نشأ من بعضهم أساطين من اختصاصات مختلفة فيعودوا إلى بلادهم، وما زال الحال حتّى مجيء المغول فلحق مدينة البصرة من الدمار والخراب بسبب الفتن وانعدام الأمن ممّا ادى لهجرانها إلى ما يسمى بالبصرة الحديثة (3).

أما السور الحالي للمسجد فقد قام ببنائه الحاج جبار أبو ستار والشيخ محمد الممطوري، وبلغ طوله (225م) وعرضه (165م)، وهو خارج حدود المسجد الأصلي ب(15 م تقريباً) حفاظاً على الأثر القليل المتبقي من بقايا سور الجامع الأصلي القديم (4).


(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة ج1 ص 253.

(2) بحار الأنوار: ج57 ص 224، شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني: ج1 ص289 – 290 الخطبة 13.

(3) من بحث للأستاذ جواد كاظم النصر الله.

(4) ظ: مجلة ينابيع ع27، تحقيق قام به الأستاذ حيدر الجد حول الجامع ووصفه وصفاً مسهباً.